الدول الغربية ترفض استعادة مواطنـيها «الدواعش»
لم يكن هناك أي طريق للخروج، فبعد أشهر من الحصار في مدينة الرقة السورية قرر عضو تنظيم «داعش»، البلجيكي بلال المرشوحي، الهرب، فترك موقعه كشرطي ديني عند بزوغ الفجر في 29 أغسطس 2017، وهرب مع زوجته وابنه إلى نقطة تفتيش كردية، على أمل العودة إلى بلده بلجيكا، وفي الحال تم فصل أفراد العائلة عن بعضهم بعضاً، حيث نقلت زوجته وطفله إلى أقرب معسكر لأقارب مسلحي «داعش»، وتم إيداع بلال مع آخرين من «الدواعش» سجناً بالقرب من مدينة الطبقة السورية، حيث تم التحقيق معه من قبل مسؤولين أميركيين عن دوره في التنظيم ومن هم أقرب رفاقه إليه وعن صناعة الأسلحة أيضاً. وأبلغهم الشاب البالغ عمره 23 عاماً أنه اعتاد حضور صلاة الجمعة في مسجد «دو كويبل» في أنتويرب في بلجيكا، وأن إمام هذا المسجد انتهى به الأمر إلى القتال في سورية. وانتظر المرشوحي حتى بلغ عمره 18 عاماً وعبر تركيا إلى سورية مع صديقته ومعارف آخرين، وانضم بداية إلى جبهة النصرة ومن ثم إلى تنظيم «داعش».
وقام الجنود الأميركيون بنقل بلال إلى عين العرب (كوباني) في شمال سورية ومن هناك إلى أربيل في كردستان العراق بواسطة مروحية، ويقول بلال متذكراً لـ«فورين بوليسي» في مقابلة حصرية «كنت وحيداً هناك، فقد بقيت لمدة شهرين وكدت أصاب بالجنون، لقد كان الأمر صعباً جداً، ولم أتمكن من النوم بسبب الأضواء الساطعة». وكان هذا الشاب البلجيكي أحد أول «الدواعش» الذين نقلهم الجيش الأميركي من سورية إلى العراق بعد تحرير مدينة الرقة، إضافة إلى ثلاثة آخرين تم تسليمهم إلى الجهات القضائية العراقية، الأمر الذي يعتبر انتهاكاً للقانون الدولي. وقال المرشوحي مشيراً إلى عملاء من المخابرات البلجيكية «لقد التقيت مع بلجيكيين هناك وتعاونت معهم، وأبلغوني أنهم سيأخذونني إلى الحكومة المحلية الآن، وسأنتظر القاضي وربما يأخذونني إلى بلجيكا، وربما لا». لكن المرشوحي لم يرجع إلى وطنه، وبدلاً من ذلك تم نقله إلى العراق حيث تعرض لجولة صعبة جداً من التحقيق.
الحكومات الغربية تتعامل مع «العائدين» كقضية سياسية
ترفض الحكومات الغربية تسهيل إعادة مواطنيها الذين انخرطوا مع «داعش»، وبعد التحاق نحو 5000 مواطن أوروبي مع «داعش» يبدو أن حكومات هؤلاء الموطنين لا ترغب في التعامل مع ملفات العائدين منهم. وقال الباحث العراقي هشام الهاشمي «باستثناء ألمانيا، تبدو جميع الدول الأوروبية غير مهتمة بإعادة مواطنيها المتهمين بالانخراط مع داعش».
ويبدو أن القضية سياسية أكثر من أي شيء آخر، فالبرلمانيون لا يتجرؤون على تحدي الرأي العام في بلادهم، ففي فرنسا 89% من الذين شملهم استطلاع أجرته شركة «أودوكس» الفرنسية رفضوا عودة البالغين الذين انضموا إلى «داعش»، في حين رفض 67% من الذين شملهم الاستطلاع ذاته عودة الأطفال. ويبدو أن قضية عودة هؤلاء المقاتلين الذين حاربوا مع «داعش» تحتاج إلى إجماع دول الاتحاد الأوروبي من وجهة النظر الأمنية، وإذا دخل أحد هؤلاء العائدين من سورية إلى منطقة شنغن، فإن جميع الدول المشاركة في الاتفاقية ستكون تحت الخطر نظراً لحرية الحركة ضمن هذه الدول، فإذا عاد أحد هؤلاء إلى بلجيكا فيمكنه أن يرتكب أعمالاً إرهابية في إسبانيا.
وفي الواقع فإن عودة هؤلاء «الدواعش» السابقين تكشف عن ضعف قضائي في هذه الدول، فقلة الأدلة يمكن أن تؤدي إلى سجنهم فترات قصيرة ومن ثم يخرجون إلى الحياة الطبيعية، وإذا قام أحد هؤلاء الإرهابيين بارتكاب أي هجوم بعد خروجه من السجن فسيواجه الحزب السياسي الذي وافق على عودته عواقب وخيمة.
وأصبح المرشوحي بيدق شطرنج في مباراة الشطرنج السياسية الدولية، حيث رفضته دولته وخضع للنظام القضائي لدولة أخرى لم يعش فيها أصلاً، وادعى أن مسؤولين عراقيين قاموا بفبركة اعترافاته ليظهروا أنه يمكن محاكمته في ظل النظام القضائي العراقي. وقال المرشوحي «كتبوا أنه تم اعتقالي في الموصل وأجبرت على أن أضع بصمتي على الاعتراف على الرغم من أنني سلمت نفسي في الرقة».
وبعد مرور عام على ذلك حضر المرشوحي أول جلسة محاكمة له في محكمة الرصافة في بغداد، وأمام ثلاثة قضاة وقف الشاب البلجيكي في قفص الاتهام وعينت له المحاكمة محامي دفاع لم يسمح له بالتواصل معه قبل المحاكمة. وخلال الجلسة الثالثة وأمام مسؤولين من القنصلية البلجيكية الذين حضروا الجلسة تم الحكم على المرشوحي بالإعدام شنقاً لأنه ينتمي إلى منظمة إرهابية، إضافة إلى تورطه في الحرب ضد القوات العراقية في الموصل.
وفي وقت لاحق نشرت المحكمة العليا في العراق اقتباساً مزعوماً لأبوفضل البلجيكي (وهو اللقب الذي يحمله المرشوحي) على لسان المرشوحي يقول: «لقد قاتلنا في معركة شرسة مع القوات العراقية في الموصل، وعندما بدأ الجيش بالتقدم وسيطر على معظم المنطقة هربت نحو سورية، ولكن لم أتمكن من النجاة وتم اعتقالي داخل الأراضي العراقية».
ولكن ثمة أدلة تناقض هذا الاعتراف، فعندما تم التحقيق مع المرشوحي في سورية، تم جمع المعلومات بموجب برنامج خاص بالجيش الأميركي، الذي يجمع المعلومات والأدلة عن المقاتلين الإرهابيين الأجانب من أجل مهمات دولية هناك، وتم أخذ بصمات أصابع المرشوحي في حين قام أحد العاملين في الجيش الأميركي بأخذ صورة له وهو يبدو في حالة إعياء شديد. وكان الملف الذي يحمل المعلومات المتعلقة به يذكر مكان اعتقاله في الرقة بسورية، ولم يذكر العراق لا من بعيد ولا من قريب.
ولم يكن المرشوحي أول «داعشي» أوروبي يحكم عليه بالإعدام في العراق، فقد تلقى البلجيكي طارق جدعون الحكم نفسه قبل عام، الأمر ذاته الذي حدث مع 11 «داعشياً» فرنسياً تم نقلهم من سورية في يناير 2019. وواجهت الألمانية الجنسية لمياء كاي المصير ذاته حتى تدخل مسؤولون من برلين رافضين بصورة مطلقة عقوبة الإعدام، وبعد عملية الاستئناف تم تخفيف عقوبتها إلى 20 سنة سجناً، ولم يتم إعدام أي شخص منهم حتى الآن.
ويدعي المسؤولون البلجيكيون، مثل نظرائهم من الدول الغربية الأخرى، أنهم سيمارسون الضغوط عبر الأقنية الدبلوماسية ضد تنفيذ عقوبة الإعدام ضد المرشوحي، إذا كانت ستنفذ به بعد طلب الاستئناف. وقالت نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية البلجيكية ناديا بينيني «نحن نرفض دائماً عقوبة الإعدام».
بيلار سيبريان صحافية استقصائية مقرها إسطنبول
تباين في تعامل الدول الأوروبية مع الراغبين في العودة
تتعامل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مع من يريدون العودة إلى ديارهم بعد هزيمة «داعش»، بأشكال مختلفة، فالمملكة المتحدة نزعت عنهم الجنسية، الأمر الذي حدث مع شميما بيغوم، وهي مراهقة من بريطانيا سافرت إلى سورية وهي في سن 15 عاماً. وبموجب قانون الجنسية البريطانية الصادر عام 1981 الذي تم تعديله عام 2006، يمكن حرمان أي شخص من الجنسية إذا كان ذلك «من أجل المصلحة العامة»، وإذا كان الشخص المقصود يمكنه الحصول على جنسية أخرى. لقد عمدت المملكة المتحدة إلى تجريد شميما من الجنسية، الأمر الذي اعتبر مخالفاً للقوانين الدولية، لأنها لم تفكر يوماً في امتلاك جواز سفر والديها القادمين من بنغلاديش. وقال مدير مكافحة الإرهاب في جهاز المخابرات البريطاني الخارجي «إم أي 6» ريتشارد باريت: «إن بريطانيا لا تفكر حتى في استعادة الأطفال»، فهم يرفضون الجميع.
وأما فرنسا وبريطانيا فتدرسان كل حالة على حدة، وقامت الدولتان باستعادة 21 طفلاً حتى الآن، بعضهم كانوا أيتاماً، منذ سقوط تنظيم «داعش»، ولكن عودة البالغين لاتزال أمراً غير وارد. وأشار محامون في العراق إلى أن ثمة تدخلات دبلوماسية في العملية القضائية، وفق ما كانت عليه الحال في قضية الفرنسية ميلينيا بوغدير، التي قال محاميها ناصر الدين مدلول: «إن السفير الفرنسي في العراق التقى مع رئيس المحكمة العليا»، وكانت عقوبتها السجن المؤبد.
وإضافة إلى ذلك، فإن ألمانيا، التي قبلت أخيراً استعادة أربعة أطفال، تقول إنه ليس هناك استراتيجية محددة لاستعادة مواطنيها الذين انخرطوا مع «داعش». وقال مسؤول دبلوماسي ألماني: «نحن ندرس كل حالة على حدة». وبات هذا الموضوع مثار خلاف في الائتلاف الدولي الذي حارب تنظيم «داعش»، فقد مارست الولايات المتحدة ضغوطاً كبيرة على دول الاتحاد الأوروبي لاستعادة مواطنيها. وقال العقيد الأميركي شين رايان، المتحدث باسم الائتلاف الدولي: «لانزال نحاول دفع الدول الأوروبية إلى استعادة مواطنيها الذين حاربوا مع (داعش)».
آلية تحايل على الفراغ القضائي
في الحقيقة تم نقل الإرهابيين من سورية إلى العراق، كآلية للتحايل على الفراغ القضائي الموجود في شمال سورية، وبالنظر إلى أن السلطة التي يقودها الأكراد في شمال سورية، والتي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، غير معترف بها دبلوماسياً من جميع دول العالم، فإن المحاكم الكردية لا يمكنها مقاضاة المحاربين الأجانب في صفوف «داعش»، وإضافة إلى ذلك، فإن الحكومات الأوروبية تخشى أن إيداع هؤلاء (الدواعش) في سجن تابع لمنطقة غير مستقرة أمنياً يمثل مخاطرة كبيرة لاحتمال هروبهم من السجن في أي لحظة، كما حدث في سجن «ديريك» الواقع بين الحدود العراقية والسورية.
وكانت أشهر عملية نقل لإرهابيي «داعش» قد تمت في يناير الماضي عندما تم نقل 11 إرهابياً فرنسياً إلى العراق، وتحدث عن الأمر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال زيارة الرئيس العراقي براهام صالح لباريس. وتنصل ماكرون من الموضوع، وقال إن الأمر راجع إلى العراق، فقد تم اعتقالهم خلال قيامه بعمليات ضد الجيش العراقي.
ويتميز الأجانب الذين قاتلوا مع «داعش» والذين تم نقلهم من سورية إلى سجون العراق بملفات شخصية متنوعة إلى حد كبير. أحد هؤلاء لحسن غبوج، (59 عاماً)، وهو رجل فرنسي قال إنه جاء إلى الرقة بحثاً عن ابنه، ولكنه يقضي عقوبة السجن مدى الحياة. وشهدت بلجيكا تجنيد أعداد كبيرة من مواطنيها في تنظيم «داعش» بحيث إنها أصبحت في المرتبة الأولى مصدراً للمشاركين في تنظم «داعش» بأوروبا نسبة لتعداد سكانها. وسافر نحو 413 بلجيكياً إلى العراق وسورية عاد منهم 125 حتى الآن، ويبدو أن برامج تخفيف التطرف غير فاعلة غالباً، لأن حضورها غير إلزامي، كما أنها لا تخفف شيئاً من العقوبة المفروضة على المقاتلين. والبرامج الوحيدة التي أعطت نتيجة جيدة حتى الآن هي التي يقدمها الأئمة الذين يدرسون الاعتدال عن طريق الحض على التخلص من أيديولوجية التطرف، كما يفعل الإمام أحمد زرداو في مسجد أنتورب.
«دواعش» بلجيكا في الطليعة بين الدول الأوروبية
يشير تاريخ تنظيم «داعش» إلى أن المنخرطين فيه من بلجيكا هم في الطليعة من بين الدول الأوروبية، فقد أدخلوا تقنيات متقدمة في ميادين المعركة حيث استخدموا الطائرات بدون طيار، والصواريخ المضادة للطائرات المزودة بآلية الاستشعار بالحرارة، حتى إن المقاتلين البلجيكيين أنشأوا نقطة تفتيش خاصة بهم، حيث أجبروا السكان المحليين على دفع ضرائب مرتفعة، ولكن جرائمهم لا يجب أن تحرمهم من جنسيتهم البلجيكية، كما أن حبسهم في سجون خارج بلادهم يشكل خطراً أمنياً أيضاً.
وهناك قضية البلجيكي أسامة عطار، التي تؤكد أن حبس هؤلاء البلجيكيين في سجون دولة أخرى يجعلهم أكثر عرضة للأيديولوجيات المتطرفة الأخرى، حيث يكون تلقينهم الأفكار المتطرفة أكثر سهولة هناك، فأسامة قاتل في صفوف تنظيم «القاعدة» منذ عام 2004 في العراق، إلى أن وضع في سجن الرمادي بعد عام واحد على ذلك، ومن ثم في أبوغريب، حيث بقي سبع سنوات قضاها مع أبوبكر البغدادي، الذي أسس في ما بعد تنظيم «داعش». ويبدو أنه خلال هذه الفترة ازداد تطرفاً وأصبح أكثر مهنية في الإرهاب، إذ إنه كان العقل المدبر للعمليات الإرهابية التي ضربت باريس في نوفمبر 2015 وهجمات بروكسل عام 2016 التي نجم عنهما مقتل 130 للأول و32 للثاني، وفق ما ذكرته المخابرات الفرنسية. ولو أن عطار دخل سجون بلجيكا، لما سنحت له الفرص لقضاء عشرات الساعات مع الإرهابيين، ولما تعلم كل هذا التشدد والقتل.