تزايد مخاوف العراقيين من تحوّل بلدهم إلى ميدان صراع بين أميركا وإيران
يمتلك العراقيون غريزة متطورة في التعامل مع الخطر خصوصاً بعد تجربة مريرة دامت نحو أربعة عقود من الأزمات و الحروب، وقبل ثلاثة أشهر سألت إحدى الصديقات في بغداد كيف ترى وأصدقاؤها المستقبل؟ فقالت إن المزاج العام بين العراقيين الذين تعرفهم كان كئيباً، إذ إنهم يعتقدون أن الحرب المقبلة بين الولايات المتحدة وإيران ربما ستقع في العراق. وأضافت: «العديد من أصدقائي يشعرون بالتوتر حول الحرب بين إيران والولايات المتحدة الى درجة أنهم يستخدمون تعويضات نهاية الخدمة عندما يتركون العمل في الحكومة لشراء منازل في تركيا»، وكانت تفكر في القيام بالأمر ذاته هي أيضاً.
وأثبتت الأحداث أن أصدقائي العراقيين محقين تماماً في توقعاتهم الكئيبة، إذ إن مقتل اللواء الإيراني قاسم سليماني من قبل طائرة بلا طيار أميركية في بغداد يعتبر عملاً تصعيدياً من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الأمر الذي يؤكد أن العراق يواجه مستقبلاً عنيفاً، وربما لن يؤدي هذا الأمر إلى حرب شاملة، لكن العراق سيكون الميدان السياسي والعسكري الذي ستتصارع فيه إيران والولايات المتحدة، وربما لا يقوم الإيرانيون وحلفاؤهم العراقيون بتنفيذ أي أعمال انتقامية في الوقت الحالي ضد الولايات المتحدة، ولكن العمل الأكثر أهمية الذي سيقومون به هو الضغط على الحكومة العراقية والبرلمان والقوى الأمنية من أجل إخراج الولايات المتحدة كلياً من العراق.
ومنذ الإطاحة بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين، كان لإيران قصب السبق في أي تنافس حول النفوذ في العراق، والسبب الرئيس لذلك هو الطائفة الشيعية في العراق التي تعادل ثلثي السكان، والتي تتمتع بسيطرة سياسية واسعة، والتي تحالفت مع شيعة إيران للحصول على دعمهم ضد أعدائهم. وللمفارقة فإن النفوذ والشعبية الإيرانية تضررا بصورة كبيرة نتيجة إشراف الجنرال سليماني على الجهود الوحشية التي تقوم بها القوات الأمنية المؤيدة لإيران ومجموعات الميليشيات لسحق التظاهرات في الشوارع العراقية، ما أدى إلى مقتل نحو 400 متظاهر وإصابة نحو 15 ألفاً آخرين بجروح.
ويمكن أن يعادل الغضب الشعبي العراقي المتصاعد الآن ضد إيران لتدخلها في الشؤون الداخلية العراقية؛ الهجوم الصارخ على السيادة الوطنية الذي نفذته الولايات المتحدة. ومن الصعب التفكير الآن في عمل يعتبر تدخل دولة أجنبية أكبر من قتل جنرال أجنبي كان في العراق صراحة وبصورة قانونية، وقتل أيضاً بالقصف ذاته قائد ميليشيا «كتائب حزب الله»، أبومهدي المهندس، وهي مجموعة قوية مؤيدة لإيران. وربما تعتبر الولايات المتحدة قادة الميليشيات أمثاله أشراراً وإرهابيين، لكن بالنسبة للعديد من شيعة العراق فإنهم أبطال حاربوا ضد الرئيس صدام حسين وقاتلوا ضد تنظيم «داعش».
وبينما كنت أتحدث إلى صديقتي المتشائمة في بغداد نهاية سبتمبر الماضي، في تلك الأيام التي اتضح أنها آخر الأيام التي يمكن اعتبارها سلمية قبل عودة العنف إلى العراق، أجريت العديد من المقابلات مع العديد من قادة الميليشيات من الحشد الشعبي، وهي القوات الشعبية التي تم حشدها، والتي تدعي أن الولايات المتحدة وإسرائيل تصعد الهجمات ضدهم داخل الدولة، ولكني أرى أن الادعاء أقرب ما يكون إلى جنون العظمة.
وتحدثت مع أبوآلاء الولائي قائد ميليشيا «كتائب سيد الشهداء»، وهي مجموعة منشقة عن كتائب حزب الله، والتي تم تدمير أحد معسكراتها نتيجة هجوم قامت به طائرة بدون طيار في شهر أغسطس الماضي. وقال الولائي إن نحو 50 طناً من الأسلحة والذخيرة تم تفجيرها نتيجة أعمال قامت بها إسرائيل بالتنسيق مع الولايات المتحدة. وعندما سألته عما إذا كان رجاله يمكن أن يهاجموا القوات الأميركية في العراق في حال وقوع حرب بين إيران والولايات المتحدة، قال «بالتأكيد نعم». وفي وقت لاحق زرت معسكر المجموعة، ويطلق عليه اسم «الصقر» ويقع على أطراف بغداد، وكان انفجار ضخم أدى إلى تدمير الحظائر ونثر محتوياتها في المعسكر، إضافة إلى قطع المعدات الأخرى المدمرة. وشاهدت العديد من قادة الميليشيات المؤيدة لإيران في الوقت ذاته، وحصلت على انطباع مفاده أنهم لا يتوقعون حدوث حرب بين الولايات المتحدة وإيران. وقال لي زعيم ميليشيا «عصائب أهل الحق» قيس الخزعلي، إنه لا يعتقد أنه ستحدث الحرب «لأن ترامب لا يريدها»، وكدليل على ذلك أشار إلى فشل ترامب في الانتقام بعد سقوط طائرة بدون طيار أميركية من قبل إيران.
وفي الواقع، فإن الأحداث تطورت بصورة مختلفة عما توقعته أنا وقادة الميليشيات، فبعد بضعة أيام من لقائي معهم، حدثت تظاهرة صغيرة في وسط بغداد تطالب بتوفير فرص عمل، وخدمات عامة، وإنهاء حالة الفساد المستشري في البلاد، وقامت القوات الأمنية والميليشيات المؤيدة لإيران بفتح النيران على المتظاهرين ما أدى الى مقتل العديد من المتظاهرين السلميين. وعلى الرغم من أن قيس الخزعلي ادعى في ما بعد أنه وقادة الحشد الشعبي الآخرين كانوا يحاولون إحباط مؤامرة إسرائيلية أميركية، فإنه لم يقل لي شيئاً عن ذلك، ومن المرجح أن الجنرال سليماني اعتقد أن هذه التظاهرات البسيطة يمكن أن تشكل تهديداً حقيقياً، وأمر قادة الحشد الشعبي المؤيدين لإيران بفتح النيران عليها ووضع خطة لقمع المتظاهرين.
وكان كل هذا يمكن أن يكون كارثياً بالنسبة لنفوذ إيران في العراق، وارتكب سليماني الخطأ التقليدي لجنرال ناجح عندما تخيل أن قمع هذه التظاهرة البسيطة يمكن أن يقمع أي مؤشرات إلى السخط الشعبي، وأحياناً يمكن لذلك أن ينجح ولكن غالباً ما يكون غير ذلك، واتضح أن العراق من الفئة الثانية.
لقد قتل الجنرال سليماني في أعقاب أكبر فشل وسوء تقدير ارتكبهما، ولكن طريقة قتله يمكن أن تقنع العديد من شيعة العراق بأن تهديد استقلال العراق من قبل الولايات المتحدة أعظم من تهديد إيران. وستخبرنا الأيام القليلة المقبلة ما إذا كانت حركة التظاهرات التي تحملت بشجاعة العنف الذي استخدم لقمعها يمكن أن تنكمش نتيجة عمليات القتل التي حدثت في مطار بغداد.
باتريك كوكبيرن صحافي بريطاني مقيم مؤلف كتاب «ظهور تنظيم داعش»
أخطاء
يُقال إن الحرب يكسبها الجنرالات الذين يرتكبون أقل الأخطاء، لكن الجنرال قاسم سليماني ارتكب خطأ سيئاً خلال الأشهر الثلاثة الماضية عندما حول تظاهرة صغيرة إلى ما يشبه انتفاضة شعبية، وربما ارتكب ترامب خطأ أكثر سوءاً بقتله الجنرال سليماني، وجعل العراق الذي تتمتع فيه إيران بمصالح أكبر من أميركا يبدو كميدان تتصارع فيه الدولتان. وأنا أستطيع أن أفهم الآن أن صديقتي في بغداد ربما كانت على حق قبل ثلاثة أشهر عندما أشارت إلى أن التقاعد في تركيا ربما يكون الخيار الأمثل.
يعادل الغضب الشعبي العراقي ضد إيران لتدخلها في الشؤون الداخلية العراقية؛ الهجوم على السيادة الذي نفذته أميركا.
عراقيون يستخدمون تعويضات نهاية الخدمة عندما يتركون العمل في الحكومة لشراء منازل خارج بلادهم.