إيران تتعمد التضليل والتستر على الحقائق أمام شعبها والعالم
عندما كان المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجمعة الماضية في مسجد طهران الكبير للمرة الأولى منذ ثماني سنوات، وصف حادثة سقوط الطائرة الأوكرانية بـ«الحادث المرير»، وأن الأعداء الخارجيين يستغلونه كمبرر من أجل تشويه سمعة إيران. ولكن التهديد الحقيقي للنظام الذي أمضى عقوداً عدة لتثبيت حكمه، هو سخط الشعب الإيراني، وسواء كانت حادثة الطائرة المنكوبة في الثامن من يناير، أو ما تبعها من التستر على دور إيران فيها، فإن كل ذلك يصب في قلب المظالم التي تثير غضب الإيرانيين وتنفرهم من حكومتهم.
وفي الوقت الذي يكشف فيه تحطم الطائرة الأوكرانية خبث الحكومة واستخفافها بمواطنيها، فإن قمعها من دون هوادة للتظاهرات التي نجمت عن تحطم الطائرة، يؤكد أنها لن تتأثر بأي محاسبة ذات معنى.
وبعد عقود من العقوبات الدولية التي أعاقت قدرة إيران على شراء طائرات جديدة والحصول على قطع غيار لها، أصبح أسطول الدولة من الطيران المدني قديماً ويتسم بسمعة سيئة وعرضة للكوارث، إلى درجة أن التقارير القديمة تقول إن مشكلات محركات الطائرات باتت أمراً عادياً بالنسبة للأشخاص المعتادين على خطورة الطيران المدني، ولكن التفسيرات الأولية لسقوط الطائرة الأوكرانية كانت مجموعة من الادعاءات الكاذبة، وفي الحقيقة فإن سقوط هذه الطائرة تم على أيدي الدفاعات الجوية الإيرانية ذاتها.
وخلال عملية الانتقام من الولايات المتحدة على الضربة الجوية التي أدت الى مقتل قائد فيلق القدس بالحرس الثوري، قاسم سليماني، يبدو أن المسؤولين عن الدفاعات الجوية أخطأوا في حساباتهم واعتقدوا أن الطائرة المدنية هي صاروخ أميركي، ولكن هذه الكارثة ما كان لها أن تحدث لو أن طهران كانت قد اتخذت إجراءات الحيطة، وأوقفت حركة الطيران المدني عندما بدأت بضرب الصواريخ على القوات الأميركية في العراق، ولكن القادة الإيرانيين لم يتخذوا هذه الخطوة. وذكرت المحطة الإخبارية «إيران إنترناشونال» ومقرها لندن، التي تنتقد الحكومة الإيرانية، عن مصدر لم تكشف عن اسمه، أن المسؤولين الإيرانيين اعتقدوا أن وجود طائرة مدنية في السماء من شأنه أن يردع الأميركيين عن القيام بهجمات مضادة.
وإثر الكشف عن عدد ضحايا الطائرة المنكوبة، والبالغ 176 شخصاً، معظمهم إيرانيون أو حاملو الجنسية المزدوجة، خرجت تظاهرات سريعة معادية للنظام في المدن الإيرانية، وقبل بضعة أيام فقط كان الملايين من الإيرانيين يسيرون في الشوارع تضامناً مع الحكومة وحداداً على مقتل سليماني، الذي أدى مقتله إلى تصاعد الوضع بين إيران والولايات المتحدة.
لكن مقتل سليماني ودائرة التصعيد الناجمة عنه غطت على ثمن آخر دفعه الإيرانيون العاديون في هذه الجولة الأخيرة من الصراع مع الولايات المتحدة، إذ أدى التدافع خلال موكب دفن سليماني في مدينة كرمان إلى مقتل نحو 50 إيرانياً وجرح مئات عدة.
وجاءت هذه الخسائر، إضافة إلى ضحايا الطائرة الأوكرانية بعد شهرين من قيام قوات الأمن الحكومية بقتل نحو 1500 إيراني خلال الاضطرابات التي انفجرت في نوفمبر الماضي.
وتكشف كل هذه الأحداث عن تاريخ من المعاناة التي أنزلها القادة الإيرانيون بشعبهم تماماً كما فعل أعداؤهم.
المتطلبات الأيديولوجية
وخلال موجات الاضطرابات التي هزت إيران خلال السنوات القليلة الماضية، عبر المتظاهرون عن غضبهم من حكومتهم التي كانت تفضل المتطلبات الأيديولوجية لقادتها على الحاجات الأساسية للشعب الإيراني، وخلص العديد من هؤلاء المتظاهرين إلى أن محاولات إيران كي تصبح قوة إقليمية، بما فيها دعمها لقوى وكيلة مثل حركة «حماس» و«حزب الله» اللبناني، جاءت على حساب نمو الدولة، وبدأوا يطلقون شعاراً مشتركاً «لا غزة ولا لبنان، نضحي من أجل إيران».
قوة دافعة
وتكمن وراء هذه المشاعر قوة دافعة متجذرة عميقاً، والتي ميزت قرناً كاملاً من الكفاح من أجل الوصول إلى حكومة تمثيلية في إيران من البداية. وأما التستر والتكتم فإنه من صميم موروثات إيران، وأي مسؤولين تحدثوا علناً عن دأب النظام على استخدام العنف ضد شعبه أو منعه من إفساد مؤسساته، فإنهم يتعرضون للتشويه والقمع.
ويمثل اعتراف الحكومة الإيرانية بمسؤوليتها عن إسقاط الطائرة الأوكرانية استثناءً نادراً، وقال المحامي الأميركي من أصول إيرانية المتخصص في حقوق الإنسان، جيسو نيا، إن العديد من الإيرانيين مقتنعون بأن الكارثة يمكن أن يتم التعامل معها بصورة مختلفة، لو أن الموضوع كان قضية داخلية بحتة.
وعلى الرغم من الاعتراف بمسؤوليتها عن الحادث فإن طهران تحجم حتى الآن عن محاسبة القادة المسؤولين عنه، وحتى الآن فإن العمل القضائي المتعلق بإطلاق صاروخ على الطائرة الأوكرانية لايزال موجهاً ضد الذين ساعدوا على كشف الحقيقة إلى العالم. ويقال إن إيران اعتقلت الشخص الذي سرب تسجيل الفيديو الذي سمح للصحافيين الاستقصائيين بالتأكد من صحة شكوك المسؤولين الأميركيين والكنديين حول الحادث.
وفي نهاية المطاف، ثمة سبب بسيط للاعتقاد بأن الاعتراف العلني بالخطأ من قبل الجيش الإيراني بإسقاط الطائرة يمكن أن يؤدي إلى أي شكل ذي معنى من المحاسبة من قبل نظام الحكم في إيران.
وتعالج المؤسسة الأمنية في إيران الآن صدمة خسارتها أحد أهم شخصياتها تأثيراً وهو الجنرال سليماني، وإضافة إلى ذلك، فمن غير الواضح ما إذا كان إسقاط الطائرة الأوكرانية هو عبارة عن خطأ يمكن أن ينتهي عند الجيش، فقد تحدث الإعلام الإيراني عن الدور الذي لعبه خامنئي نفسه في الإشراف على ضربات الصواريخ من مركز العمليات العسكرية. ويبدو أن المقارنة صارخة بين لامبالاة المسؤولين الحكوميين بحياة الإيرانيين، والتجنب الواضح للجيش الإيراني لقتل أي جندي أميركي في العراق أو أي مكان آخر.
ويمكن أن تأتي المحاسبة الحقيقية على إسقاط الطائرة الأوكرانية من المتظاهرين، الذين تحاول حكومة خامنئي القضاء عليهم، ولكن بغض النظر عما ستؤول إليه هذه الاضطرابات الأخيرة، فإنها لن تكون نهاية التحديات التي تواجه القيادة الإيرانية من مواطنيها.
ويبدو أن الغضب والحزن على ضحايا الطائرة الأوكرانية، الذي شارك فيه متظاهرون من شرائح اجتماعية عدة، يختلف عن الذين شاركوا في تظاهرات الفقر وانعدام المساواة، الذين كان معظمهم من الفقراء الذين يشعرون بالغضب من افتقارهم للفرص والعيش الكريم، والفساد الذي ينخر النظام.
ولكن هذه المرة، فقد تركزت الاضطرابات في الجامعات الإيرانية، وكانت أصوات الطلبة التي تدين إيران من الطبقة الوسطى، وبالنسبة لهم فإن النهاية المفجعة لآمال الإيرانيين المتعلمين جيداً، والذين صنعوا لأنفسهم حياة في الخارج، كانت تلقي بصداها بقوة، وهذا يعنى أنه يجب على إيران وقائدها البالغ عمره 80 عاماً، التعامل مع مصادر عدة من السخط الشعبي العنيف في هذا الوقت الذي يتصاعد فيه الضغط الخارجي على الدولة، وأن انتقال السلطة سواء كان بالانتخابات أو بالتعاقب يبدو قوياً. لقد أبحرت إيران عبر مياه خطرة مراراً وتكراراً خلال العقود الأربعة الماضية، لكن التيارات أصبحت الآن أكثر خطورة من أي وقت مضى.
سوزان مالوني زميلة في مبادرة البيئة وأمن الطاقة في معهد بروكينز
طهران تتعرض لما وصفه الصحافي كريستيان أوليفر بـ«أزمة كفاءة»، وهو شعور متزايد بين السكان بأن شرعية الحكومة باتت مقترنة إلى حد كبير بمستوى المعيشة، وأن الحماسة الثورية لن تجلب الطعام للشعب.
الغضب والحزن على ضحايا الطائرة الأوكرانية الذي شارك فيه متظاهرون من شرائح اجتماعية عدة، يختلف عن الذين شاركوا في تظاهرات الفقر وانعدام المساواة، الذين كان معظمهم يشعرون بالغضب جراء الافتقار للعيش الكريم، والفساد الذي ينخر النظام.
كوارث من صنع الإنسان
تحدث المراقبون والناقدون عن صدى نقاش يدور في المؤسسة السياسية الإيرانية، حيث كانت الأطراف المتعددة في الحكم تتبادل الاتهام حول من هو المسؤول عن وقوع عدد من الكوارث التي هي من صنع الإنسان، بما فيها النار التي اندلعت عام 2017، والتي أدت إلى تدمير مبنى في طهران قضى فيه نحو 12 رجل إطفاء، والتدمير الناجم عن زلزال حدث في عام 2017، وأخيراً الفيضان الكبير في أقاليم شتى في إيران. وتتعرض الدولة لما وصفه الصحافي كريستيان أوليفر بـ«أزمة كفاءة»، وهو شعور متزايد بين السكان بأن شرعية الحكومة باتت مقترنة إلى حد كبير بمستوى المعيشة، وأن الحماسة الثورية لن تجلب الطعام للشعب.