حكومة لبنان الجديدة قد لا تكمل عامها الأول
يوم الثلاثاء قبل الماضي، وبعد ثلاثة أشهر من الاحتجاجات في خضم أزمة اقتصادية طاحنة، أعلنت بيروت، أخيراً، تشكيل حكومة جديدة. وبصورة أو بأخرى فإن هذا التشكيل يعد سابقة، إذ إن الحكومة التي يترأسها حسان دياب هي الأولى التي يتم تشكيلها من التكنوقراط بصورة كاملة، بعد 30 عاماً من الحرب الأهلية في لبنان. وتفاخر هذه الحكومة بعدد الوزيرات المشاركات فيها، بمن فيها أول نائب لرئيس الحكومة، وأول وزيرة للدفاع، وهذه نهاية الأخبار الطيبة.
وستكون حكومة دياب الأولى في تاريخ لبنان التي تدين بالفضل لائتلاف برلماني يقوده «حزب الله»، حليف إيران في لبنان، ومعظم الوزراء المحسوبين على التكنوقراط هم في واقع الأمر مرتبطون بمؤسسة سياسية أوصلت البلاد إلى ما هي عليه الآن، وإن العديد من المتظاهرين أبدوا رفضهم لها بشدة. ويصف المحتجون هذه الحكومة بـ«حكومة الهالوين»، في إشارة للعلاقات المقنّعة التي تربط وزراء الحكومة بقادة في المؤسسة العسكرية الفاسدة في لبنان. ويلمح هذا الوصف إلى المعاناة الإنسانية التي تنتظر الدولة، التي تواجه أسوأ أزمة اقتصادية منذ 100 عام.
أسابيع من الجدل
وجاء تشكيل الحكومة تتويجاً لأسابيع عدة من الجدل من أجل تقسيم الغنائم بين حلفاء «حزب الله»، هذه الجماعة التي تتمتع بنفوذ كبير في الدولة لكونها تمتلك القوة العسكرية الأكبر في لبنان، وشركاؤها في لبنان هم مجموعة من زعماء الطوائف المرتبطين، بصورة أو بأخرى، بإيران والجارة سورية. ومن ضمن الوزارات التي أراد الحصول عليها شركاء «حزب الله»، وزارات المالية والصحة والخدمات الاجتماعية، التي تسمح بالسيطرة على موارد الدولة، أو ما تبقى منها، لتوزيعه على الشركاء السياسيين. ولوضع حد لهذا الجدل تدخلت قيادة «حزب الله» بصورة متكررة، وفي نهاية المطاف هددت بإلغاء جهود الوساطة بين هؤلاء الشركاء، قبل أن تتم ولادة هذه الحكومة غير الحزبية من الخبراء.
وكانت النتيجة إدارة بعيدة جداً عما كان يطالب به المتظاهرون، ويمكن القول إن ادعاء هذه الحكومة بابتعادها عن الفساد المزمن للمؤسسة السياسية يبدو ضبابياً في أفضل الأحوال، ومن غير الوارد أن تحقق المطالب الأساسية التي طالبت بها الانتفاضة الشعبية، وأهمها إصدار قوانين انتخابية نزيهة، والإعلان عن انتخابات برلمانية مبكرة. ومن غير المرجح أن تتمكن الحكومة الجديدة من النجاح في تنفيذ معظم الإصلاحات الملحة، بما فيها وضع نهاية للكسب غير المشروع، وسرقة المليارات من الدولارات في قطاع الكهرباء الذي تملكه الدولة، خصوصاً أن الأغلبية البرلمانية، التي تعتمد عليها هذه الحكومة، متهمة بالاختلاس المالي. ويعتبر قرار «حزب الله» في المساعدة على ولادة هذه الحكومة غير الشعبية، أحد أكبر أخطائه الاستراتيجية، وتاريخياً كانت الطائفة الشيعية تفضّل عدم تحمل عبء الحكم الحقيقي في الدولة التي ينبع ضعفها من سياستها الطائفية، وبدلاً من ذلك كانوا يركزون جهودهم وراء الحدود اللبنانية، أولاً في محاربة إسرائيل، ومن ثم خصوم إيران في الشرق الأوسط. وكان من الأفضل لهم أن يديروا سياسة بيروت من مسافة صحية، عن طريق تمكين الحلفاء والتوصل إلى حلول ملائمة مع الخصوم التقليديين، مثل زعيم السنة رئيس الحكومة السابق، سعد الحريري، وزعيم الدروز وليد جنبلاط، والزعيم المسيحي، سمير جعجع.
حسابات خاطئة
ولكن يبدو أن حسابات «حزب الله» الخاطئة جعلته يصل إلى نتيجة مفادها أنه من الأفضل أن يتحمل عبء الحكم وحده، من خلال وضع ثقته في الحلفاء، وهم بصورة رئيسة الزعيم المسيحي ووزير الخارجية السابق جبران باسيل، وليس عن طريق التفاهم مع الحريري الذي بقي مصراً على تشكيل حكومة تكنوقراط تحت رئاسته. وكان رأي «حزب الله» أن الحريري، الذي يتحمل بعضاً من المسؤولية عن هذه الحالة السيئة التي وصلت إليها الدولة، يتمتع بعلاقات قوية مع العالم الغربي، ولا يمكن الوثوق به في الوقت الذي يعاني لبنان التعثر، في حين أن إيران تواجه حملة من «الضغوط القصوى» من الولايات المتحدة الأميركية.
ولكن يبدو أن «حزب الله» يقدّر جيداً الصعوبات الكبيرة التي ستواجهه، لأن أي حكومة لبنانية يتعين عليها أن تكافح من أجل البقاء تحت وطأة الدين العام، البالغ 90 مليار دولار، وتناقص الاحتياطي من النقد الأجنبي، في حين أن العملة الوطنية فقدت نحو 30% من قيمتها منذ أن تصاعدت الأزمة في أكتوبر 2019. وفي الحقيقة فإن هذه الحكومة، التي ستمضي قدماً في إصلاحات لا يحبذها الشعب اللبناني، ولا تحظى بدعم الطائفتين السنية والدرزية، ولا بدعم كامل الطائفة المسيحية، ليس لديها أمل كبير في البقاء لعام كامل، ناهيك عن إعادة النظام الاجتماعي إلى سابق عهده. وبخلاف ما كانت عليه الحال في الماضي، عندما فاز «حزب الله» ببعض الثقة لدى العامة لكونه نأى بنفسه، إلى حد كبير، عن المشاركة في فساد الحكومة، فإن هذا الحزب أصبح الآن يعرف أنه الشريك الرئيس في حكومة فاسدة. وبوجود «حزب الله» وحلفائه في السلطة، سيكون استقطاب المساعدات الأجنبية، التي أصبحت البلاد الآن في أمسّ الحاجة إليها، عملاً صعباً لدى المانحين الماليين للبنان، في أوروبا والخليج العربي. وإذا ما لجأت الحكومة إلى صندوق النقد الدولي لإنقاذها فسيطلب منها فرض حزمة من القيود التي يمكن أن تزيد من الغضب الشعبي وتسهم في تفاقم الاضطرابات.
فراس مقصد أستاذ الشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن
خيارات
أمام هذا الوضع، ما الخيارات المتاحة أمام لبنان والحكومة الجديدة؟ قد تعتقد بعض حكومات الدول الغربية، خصوصاً الأوروبية منها، أن تقديم هذه المساعدة للبنان، أو ربما المنح، يمكن أن يعيد الهدوء ويخفف أمواج اللاجئين في المستقبل من الوصول إلى شواطئها.
لكن الحكومة المعلن عنها عاجزة أصلاً عن تقديم أي استقرار نتيجة تركيبتها، التي تثير نفوراً كبيراً من القوى الطائفية والمجتمعية في الوقت ذاته، لهذا يصبح الحكم ذو الصدقية الذي يحظى بالشعبية، هو المطلب الأساسي للدولة.
وعلى المدى المنظور، يظل هدف واشنطن احتفاظها بقدر محدود من النفوذ في بيروت، بما فيه داخل القوات المسلحة اللبنانية، والمصرف المركزي، وبين التكتلات المناوئة لإيران والمؤيدة للعالم الغربي.
وفي الواقع فإن واشنطن يجب أن تنصح الحكومة باستبدال المسؤولين الرئيسين، مثل قادة الجيش ومحافظ المصرف المركزي، بآخرين أكثر مرونة بالنسبة لهم.
وعلى نطاق واسع، فإن العمل الذي يتسم بحكمة أكثر بالنسبة لإدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، والمنقسمة حالياً بشأن سياستها حول لبنان، والاستمرار في تقديم المساعدة العسكرية للجيش اللبناني، يتمثل في الصبر الاستراتيجي. ويجب أن تُمنح هذه الحكومة التي لا تتسم بالشعبية، والقوى الإقليمية والمحلية التي تكمن خلفها، الوقت اللازم كي تنهار تحت ثقل الضغط الشعبي. ويجب أن تُترك للبنانيين مهمة نزع القناع عن أولئك الذين يدّعون أنهم تكنوقراط مستقلون. و«الهالوين» وما يرافقه من رعب لا يمكن أن يستمر إلى الأبد.
ادعاء الحكومة اللبنانية ابتعادها عن الفساد المزمن للمؤسسة السياسية، يبدو ضبابياً في أفضل الأحوال.
من غير المرجح أن تتمكن الحكومة الجديدة من النجاح في تنفيذ معظم الإصلاحات الملحّة، بما فيها وضع نهاية للكسب غير المشروع، وسرقة مليارات الدولارات في قطاع الكهرباء الذي تملكه الدولة، خصوصاً أن الأغلبية البرلمانية التي تعتمد عليها هذه الحكومة متهمة بالاختلاس المالي.