التصعيد في إدلب يهدد بانهيار التوافق الروسي-التركي
تكشف التصريحات المتبادلة التي يدلي بها المسؤولون الروس والأتراك تجاه الأوضاع الميدانية في إدلب، عن صعوبة توصل الطرفين إلى تفاهمات جديدة لتجاوز الخلافات القائمة، ويعزز هذا الاتجاه المواجهات العسكرية التي اندلعت في الفترة الأخيرة، في ظل استمرار العمليات العسكرية من جانب الجيش السوري بدعم روسي، من دون توقف، بالإضافة إلى إصرار موسكو على تفعيل اتفاق سوتشي مع أنقرة، على نحو ما أكد عليه المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، الذي ألمح إلى أن الأخيرة لم تلتزم بالبند الرئيس في الاتفاق، وهو «تحييد» الجماعات الإرهابية في إدلب، وذلك في مقابل اتجاه أنقرة إلى الانخراط في مواجهة مباشرة مع الجيش السوري، بعد أن أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عن «إجراءات عنيفة» قد تتخذ ضد الأخير.
وقد دفع ذلك اتجاهات عدة إلى طرح تساؤلات حول مدى قدرة موسكو وأنقرة على تجاوز المعضلة الحالية في إدلب، في ضوء التباينات التي تتسع تدريجياً بينهما، حيث من المؤكد أن عدم تجاوز هذه المعضلة سينعكس على التفاهمات القائمة بينهما، في إطار ما يسمى بـ«مسار أستانة» بالمشاركة مع إيران.
تحركات ضاغطة
أصبحت نقاط أمنية تركية عديدة محاصرة من جانب الجيش السوري، الذي تشير مواقفه، من جانب آخر، إلى أنه لن يتراجع بعد تقدمه إلى عدد من النقاط الاستراتيجية، ومنها معرة النعمان شرق إدلب، وطريق M5، كما أنه يوظِّف الموقف الروسي الداعم له لمصلحته. وفي هذا الصدد يشير العديد من التقارير الميدانية إلى أن القوات الروسية تسير على خط تنفيذ اتفاق سوتشي، وفقاً لتصريحات الدبلوماسي الروسي، بيوتر إيليتشوف، الذي قال إنه «بموجب الاتفاق تعهدت تركيا بفصل المعارضة المعتدلة عن الإرهابيين، وإقامة منطقة منزوعة السلاح وحرية المرور عبر طريقَي M4 وM5 الدوليين، لكن لم يتم تنفيذ شيء من ذلك، خلال الأشهر الـ18 الماضية»، بما يعني أن التحركات التي يقوم بها الجيش السوري والقوات الروسية تهدف إلى رفع مستوى الضغوط على تركيا، وفرض خيارات محدودة أمامها للتعامل مع تلك التطورات.
اشتباك معقد
وفي هذا السياق، تتجه روسيا إلى الضغط في اتجاه المضي قدماً إلى الأمام في معركة إدلب، مستندة إلى أن هناك صعوبة في التراجع إلى الخطوط الخلفية مرة أخرى، بما فيها النقاط الأمنية التركية التي باتت محاصرة من قبل الجيش السوري، ومنها، على سبيل المثال، نقاط تل الصرمان ومعر حطاط ومورك، على نحو تقابله أنقرة بتوجيه انتقادات قوية لموسكو، لاسيما أنها لا تريد بدورها التراجع عن نقاط الانتشار المتفق عليها، بل وتعمل على زيادتها كما فعلت مع إنشاء نقطتين جديدتين في منطقة سراقب، التي استعادها الجيش السوري أيضاً، وهو ما فرض في النهاية اشتباكاً معقداً بين الأطراف المنخرطة في المواجهات المسلحة.
رسائل أميركية
وقد كان لافتاً أنه بالتوازي مع تصاعد حدة التوتر بين تركيا من جهة، وكل من روسيا والنظام السوري من جهة أخرى، سارعت الولايات المتحدة الأميركية إلى التدخل عبر مساندة الأولى، حيث جدد وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، تصريحاته التي قال فيها إن واشنطن تدعم أنقرة حليفتها في «الناتو»، وهو الموقف الذي سبق أن ألمح إليه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أخيراً، لتمرير رسالة جديدة إلى روسيا من هذه الزاوية، مفادها أن هناك إسناداً أميركياً لموقف أنقرة، ربما تحاول الأخيرة استغلاله لمواجهة الضغوط التي تمارسها روسيا والنظام السوري ضدها.
معركة حاسمة
من هنا، تبدو معركة إدلب حاسمة، خصوصاً بالنسبة للجيش السوري، الذي كان لافتاً أنه حدد اعتباراً مختلفاً للتحرك حالياً في مواجهة الوجود التركي، وهو اعتبار «السيادة»، الذي أكد عليه بيانه في 11 فبراير الجاري، والذي اتهم فيه تركيا بتصعيد الانتهاكات ضد السيادة السورية، من خلال إرسال الكثير من التعزيزات إلى محافظتي إدلب وحلب، وهو ما يؤشر إلى أن الموقف السوري الحالي تجاه الوجود التركي في إدلب، ربما يختلف عن المواقف التي اتخذت في مراحل سابقة، لاعتبارات خاصة بتغير توازنات القوى في سورية، وتصاعد حدة التوتر على الساحة الإقليمية بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، واتساع مساحة الخلاف بين روسيا وتركيا.
سيناريوهات محتملة
يبدو التوجه التركي واضحاً نحو التصعيد عبر اللجوء للخيار العسكري، حيث جدد المسؤولون الأتراك، في 12 فبراير الجاري، الحديث عن ضرورة خروج الجيش السوري من نقاط المراقبة حتى نهاية فبراير الجاري، بما فيها النقاط الجديدة، واللافت في نبرة التصعيد التركية الجديدة أنها وضعت روسيا في دائرة الاستهداف، إذ أشار هؤلاء المسؤولون صراحة إلى «الهجمات السورية - الروسية، التي تستهدف المدنيين وليس الإرهابيين»، معتبرين أن الهجمات تهدف إلى «إجبار المدنيين على التوجه نحو الحدود التركية، كي تسهل على القوات المهاجِمة عملية احتلال المناطق».
وفي مقابل ذلك، قد تتجه روسيا بدورها إلى التصعيد عبر تعزيز تقدم الجيش السوري، حيث تخشى الهجمات الارتدادية على قاعدة حميميم، وفقاً لما أشار إليه إيليتشوف، بما يزيد من احتمالات نشوب تصعيد متبادل من جانب الطرفين، قد يصل إلى مرحلة الصدام المباشر في حالتين، الأولى: اعتراض الطائرات الروسية، حيث ألمح أردوغان إلى أنه لن يسمح بالطيران فوق تلك المناطق، والثانية: استهداف الجيش السوري، في المقابل، قوات تركية مجدداً، بعد سقوط 14 قتيلاً تركياً الأسبوع الماضي، حيث ستقوم أنقرة، في الغالب، بالرد على ذلك، بشكل لا يستبعد معه اندلاع مواجهات مباشرة مرة أخرى، خصوصاً أن هناك تعزيزات تركية جديدة وصلت إلى شمال إدلب.
في النهاية، يمكن القول إن اتخاذ أي قرار، سواء بالتصعيد أو بتسوية الأزمة، ستكون له تداعيات مباشرة على التوافق التركي - الروسي الحالي، الذي اتسع نطاقه في سورية خلال السنوات الماضية، بما يعني أن اختبار إدلب سيكون مصيرياً بالنسبة لهذا التوافق.
سياسة الاحتواء
اتجاه الأطراف المعنية إلى تبني سياسة الاحتواء قد يكون احتمالاً قائماً، من أجل ضبط حدود المواجهات ومنع تطورها إلى صراع مباشر، إلا أن ذلك سيتوقف على مدى مرونة أحد الأطراف في تقديم تنازل، والعودة خطوة إلى الخلف والتفاهم على الخطوات المقبلة، التي قد يكون من بينها ترحيل خطوط سوتشي باتجاه الحدود السورية - التركية، حتى تجري عملية فض الاشتباك بين القوات. ولا يستبعد انخراط أطراف أخرى في هذا المسار، على غرار إيران التي عرضت التوسط من أجل إجراء حوار سوري - تركي. إلا أن هذا الانخراط سيكون محدود التأثير، في ضوء الحسابات المتشابكة للأطراف المختلفة.
- أصبحت نقاط أمنية تركية عديدة محاصرة من جانب الجيش السوري، الذي تشير مواقفه، من جانب آخر، إلى أنه لن يتراجع بعد تقدمه إلى عدد من النقاط الاستراتيجية.