قد لا تعود المدينة إلى سابق عهدها بعد «الوباء».. والأثرياء يواصلون النزوح
جائحة «كورونا» مختلفة عن أزمات سابقة تعافت منها نيويورك
تدافع الناس للخروج من نيويورك، بعد أن تزايدت معدلات الإصابة بفيروس كورونا، وأفادت شركة رودواي، وهي إحدى شركات النقل المحلية، بأن سكان المنطقة الحضرية، الأكثر تضرراً من مدينة نيويورك من تفشي الفيروس التاجي، ينزحون عنها بشكل غير مسبوق. ويتحدث رئيس إحدى شركات النقل، التي ظلت تعمل بالمدينة منذ 2008، أن الناس ينتقلون من مانهاتن بأعداد لم يرها من قبل.
ويقول رئيس شركة رودواي، روس سابير: «إنه جنون.. لم أرَ مثل هذا النزوح قط من قبل، مقارنة بأي موسم آخر يرتفع فيه النزوح من المدينة». وفي بعض الأيام تشهد شركته زيادة بنسبة 200% في الاتصالات بشأن طلبات النقل. ويتكون عملاؤها إلى حد كبير من أصحاب الثروات العالية، الذين عادة تراوح أعمارهم بين 25 و45 عاماً، ومن المهنيين ميسوري الحال في مانهاتن.
توقعات بموت المدينة
كانت الهجرة الجماعية أكثر وضوحاً في مدينة نيويورك، عندما ترك ما يقدر بنحو 5% من السكان مساكنهم لبعض الوقت، وتوجه بعض من أقدم السكان إلى البيوت التي يقضون فيها عطلاتهم، بينما ذهب البعض الآخر ليقيموا مع أسرهم الممتدة في الضواحي. وسرعان ما بدأ بعض الناس يتوقعون موت بعض من أكبر مدن أميركا، إذ لا يبدو أن هناك مدينة كانت لديها خطة متماسكة لتجعل النقل العام آمناً للركاب. وبدا أن الحانات والمطاعم لن تعود إلى طبيعتها لأشهر، وربما لسنوات، وربما سيغلق بعضها نهائياً. ولم تكن هناك، أيضاً، خطة لإعادة فتح المدارس. جميع الذين غادروا إلى الضواحي من أجل سلامتهم سيظلون هناك لبعض الوقت، وسيتبعهم أصحاب المداخيل العالية. وعلى مدى الأسابيع القليلة الماضية، حيث تعرض المتظاهرون لغازات مسيلة للدموع، والرصاص المطاطي في المدن، بجميع أنحاء البلاد، بدأ البعض يتوقعون هجرة أكثر زخماً.
وانضم الشباب إلى الأغنياء للهروب من نيويورك إلى الضواحي، بعد أن انغلقت المدينة على نفسها بسبب الفيروس التاجي، وأعاد العديد من المهنيين النظر في الحياة داخل المدينة، عندما بدأت بعض الشركات تسمح لموظفيها بالعمل من المنزل بشكل دائم. وفي الوقت الذي سيطر فيه فيروس «كوفيد-19» على البلاد، منذ منتصف مارس، فر سكان الأحياء الأكثر ثراءً في المدينة، بينما لجأ الكثير من الشباب للضواحي للإقامة مع والديهم. واضطر البعض لفسخ عقود الإيجار والعودة إلى مسقط رأسهم، لأنهم باتوا غير قادرين على تحمل أسعار الإيجار الباهظة في المدينة، بعد فقدان وظائفهم، في حين استمر البعض الآخر في دفع ثمن شققهم بالمدينة أثناء لجوئهم إلى أماكن أخرى.
حزينة لفراقها مهد الطفولة
عاشت كلوي ديفيس كل حياتها تقريباً في مدينة نيويورك. فقد انتقل والداها من ليفربول بإنجلترا إلى الجانب الشرقي الأعلى في المدينة، عندما كانت في الرابعة. وعندما كانت مراهقة، وقعت في حب المشهد الفني في مانهاتن السفلى. وتقول: «نيويورك كانت مدينة ساحرة أوائل التسعينات، كان هناك الكثير من الفرص». وتعيش هي وزوجها جيريمي، الآن، في المكان نفسه الذي ظلت تعيش فيه من قبل بالمدينة، ولم يخططا أبداً للمغادرة حتى بعد ولادة أبنائهما. وتضيف: «لقد أحببنا حياتنا، والمشي في جوانب المدينة، أعرف تقريباً كل شخص في الحي».
لكن عندما أصبحت مدينة نيويورك بؤرة لتفشي الفيروس التاجي في مارس، وجدت ديفيس نفسها محاصرة داخل شقة مكونة من غرفتي نوم مع زوجها وثلاثة أولاد صغار. وقالت إن الـ50 يوماً الأخيرة كانت من أسوأ الأيام في حياتهم. وكان ابنها البالغ من العمر 10 سنوات قد أصيب بحالة من الانهيار قبل أسابيع، لأنه أراد الخروج من الشقة، ولم يستطع. وتساءل الأولاد الثلاثة عما إذا كان بإمكانهم الانتقال إلى منزل آخر. وقالت: «أدركت أنني لا أستطيع أن أفعل أي شيء حيال ذلك».
وانضمت ديفيس، أخيراً، إلى مجموعة على «فيس بوك»، تضم 1000 امرأة من الراغبات في مغادرة مدينة نيويورك مع عائلاتهن بسبب الوباء، وظلت تبحث عن منزل في كونيتيكت، أو مقاطعة ويستتشستر.
مانهاتن مدينة أشباح
قبل عام من غزو هذا الطاعون الحديث مناطق العالم، أقام مجمع هيدسون ياردز السكني في مانهاتن حفل افتتاح كان يعج بالطعام، وكبار الطهاة والشخصيات المميزة، والزخارف والبهارج الأخرى، التي تليق بمدينة رائعة كهذه.
لكن قبل أشهر قليلة تفشى الوباء، وأصبح هيدسون ياردز عبارة عن مدينة أشباح، فقد تم إغلاق مركز التسوق الخاص به، وسيعلن مستأجره الرئيس، نيمان ماركوس، إفلاسه قريباً. وأصبحت المطاعم في هذا المكان، والتي عادة كانت تعج بالسياح، فارغة إلا من حارس أمني يراقب المكان بين فترة وأخرى.
وكانت الحركة الوحيدة في تلك المنطقة هي حركة الجنود الذين يعالجون مرضى «كوفيد-19» بالمستشفى الميداني الذي أقيم على عجل في مركز المؤتمرات القريب، وبالقرب منه اصطف عدد من الناس لأخذ نصيبهم من وجبات مجانية، يتم توزيعها في واجهة متجر هيدسون ياردز، التي تم تحويلها إلى مطبخ لإعداد الحساء، وإلى جانبهم اصطف سائقو توصيل وعمال بريد ومنظفو مكاتب، وغيرهم ممن يديرون الخطوط الأمامية في الصراع ضد الفيروسات التاجية بمدينة نيويورك.
وتعكس هذه الصورة كيف حول هذا الفيروس مدينة نيويورك بشكل كبير، والتي من المحتمل أن تكون قد عانت، في غضون أسابيع فقط، الوفيات أكثر من أي مدينة أخرى بالعالم. ومع اقتراب إعادة فتح المدينة يفكر سكان مدينة نيويورك بخوف في كيفية خروج مدينتهم من الوباء، وأي نوع من المستقبل ينتظرهم.
وتجسد نيويورك، دون بقية المدن الأميركية الكبيرة الأخرى، الخصائص الحضرية التي حولها الفيروس إلى نقاط ضعف: الكثافة السكانية، وارتفاع تكاليف المعيشة، والاعتماد على البيع بالتجزئة، والثقافة والسياحة، والاعتماد على وسائل النقل العام المزدحمة.
لا يوجد حل سريع
لكن على الجانب الآخر، يسود عدم اليقين بعودة الحياة إلى المدينة مثلما كانت عليه قبل الوباء، حتى من بين أكثر المتحمسين لعودتها لسيرتها الأولى. ويعاني الكثيرون شعوراً مزعجاً بأن هذه المرة مختلفة تماماً عن المرات الأخرى. وتقول مديرة الصندوق الخيري، الذي تم إنشاؤه بعد الهجوم الإرهابي في 11 سبتمبر، كارول كيلرمان: «هذا الوقت أكثر تعقيداً من ذي قبل بكثير»، وتمضي قائلة: «أعتقد أن الكارثة ستكون لها آثار أعمق وأطول أمداً».
وفي الواقع، كانت الأعمال الإرهابية في 11 سبتمبر وحشية ومدمرة، لكن العالم احتشد حول المدينة لتستأنف اقتصادها في غضون أيام. وبعد عام 2008، انتهى الأمر بمدينة نيويورك للاستفادة من السياسات التي ضخت مبالغ كبيرة من السيولة في النظام المالي. لكن مع الفيروس التاجي، لا يلوح حل سريع في الأفق. وتزدحم مشارح المدينة بأكثر من 21000 حالة وفاة - ما يقرب من ثمانية أضعاف حصيلة المدينة من هجمات 11 سبتمبر - ويتوقع البعض أن ترتفع البطالة إلى 20% في يونيو. والأسوأ من ذلك كله، أن الكثافة السكانية التي تميز مدينة نيويورك تجعلها في الوقت ذاته عرضة للوباء.
الانتماء للمكان لم يعد مهماً
تنوي الأغلبية العودة، في نهاية فترة الإغلاق، لكن الأثر الاقتصادي للوباء، وكذلك التحول إلى العمل عن بُعْد، قد يدفعان بعض الناس إلى التخلي عن المدينة إلى الأبد. هذه الرؤى التي تشبه عصراً جليدياً حضرياً، اقترنت برؤية أخرى هي أن العمل المكتبي لن يتطلب الوجود الشخصي في المكتب. واضطر أصحاب العمل للرضوخ للواقع، ووجدوا أنفسهم، الآن، تحت ضغوط للإبقاء على هذا الخيار متاحاً، حتى بعدما تبدأ الولايات إعادة فتح اقتصاداتها. الجدير بالذكر أن «غوغل»، و«فيس بوك»، و«تويتر»، مددت العمل من المنزل لموظفيها إلى عام 2021، أو ربما لجأت إلى جعل هذا الخيار مستديماً.
وقبل الوباء، قدرت مجموعة الأبحاث «غلوبال ويركبليس أناليتكس» أن 3.6% فقط من القوى العاملة الأميركية ظلت تعمل بالمنزل على الأقل نصف الوقت. لكن المجموعة توقعت، أخيراً، أن 30% من القوى العاملة ستعمل من المنزل أياماً عدة في الأسبوع، بحلول نهاية عام 2021. وهذا يعني أن الموظفين قد لا يحتاجون للعيش في المدينة التي يقع فيها مقر شركتهم.
جهود التطهير
ومن أجل مزيد من الأمان، هناك إجماع ناشئ يرى أن على السلطات أن تخلق الشعور بالأمان، مثلما فعلت ذلك بعد 11 سبتمبر. وإلا سيكون من المستحيل استعادة الأعمال التجارية، ناهيك عن عودة السياح. وفي حالة عدم وجود أي لقاح، لجأ حاكم ولاية نيويورك، أندرو كومو، إلى رئيس البلدية السابق مايكل بلومبرغ، لقيادة نظام اختبار وتعقب.
تاريخ من الكوارث
التاريخ الحديث لمدينة نيويورك موبوء بالكوارث الدورية، التي تسببت في الهجرة الجماعية إلى مدن أخرى أقل كلفة وأكثر أماناً وأكثر ملاءمة. وشهدت المدينة الأزمة المالية في السبعينات، والانهيار الذي أعقبها، ثم انهيار سوق الأسهم عام 1987؛ والهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر 2001؛ والأزمة المالية لعام 2008، ناهيك عن الأعاصير والفيضانات وانقطاع التيار الكهربائي.
إلا أن نيويورك برهنت في كل حالة من الحالات السابقة على خطأ المتشائمين، فقد عادت المدينة أقوى مما كانت عليه الحال عن ذي قبل، وبمعنى آخر، أعادت ابتكار نفسها. فبعد أحداث 11 سبتمبر، على سبيل المثال، أصبح وسط المدينة أكثر نشاطاً، وبدأ يدب فيه نشاط هيدسون ياردز، وهو مشروع بقيمة 25 مليار دولار، يعد أكبر المشروعات العقارية في أميركا الشمالية. وبعد عام 2008، أصبحت المدينة مركزاً تقنياً ينافس وادي السيليكون، وتعززت قوة جذبه المغناطيسي بجيل جديد من المواهب. وتقول الرئيسة التنفيذية لمجموعة تراي سيتيت أريا العقارية، ماري آن تيغي، إنه «لا أحد يأتي للعمل في نيويورك لأنها أرخص أو أسهل، كلا، إنما يأتي إليها لأن المواهب موجودة هنا». ويعترف المسؤول المخضرم في حكومة المدينة، كارل ويسبرود، الذي قاد جهود إحياء ميدان التايمز أواخر الثمانينات، والذي تم تعيينه، أخيراً، في فرقة عمل جديدة لتوجيه انتعاش المدينة، بأن الأشهر الـ18 المقبلة ستكون صعبة. لكنه يخلص إلى أنه «طالما أن نيويورك تتمسك بمواهبها، فلاشك في أنها ستتعافى، من الناحية الاقتصادية». ويتطلع قادة مدنيون آخرون إلى تكرار تعافي نيويورك. حتى إن البعض أصبح يتحدث عن فرصة فريدة لإعادة تصور المدينة، وإزالة اللوائح التنظيمية المزعجة التي تم إنشاؤها على مدى أجيال، وجذب صناعات جديدة، وتصحيح التفاوتات الاجتماعية التي كشفتها الأزمة.
تجسد نيويورك، دون بقية المدن الأميركية الكبيرة الأخرى، الخصائص الحضرية التي حولها الفيروس إلى نقاط ضعف: الكثافة السكانية، وارتفاع تكاليف المعيشة، والاعتماد على البيع بالتجزئة، والثقافة والسياحة، والاعتماد على وسائل النقل العام المزدحمة.
تنوي أغلبية سكان نيويورك العودة، في نهاية فترة الإغلاق، لكن الأثر الاقتصادي للوباء، وكذلك التحول إلى العمل عن بعد قد يدفعان بعض الناس إلى التخلي عن المدينة إلى الأبد. هذه الرؤى، التي تشبه عصراً جليدياً حضرياً، اقترنت برؤية أخرى هي أن العمل المكتبي لن يتطلب الوجود الشخصي في المكتب. واضطر أصحاب العمل للرضوخ للواقع، ووجدوا أنفسهم الآن تحت ضغوط للإبقاء على هذا الخيار، حتى بعدما تعيد الولايات فتح اقتصاداتها.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news