الثورة القادمة في عالم الاستخبارات تتطلب تطوير آليات التجسس
طوال التاريخ البشري، تجسس الناس على بعضهم بعضاً، لمعرفة ما يفعله الآخرون أو يخططون لفعله. وقام الناس بالمراقبة والتنصت، باستخدام أدوات تتحسن باستمرار، لكنها لم تحل محل البشر. ويعمل الذكاء الاصطناعي والأنظمة المستقلة على تغيير كل ذلك. وفي المستقبل، ستتجسس الآلات على الأجهزة لمعرفة ما تفعله الأجهزة الأخرى، أو تخطط للقيام به. وسيستمر عمل أجهزة الاستخبارات في سرقة الأسرار وحمايتها، لكن الطريقة التي يتم بها جمع هذه الأسرار وتحليلها ونشرها، ستكون مختلفة اختلافاً جوهرياً.
لقد أدرك العسكريون حدوث تغيير جذري مشابه، ووصف البعض صعود أنظمة الذكاء الاصطناعي والأسلحة المستقلة، بأنه ثورة في الشؤون العسكرية؛ وأيضاً «ثورة في مجال الاستخبارات». وستصبح الآلات أكثر من مجرد أدوات، لجمع المعلومات وتحليلها. وسيظل الشغل الشاغل لهذه الآلات هو العلاقات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والعسكرية للبشر؛ لكن الذكاء الذي تحركه الآلة سيعمل بسرعة وحجم وتعقيد، لا يمكن للذكاء البشري القيام بها.
الثورات لا تأتي من العدم، إذ تعود أصول الثورة في مجال الاستخبارات إلى القرن العشرين، عندما دفعت التقنيات الجديدة، مثل الاتصالات السلكية واللاسلكية والحوسبة، تقنيات الذكاء الصناعي إلى تطور جديد. وظل البشر عملاء لهذا الذكاء، لكن بدلاً من المشاهدة بأعينهم، والاستماع بآذانهم، والتحليل والتوقع بأذهانهم، اعتمدوا على أجهزة استشعار، وأدوات حاسوبية قوية بشكل متزايد، لتعزيز قدراتهم.
ضغوط هائلة
وعلى مدى السنوات الـ20 الماضية، تسارع هذا الاتجاه، ما أدى إلى زيادة هائلة في كمية البيانات المتاحة لوكالات الاستخبارات، وأجهزة الاستشعار، بدءاً من تلك الموجودة على الروبوتات، والطائرات بدون طيار، إلى الأقمار الاصطناعية، إذ باتت تنتج الآن معلومات أكثر مما يمكن للبشر فهمه بمفردهم. وفي عام 2017، توقعت وكالة الاستخبارات الوطنية، أن البيانات، التي سيتعين على محلليها تحليلها، ستزيد مليون ضعف في غضون خمس سنوات. وقد أدى وجود الكثير من البيانات بهذه السرعة إلى منافسة شرسة لفهم كل ذلك، وأدت هذه الديناميكية، بدورها، إلى تبني الأتمتة وتحليلات البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي. إلى ذلك، تبدو ضغوط المواكبة هائلة، والدول التي يمكن لوكالاتها الاستخباراتية معالجة كميات هائلة من البيانات المعقدة، بسرعة، ستكون لها ميزة عن تلك التي لا تستطيع ذلك.
وأدى التحول الموازي إلى الأنظمة المستقلة والذكاء الاصطناعي بين جيوش العالم، إلى تكثيف الضغط التنافسي، إذ يجب أن تكون وكالات الاستخبارات قادرة على استهداف ودعم أنظمة القتال المتقدمة. وبالفعل، يدير الجيش الأميركي أكثر من 11 ألف نظام جوي بدون طيار، وأنظمة تحت الماء، وفي الفضاء، وعلى الأرض. وبالإضافة إلى ذلك، تتعامل وحدات الأمن السيبراني الأميركية مع ملايين الروبوتات العاملة على الشبكات العالمية، بالإضافة إلى وسائل إنترنت الأشياء التي تعمل كمستشعرات. وتتطلب هذه الأنظمة التي تتكاثر باستمرار ذكاءً خاصاً للعمل، ما يعني أنه بمرور الوقت سيصبحون عملاء الاستخبارات الأساسيين.
مواكبة المنافسة
ولفهم ما هو على المحك، يمكن مقارنة ذلك بما يحدث في عالم المال؛ إذ تعتمد أنظمة التداول العالية السرعة على الخوارزميات التي تستشعر التغيرات في أسواق الأسهم العالمية، وتحلل كميات هائلة من البيانات للقيام بتوقعات، ثم تنفذ الصفقات تلقائياً في غضون أجزاء من الثانية. ولا يمكن للبشر العمل بالسرعة والحجم نفسيهما. ومن أجل مواكبة المنافسة، تعتمد حتى أكثر شركات الاستثمار قوة على أنظمة التداول الكمية، بشكل متزايد. ومن أجل التنافس مع بعضها بعضاً في الأسرار، ستحتاج وكالات الاستخبارات بشكل متزايد إلى الذكاء الاصطناعي والأنظمة المستقلة، أيضاً.
ولأن الآلات أصبحت جامع المعلومات الأساسي، والمحلل والمستهلك والهدف الاستخباري، أيضاً، فإن مجتمع الاستخبارات الأميركي بأكمله بحاجة إلى التطور. ويجب أن يبدأ هذا التطور باستثمارات هائلة في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا، بالإضافة إلى تغييرات في مفاهيم العمليات، التي تمكن الوكالات من معالجة كميات ضخمة من البيانات وتوجيه الذكاء الناتج مباشرة إلى الآلات المستقلة. ومع انتشار الأقمار الاصطناعية وأجهزة الاستشعار الأخرى، سيصبح كل شيء على الأرض مرئياً، من أعلى، في جميع الأوقات. ولمواكبة كل هذه البيانات، سيحتاج الذكاء الجغرافي المكاني، إلى تعزيز قدرات الذكاء الاصطناعي بشكل جذري.
قدرة الخصوم
وينقسم مجتمع الاستخبارات الأميركية، حالياً، بين وظائف مختلفة تجمع وتحلل أنواعاً منفصلة من الذكاء، مثل «ذكاء الإشارات» أو الذكاء الجغرافي المكاني. وقد تجبر وكالة «سي آي أيه» مجتمع الاستخبارات على إعادة تقييم ما إذا كانت هذه التقسيمات لاتزال منطقية. وفي الوقت نفسه، الذي يتطور فيه مجتمع الاستخبارات الأميركية، سيحتاج إلى الحد من قدرة خصومه على فعل الشيء نفسه؛ لاسيما عن طريق إبطاء وإيقاف قدرتهم على إتقان الذكاء الذي تحركه الآلة. وستزداد أهمية إعاقة تصميم وتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي، والأنظمة المستقلة للخصوم، وسيتطلب هذا إجراءات خفية، تقوم الآلات بتنفيذ بعضها. وعلى سبيل المثال، يمكن للولايات المتحدة ضخ بيانات خاطئة في نظام التعلم الآلي للخصم، من أجل خداع نظام الذكاء الاصطناعي له.
لكن مثلما ستستهدف الولايات المتحدة أنظمة الذكاء الاصطناعي والأنظمة المستقلة لخصومها، فإن أجهزة الاستخبارات المعادية ستستهدف الأنظمة الأميركية. ونتيجة لذلك، ستحتاج الولايات المتحدة إلى إقامة دفاعات جديدة، واحتضان أشكال جديدة من الاستخبارات المضادة. وللمنافسة، سيحتاج ضباط الاستخبارات المضادة إلى الخداع نفسه، الذي اعتمدوا عليه دائماً، لكنهم سيحتاجون، أيضاً، إلى المزيد من الخبرة الاقتصادية والتقنية أكثر من أي وقت مضى. وبشكل عام، ستفرض الثورة في مجال الاستخبارات التغيير على كل مستوى من مستويات الذكاء، بما في ذلك المنظمات، والتدريب والتكنولوجيا، ومفاهيم التشغيل، والاستخبارات المضادة.
طبيعة الوظائف
قد لا يصبح جمع المعلومات الاستخبارية وتحليلها مسعى بشرياً حصرياً، لكن الهدف النهائي منه سيظل فهم كيفية عمل الحكومات، والمجتمعات، والجيوش التي يقودها الإنسان. وعلاوة على ذلك، سيجلب البشر الإبداع والتعاطف والفهم والتفكير الاستراتيجي إلى الذكاء، الذي من غير المرجح أن تتطابق معه الآلات في أي وقت قريب. ونتيجة لذلك، ستظل للمسؤولين والموظفين والمحللين أدوار مهمة يلعبونها لفترة طويلة في المستقبل، على الرغم من أن طبيعة وظائفهم قد تتغير.
ومع ذلك، فإن هناك ثورة قادمة في الاستخبارات، وسيتعين على مجتمعها التكيف معها واحتضانها. وقد تسببت مقاومة التغيير في حدوث كوارث في الماضي، على سبيل المثال، عندما رفضت البحرية الأميركية استبدال السفن الحربية بحاملات الطائرات قبل الحرب العالمية الثانية. وكانت البحرية، حينها، تحت قيادة لم تستوعب التقدم الهائل في القوة الجوية، التي من شأنها أن تسمح لليابان بشن هجوم مدمر على «بيرل هاربور». وبالمثل، فإن مجتمع الاستخبارات يُدار بشكل أساسي من قبل جواسيس بشريين قد لا يرون (أو يقبلون) دائماً، حتمية الذكاء الآلي. ويجب على وكالات الاستخبارات كسر الحواجز الثقافية، والاستثمار في التكنولوجيا، وتخصيص أقسام كاملة للذكاء الاصطناعي والذكاء القائم على الأتمتة. وإذا رفضت الولايات المتحدة التطور، فإنها تخاطر بمنح الصين، أو خصم آخر، ميزة تكنولوجية لن تتمكن واشنطن من التغلب عليها.
أنتوني فينشي خبير بمجال التكنولوجيا ومدير مساعد في وكالة الاستخبارات الجغرافية المكانية الوطنية
مثلما ستستهدف الولايات المتحدة أنظمة الذكاء الاصطناعي، والأنظمة المستقلة لخصومها، فإن أجهزة الاستخبارات المعادية ستستهدف الأنظمة الأميركية. ونتيجة لذلك، ستحتاج الولايات المتحدة إلى إقامة دفاعات جديدة، واحتضان أشكال جديدة من الاستخبارات المضادة.
على مدى السنوات الـ20 الماضية، حدثت زيادة هائلة في كمية البيانات المتاحة لوكالات الاستخبارات، وأجهزة الاستشعار، بدءاً من تلك الموجودة على الروبوتات، والطائرات بدون طيار، إلى الأقمار الاصطناعية، إذ باتت تنتج الآن معلومات أكثر مما يمكن للبشر فهمه بمفردهم.