عقبات تعطل التوافق على ترتيبات الانتقال السياسي في ليبيا
تتسارع التطورات السياسية الأخيرة التي تشهدها ليبيا، والتي يأتي على رأسها إعادة دفع العملية السياسية من جديد بدعم إقليمي ودولي غير مسبوق، ناهيك عن الرعاية الأممية، عبر محاولة خلق الفرصة للفرقاء الليبيين، من أجل تبادل الأفكار والرؤى حول مستقبل العملية السياسية. وفي ضوء، هذا جاء الإعلان المتوقع من جانب رئيس حكومة الوفاق «فايز السراج»، في 16 سبتمبر الجاري، عن رغبته في الاستقالة وتسليم مسؤولياته إلى السلطة التنفيذية التي ستنبثق عن لجنة الحوار، وذلك بحلول نهاية شهر أكتوبر المقبل. كما أعلن «السراج» عن دعمه للمشاورات الليبية القائمة برعاية الأمم المتحدة. وتطرح تلك التطورات تساؤلاً جوهرياً متعلقاً بمدى قدرة التقدم النسبي الحالي على تدشين مرحلة سياسية جديدة، يمكن أن تُفضي لإتمام عملية انتقالية ناجحة.
أطروحات الفرقاء
شهد شهر سبتمبر الجاري حالة من النشاط المتعلق بإعادة الحل السياسي من جديد إلى المشهد الليبي، سواء من خلال مباحثات بوزنيقة بالمغرب، أو من خلال اجتماعات جنيف. ويمكن تناول أبرز الأطروحات المتعلقة بالمرحلة الانتقالية، على النحو التالي:
1- إعادة هيكلة المؤسسات
تركزت المباحثات الأخيرة على ضرورة خلق مرحلة تمهيدية للحل الشامل، من خلال تهيئة البيئة الحالية لإجراء الانتخابات في موعد لا يتجاوز عاماً ونصف العام، وعلى أساس قواعد دستورية متفق عليها. كذلك فإن هناك توافقاً على ضرورة إعادة هيكلة السلطة التنفيذية لتتشكل من مجلس رئاسي، واختيار أعضاء المجلس الرئاسي ورئيس الحكومة بالتوافق.
2- تجاوز الصراع المناطقي
كذلك، فإن هناك توافقاً على ضرورة أن تكون هناك مراعاة للتنوع الجغرافي في توزيع المناصب السيادية، في محاولة للخروج عن محاولات تكريس الصراع المناطقي، خصوصاً أن ليبيا منقسمة في الوقت الحالي بين الشرق والغرب، في ظل وجود حكومتين: (حكومة الوفاق، والحكومة المؤقتة)، وبرلمانين: (برلمان طبرق، وبرلمان طرابلس)، إلى جانب وجود جيش وطني أقرب للجيوش النظامية بالشرق في مواجهة هياكل مسلحة في الغرب، قائمة بالأساس على مجموعة من الميليشيات والمرتزقة الأجانب.
3- التوزيع العادل للسلطات
تشير المباحثات الجارية إلى توزيع السلطات بين أقاليم ليبيا الثلاثة، بحيث لا يجمع أي إقليم أكثر من رئاسة للسلطات الثلاث التي تضمّنها اتفاق الصخيرات، والتي تشمل: المجلس الرئاسي، ومجلس النواب، ومجلس الوزراء، على أن يتم توزيع الوزراء بين طرابلس وبرقة وفزان، مع عدالة توزيع المناصب المتعلقة بالمناصب الستة السيادية.
4- الخروج من طرابلس
هناك اقتراحات بأن تكون سرت، كونها قد تصبح مدينة منزوعة السلاح، هي مقر الحكم خلال المرحلة المقبلة، ما يعني القدرة نسبيّاً على إفقاد ميليشيات طرابلس أحد أبرز مواطن قوتها كونها تسيطر على العاصمة ومقر مؤسسات الحكم.
5- طرح العفو الشامل
أحد أبرز المحاور التي نوقشت في المباحثات الأخيرة المتعلقة بالأزمة الليبية، كانت المصالحة الوطنية والعفو العام، وهو ما يمكن أن يمثل باباً خلفيّاً يمكن من خلاله للعناصر التي تورطت على مدار العقد الماضي في أعمال عنف أن تفلت من العقاب، وعلى رأسهم قادة الميليشيات، خصوصاً أن معظمهم يبحثون عن موطئ قدم لهم بالمرحلة الانتقالية.
صعوبات جوهرية
في مواجهة هذا التقدم النسبي الملموس من أجل تحقيق اختراق ناجح للعملية السياسية المعقدة في ليبيا، فإن ثمة العديد من التحديات التي يمكن أن تعوق ذلك، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
• إعادة إنتاج الوجوه نفسها
تُشير معظم الترجيحات إلى إمكانية أن يصبح وزير داخلية الوفاق «فتحي باشاغا» رئيس الحكومة الليبية المقبلة، ويُعد «باشاغا» المحسوب على مصراتة، أحد أبرز المتحكمين في الميليشيات بغرب ليبيا، ومن شأن احتلاله المنصب الحكومي الأبرز أن يُثير ارتدادات سلبية، خصوصاً في طرابلس، في ظل وجود خلافات عميقة بين ميليشيات العاصمة وميليشيات مصراتة، كما أن الرجل موالٍ لتركيا وقطر بشكل كبير، ومن شأن وجوده على قمة الحكومة أن يطرح تساؤلات، حول مدى قدرته على التعامل وفق المصالح الوطنية.
كذلك، فإن هناك تنافساً قائماً في الغرب الليبي، يعد «باشاغا» جزءاً منه، إذ يطمح رئيس المجلس الأعلى للدولة «خالد المشري» المدعوم من «إخوان» ليبيا، وكذلك من تركيا، ألا يخرج من المعادلة السياسية، إلى جانب وجود تطلعات لدى قادة عسكريين آخرين، حيث أوضح تقرير نشره موقع «أفريكا إنتلجنس»، في 7 سبتمبر 2020، إلى أن «أسامة الجويلي» قائد المنطقة العسكرية الغربية لحكومة الوفاق، يحاول الحصول على الدعم الخارجي، حيث قام بزيارة سرية إلى باريس يومَيْ 3 و4 سبتمبر 2020، لإجراء سلسلة من المحادثات مع مسؤولين فرنسيين، إلى جانب قيامه بزيارة لواشنطن، وأنه على الرغم من دوره في صدّ الجيش الوطني الليبي ودفاعه عن طرابلس، فإنه لايزال مهمشاً سياسيًّا بشكل كبير.
• دور «حفتر»
هناك اتجاه واضح لتجاهل دور قائد الجيش الوطني الليبي، المشير «خليفة حفتر»، من قبل ممثلي الغرب الليبي، ويلقى دعماً من جانب البعثة الأممية، وهو أمر قد يمثل معضلة كبيرة في توافقات سياسية، خلال المرحلة المقبلة، خصوصاً أن «حفتر» يقود الجيش الوحيد في الداخل الليبي، ولديه دعم كبير في شرق البلاد. ورغم التكهنات المتعلقة بإمكانية أن يكون المستشار «عقيلة صالح»، رئيس مجلس النواب الليبي، هو الرئيس المقبل للمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، فإن مسألة استبعاد «حفتر» قد تشكل مأزقاً كبيراً، خصوصاً إذا ما تضمنت أي توافقات عملية دمج الميليشيات المسلحة غرب ليبيا في جيش نظامي ليبي موحد.
• الاختراق السياسي التركي
من شأن وصول بعض قادة الميليشيات في الغرب إلى السلطة، أن يمثل فرصة لتركيا من أجل تعزيز نفوذها العسكري والسياسي وحتى الاقتصادي في ليبيا، وكذلك محاولة شرعنة الاتفاقيات التي تم توقيعها منذ نوفمبر 2019 حتى الآن، وهي اتفاقيات في معظمها تلقى رفضاً من جانب العديد من الفاعلين السياسيين في ليبيا، إلى جانب الرفض الإقليمي والدولي. ولعل أبرز تلك الاتفاقيات، الاتفاقية البحرية بين حكومة الوفاق وتركيا، والتي تخالف القانون الدولي، وتلقى رفضاً أميركياً وأوروبياً، وحتى إقليمياً، كبيراً.
• التوافق حول منطقة منزوعة السلاح
لايزال الطرح المتعلق بجعل سرت منطقة منزوعة السلاح، وهو اقتراح أميركي مدعوم تركيّاً بالأساس، أن يُفقد الجيش الوطني الليبي إحدى أبرز نقاط قوته، المتمثلة في سيطرته على منطقة الهلال النفطي. كذلك، فإن رئيس مجلس النواب الليبي المستشار «عقيلة صالح»، رغم مبادرته لوقف إطلاق النار في أغسطس الماضي، فإن تلك المبادرة لم تتضمن أي حديث عن منطقة منزوعة السلاح في سرت. ورغم اتجاه المباحثات القائمة إلى تحويل سرت إلى عاصمة جديدة، باستقبالها للمؤسسات السياسية المختلفة؛ إلا أنه حتى الآن لم تخرج أي تصريحات عن الجيش الوطني في اتجاه القبول بخروج قواته من سرت.
• التوافق على دستور جديد
لا تخرج كل المباحثات القائمة عن اتفاق الصخيرات، الموقع في ديسمبر 2015، وهو الاتفاق الذي شكّلت بعض ثغراته جزءاً رئيساً من الأزمة السياسية الحالية، وبالتالي فإن هناك تحدياً متعلقاً بقدرة الفرقاء الليبيين على التوافق على إطار دستوري جديد، يدشن لمرحلة سياسية جديدة، كما أنّ من شأن أي خلافات قائمة في المدى المنظور، مع التوافق حول مرحلة انتقالية، أن تطيل تلك المرحلة، كما حدث في مراحل سابقة، حيث إن ليبيا، منذ عام 2010 وحتى الآن، لم تشهد توافقاً سياسياً على دستور جديد.
انفتاح سياسي
هناك حالة من حالات الانفتاح السياسي في المشهد الليبي القائم، وهي تعود بشكل أساسي لإدراك طرفَي الصراع الرئيسين - وكذلك بعض الأطراف الخارجية، لاسيما تركيا - عدم جدوى الحل العسكري، وارتفاع كلفة الصراع بمعطياته الحالية، بيد أن التوافق حول بعض القضايا الخلافية، أخيراً، يتطلب بالأساس ضرورة معالجة التحديات القائمة، وذلك من أجل تدشين مرحلة سياسية، قادرة على إعادة الأمن والاستقرار من جديد، بدلاً من إعادة إنتاج الماضي القريب بكل سلبياته.
تركزت المباحثات الأخيرة على ضرورة خلق مرحلة تمهيدية للحل الشامل، من خلال تهيئة البيئة الحالية لإجراء الانتخابات في موعد لا يتجاوز عاماً ونصف العام، وعلى أساس قواعد دستورية متفق عليها.