جمهوريون عديدون يزعمون أن أميركا «جمهورية».. وليست «ديمقراطية»
بما أن أقلية من الجمهور ظلت تتبادل السلطة في أميركا، فقد جعل ذلك بعض الجمهوريين، مثل: السيناتور، مايك لي، من ولاية يوتا، أن يذكرونا بأننا «لسنا ديمقراطية». والغريب في الأمر أن العديد من الجمهوريين، الذين يحتضنون رئيساً يعتدي بشكل روتيني على القواعد الدستورية، ظلوا يشيرون إلى أن أميركا ليست ديمقراطية، وإنما «جمهورية». وهناك بعض الحقائق التي تسند هذا الإصرار. لكن هذا الإصرار في معظمه مخادع، فقد عزز الدستور تبني شكل معقد من حكم الأغلبية، وليس حكم الأقلية.
كان الجيل المؤسس متشككاً بشدة في ما سماه بالديمقراطية «النقية»، ودافع عن التجربة الأميركية، باعتبارها تجربة «جمهورية بالكامل». فإذا اعتبرنا أن هذا المفهوم يعني الرفض التام للديمقراطية، فإنه يغفل، أيضاً، كيفية فهم فكرة حكومة تجمع كل الشعب، تضم الديمقراطيين والجمهوريين، عندما تمت صياغة الدستور والمصادقة عليه. كما أن مثل هذا الفهم يتجاهل، أيضاً، كيفية فهمنا لمفهوم الديمقراطية اليوم.
عندما تحدث المفكرون المؤسسون، مثل: جيمس ماديسون عن الديمقراطية، كانوا عادة يشيرون إلى الديمقراطية المباشرة، التي وصفها ماديسون في كثير من الأحيان بالديمقراطية «النقية». ميز ماديسون بين الجمهورية والديمقراطية المباشرة بشكل واضح في كتابه «الفيدرالية رقم 14»: «في الديمقراطية، يلتقي الناس ويمارسون الحكم شخصياً، وفي الجمهورية، يجتمعون ويديرونها من قبل ممثليهم ووكلائهم. وبالتالي، فإن الديمقراطية تقتصر على بقعة صغيرة. ويمكن أن تنسحب الجمهورية على منطقة كبيرة». كانت كل من الديمقراطية والجمهورية شكلين شعبيين للحكومة: استمد كل منهما شرعيته من الشعب واعتمد على حكم الشعب. كان الاختلاف الجوهري هو أن الجمهورية تعتمد على التمثيل، بينما في الديمقراطية «النقية»، يمثل الشعب نفسه.
رؤية ضيقة
في وقت التأسيس، سادت رؤية ضيقة لمفهوم الشعب، فقد تم استبعاد السود إلى حد كبير من شروط المواطنة، وكانت العبودية حقيقة واقعة، حتى عندما عبر البعض عن استيائهم منها، فقد ظلت موجودة جنباً إلى جنب مع الحكم الذاتي. ما جعل هذا الجيل يرى أن الديمقراطية أو الجمهورية أمر مزعج لنا، بقدر ما يمنح الرجال البيض فقط الحقوق الكاملة للمواطنة، وإن كان هناك بعض الاستثناءات. ولم يكن بالإمكان وصف الحكومة الأميركية بأنها حكومة شعب حقاً، إلى أن تم إقرار قانون الحقوق المدنية لعام 1964، وقانون حقوق التصويت لعام 1965، الذي أمر بالمواطنة المتساوية للأميركيين السود. لكن هذا الانتصار ظل متجذراً في إصرار الجيل المؤسس على ترسيخ الديمقراطية.
يقر تاريخ الديمقراطية، كما فهمه المؤسسون، والمستمد إلى حد كبير من العالم القديم، بأن الأغلبية المتسلطة يمكن بسهولة أن تخضع لحكم الغوغاء، والتي تسيطر على الأقليات، وتدوس على الحقوق الفردية. كانت الديمقراطية، أيضاً، عرضة لسيطرة الديماغوغيين - رجال «من ذوي الانتماءات الفئوية» و«المخططات الشريرة»، كما وصفهم ماديسون في «الفيدرالية رقم 10»- الذين اعتمدوا على «السلوك الشرير» لخيانة مصالح الناس. ومع ذلك، سعى ماديسون للدفاع عن حكومة الشعب - حكم الأغلبية - بدلاً من حكم القلة.
ويمكن فهم التصميم الدستوري الأميركي في هذا الشأن، على أنه محاولة لتأسيس شكل رصين من الديمقراطية. لقد فعل ذلك من خلال تبني التمثيل، وفصل السلطات، والضوابط والتوازنات، وحماية الحقوق الفردية - كل المفاهيم التي لم تكن معروفة في العالم القديم- عندما اكتسبت الديمقراطية سمعتها السيئة.
في «الفيدرالية رقم 10» و«الفيدرالية رقم 51»، جادل ماديسون بأن جمهورية كبيرة ذات مصالح متنوعة يحدها فصل السلطات والضوابط والتوازنات، ستساعد على توفير حل لأمراض حكومة الشعب. وفي مجتمع كبير ومتنوع، من المرجح أن تتبدد المشاعر الشعبوية، حيث لا يمكن لمجموعة واحدة أن تهيمن بسهولة على السلطة. إذا كانت هذه المشاعر المفرطة تأتي من أقلية من السكان، فإن «المبدأ الجمهوري»، الذي يعنى به ماديسون حكم الأغلبية، سيسمح بهزيمة «الآراء الشريرة من خلال التصويت المنتظم». ولكن الأمر الأكثر إشكالية هو المجموعات المتحمسة التي تتشكل كأغلبية.
ومع ذلك، لم يتبنَّ الدستور ديمقراطية الأغلبية البسيطة، حيث إن الولايات، ذات عدد السكان غير المتكافئ، حصلت على تمثيل متساوٍ في مجلس الشيوخ. كما منحت الهيئة الانتخابية وزناً للولايات في اختيار الرئيس. لكن مركزية الولايات، وهي تنازل عن الواقع السياسي، تمت موازنتها من قبل مجلس النواب، حيث ساد مبدأ التمثيل حسب السكان، والذي من شأنه أن يشكل العدد الهائل من الأصوات الانتخابية عند اختيار الرئيس. لكن لا شيء يبرر حكم الأقلية، والذي يتعارض مع «المبدأ الجمهوري». فقد ظل تصميم ماديسون أحد تصاميم الحكومات الشعبية على وجه التحديد، لأنه يدعو لبناء أغلبية سياسية بمرور الوقت.
أحد المؤلفين المشاركين في كتاب «الأوراق الفيدرالية»، وهو ألكسندر هاملتون، ردد هذه الحجة. وقدم هاملتون قضية الحكومة الشعبية ووصفها حتى بالديمقراطية: «ديمقراطية تمثيلية، حيث يتم تأمين حق الانتخابات وتنظيمها بشكل جيد وممارسة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والتي تُناط بأشخاص مختارين، يتم اختيارهم حقاً، وليس اسمياً من قبل الناس، في رأيي سيكونون دائماً أكثر سعادة وانتظاماً».
سعت التجربة الأميركية، كما قدمها هاملتون وماديسون، إلى استرداد قضية الحكومة الشعبية من تاريخها المتقلب. ونظراً لنجاح التجربة، وفقاً لمعايير أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر، فقد توصلنا إلى استخدام مصطلح الديمقراطية كبديل للديمقراطية التمثيلية، التي تتميز عن الديمقراطية المباشرة.
كان أكبر عيب في التجربة الأميركية، هو رؤيتها المحدودة للشعب، والتي استبعدت السود، والنساء، وغيرهم، من المواطنة الهادفة، ما قلل شأن الحكومة الشعبية. وفقاً للرئيس السابق أبراهام لينكولن، فإن توسيع نطاق المواطنة الهادفة بحيث «يتحتم حصول الجميع على فرصة متساوية»، كان هو الأساس الذي يعتمد عليه «إنقاذ» البلاد، وكان تعبير «نحن الشعب» وراء التعديلين الرابع عشر والخامس عشر في الدستور، واللذين تم التصديق عليهما في أعقاب الحرب الأهلية. حيث أقر التعديل الرابع عشر بأن جميع الأشخاص المولودين في الولايات المتحدة هم من مواطني الدولة، ولهم الحق في امتيازات وحصانات الجنسية.
ومنح التعديل الخامس عشر حق التصويت للرجال السود. ومنحت التعديلات اللاحقة، التاسع عشر والرابع والعشرون والسادس والعشرون، المرأة الحق في التصويت، وخفضت سن التصويت إلى 18 عاماً. وكان التقدم بطيئاً - وأحياناً يتوقف، كما يتضح من الجهود الحالية للحد من حقوق التصويت - وقد كافحت البلاد لتصبح الجمهورية الديمقراطية التي انطلقت قبل قرنين من الزمان. وفي الوقت نفسه، سعت، أيضاً، إلى إيجاد القيود الجمهورية الصحيحة، للسيطرة على الكم الهائل المتزايد من المواطنين، بحيث يمكن أن يسود حكم الأغلبية – لكن دون انقسامات فئوية.
السيادة الحقيقية
الرئيس أبراهام لينكولن، الذي واجه حرباً أهلية، وصف حكومة الشعب بأنها الاختبار العظيم للحكومة الشعبية، واستخدم الجمهورية الدستورية والديمقراطية بشكل مترادف، وصوّر ببلاغة التجربة الأميركية على أنها حكومة للشعب، ومن الشعب، ومن أجل الشعب. وبغض النظر عن تعقيدات التصميم الدستوري الأميركي، أصر لينكولن على أن «حكم الأقلية، كنموذج دائم، غير مقبول تماماً». وفي الواقع، قدم لينكولن تعريفاً للحكومة الشعبية، يمكن أن يساعدنا على فهم الديمقراطية - أو الجمهورية - اليوم: «الأغلبية، مقيدة بضوابط وقيود دستورية، وتتغير دائماً بسهولة، مع تغييرات في الآراء والمشاعر الشعبية، وهي السيادة الحقيقية الوحيدة لشعب حر».
لم يتبنَّ الدستور الأميركي ديمقراطية الأغلبية البسيطة، حيث إن الولايات، ذات عدد السكان غير المتكافئ، حصلت على تمثيل متساوٍ في مجلس الشيوخ، كما منحت الهيئة الانتخابية وزناً للولايات في اختيار الرئيس.
الرئيس أبراهام لينكولن استخدم الجمهورية الدستورية والديمقراطية بشكل مترادف، وصوّر التجربة الأميركية على أنها حكومة للشعب، ومن الشعب، ومن أجل الشعب.