روسيا تعلن الفوز بنجاح مهمتها في تشكيك الشعب الأميركي بديمقراطيته
قبل نحو ساعة من افتتاح أولى صناديق الاقتراع في الولايات المتحدة يوم الانتخابات، نشرت إحدى وكالات الأنباء التابعة للكرملين مقابلة مع رئيس جهاز المخابرات الخارجية الروسي، سيرجي ناريشكين، والتي ساعدت في تنظيم المحاولة الروسية للتدخل في انتخابات عام 2016. كانت توقعاته بنتيجة تصويت 2020 قاتمة للغاية، وقد كافح لقمع ابتسامة أثناء تصريحاته.
قال ناريشكين: «بغض النظر عمن سيفوز فإن الأزمة الاجتماعية في الولايات المتحدة ستزداد عمقاً، من يخسر سيرفض قبول النتيجة، ما يدفع الراديكاليين للنزول إلى الشارع». وأضاف «سيكون هذا الخلاف الكبير هو المهيمن على النظام بأكمله». ويسترسل: «لذا فإن هذا المرض سيصيب المجتمع الأميركي، وبالتالي سيستمر مرض الدولة الأميركية».
بيان نوايا
كان هذا البيان أكثر من مجرد توقع لناريشكين، الذي تولى قيادة جهاز المخابرات الخارجية الروسي في أكتوبر 2016 في ذروة الجهود الروسية لتخريب الانتخابات الأميركية، وكان حديثه يمثل أيضاً بيان نوايا. لم يكن هدف روسيا في عام 2016 مجرد مساعدة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الفوز بالرئاسة، لكن تقويض ثقة الجمهور في النظام الديمقراطي ككل، وبعد أربع سنوات يقول ويفعل الرئيس نفسه أشياء لها التأثير ذاته.
منذ يوم الانتخابات شكك ترامب مراراً وتكراراً في العملية الديمقراطية، وأعلن قبل الأوان فوزه صباح الأربعاء، وفي اليوم التالي غرد: «توقفوا عن العد»، حتى في ما يتعلق بملايين الأصوات التي لم يتم فرزها واعتمادها. ومساء الخميس في البيت الأبيض قال ترامب: «إنه نظام فاسد»، ما أثار انتقادات من السيناتور الجمهوري ميت رومني، الذي قال إن بيان الرئيس «يضر بقضية الحرية هنا وحول العالم».
هذا هو بالضبط ما يقلق الخبراء الأميركيين في الدعاية الروسية. يقول المسؤول الذي أشرف على عمليات وكالة المخابرات المركزية في أوروبا وآسيا قبل تقاعده في عام 2019، مارك بوليمروبولوس: «يبدو أن الروس يجتمعون الآن ويتأملون: هذا يتجاوز أحلامنا الجامحة»، ويختتم بقوله: «ويبدو أنهم أيضاً يوزعون ميداليات لمسؤولي جهاز مخابراتهم الخارجية».
قد لا يستمر هذا الشعور الذي يحسه الروس كثيراً، فقد تعهد المرشح للرئاسة جو بايدن «بفرض قيود صارمة وكبيرة ودائمة» على أي تدخل أجنبي في التصويت، إذا حالفه الحظ في الوصول الى منصب الرئيس. وشهد مسؤولون أميركيون من مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة الأمن الداخلي ووكالات أخرى مراراً وتكراراً بأن روسيا تتدخل في انتخابات 2020، ويبدو أن الكرملين قد أصبح قلقاً بشأن خطر رد الفعل الأميركي العنيف، ففي تقييم نُشر في الثالث من سبتمبر، ذكرت وزارة الأمن الداخلي الأميركية أن هدف الكرملين في عام 2020 كان «تقويض ثقة الجمهور في العملية الانتخابية».
فضيحة مصطنعة
سعى الكرملين إلى تحقيق الهدف نفسه في عام 2016، عندما أطلق حملة منسقة من الاختراقات وتسريب المعلومات المضللة التي بلغت ذروتها في إصدار رسائل بريد إلكتروني مسروقة من حملة المرشحة الرئاسية الديمقراطية السابقة هيلاري كلينتون. هذه المرة أطلق حلفاء ترامب جهودهم الخاصة، حيث لعب محامي الرئيس رودي جولياني دوراً رائداً عندما اختلق فضيحة بريد إلكتروني أخرى، استهدفت بايدن وابنه في الأسابيع التي سبقت التصويت.
لم تكن العملية سرية، فقد أعلن جولياني عن ذلك في قناته على «يوتيوب»، وتحدث عن مصادر أخبرته بالجهات التي تمد ابن بايدن بالويسكي والسيجار وبشأن الفساد المزعوم لما أسماه «عائلة بايدن الإجرامية». أحد هذه المصادر كان البرلماني الأوكراني أندري ديركاش، خريج أكاديمية التجسس الرئيسة في موسكو، والذي فرضت عليه الحكومة الأميركية عقوبات في سبتمبر بصفته «عميلاً روسياً نشطاً»، وفي يوم الانتخابات ظهر جولياني على قناة «آر تي»، وهي قناة ناطقة باللغة الإنجليزية تابعة للكرملين، لمهاجمة كل من بايدن وصلاحية التصويت عبر البريد.
بدا ظهور جولياني على إحدى وسائل الدعاية الروسية وقحاً وغريباً بشكل خاص في اليوم الذي توجه فيه الأميركيون إلى صناديق الاقتراع، لكن من منظور موسكو كان المشهد جزئياً هو النقطة المهمة في هذا الشأن، كما يقول أستاذ الحرب السياسية الروسية بجامعة نبو هافن بولاية كونيتيكت، ماثيو شميدت، ويقول أيضاً «غالباً ما تصمم روسيا عمليات يمكن اكتشافها بسهولة»، والهدف من ذلك هو أن «روسيا تريد أن تترك بصماتها في كل مكان، وتصور النظام السياسي الأميركي على أنه ضعيف للغاية وغير منظم بحيث يمكن لروسيا التلاعب به من مسافة بعيدة، باستخدام أي شيء أكثر تعقيداً من خلال حملة على وسائل التواصل الاجتماعي، وعدد قليل من المستفزين المستعدين لذلك». إن تغيير نتيجة الانتخابات ليس الغرض الوحيد من هذه العمليات، بل المهم هو أن يدرك العالم أن عملية التصويت تشوبها الشكوك.
خدعة روسية
خلال انتخابات التجديد النصفي لعام 2018، على سبيل المثال، كان أحد المفاهيم التي نشرها «المؤثرون الخبيثون» الروس هو أن روسيا قد سيطرت على أنظمة التصويت الأميركية، وفقاً لتقييم وزارة الأمن الداخلي الأميركية في الثالث من سبتمبر، وهي خدعة روسية أخرى، حيث قالت وكالات إنفاذ القانون الأميركية إنها لم تجد أي دليل على تلاعب في الأصوات سواء من قبل جهات أجنبية أو محلية.
لكن روسيا تستغل قدرتها على التلاعب بانتخابات الديمقراطيات الغربية على وجه التحديد من أجل تشويه سمعتها، كما صرح الرئيس السابق لجهاز المخابرات البريطانية الأجنبية «إم16»، أليكس يونغر لمجلة «التايم»، بعد تقاعده من التجسس في نهاية سبتمبر: «تشعر روسيا بالتهديد من متانة تحالفاتنا في البيئة الحالية وجودة مؤسساتنا الديمقراطية». ويسترسل: «إنها تسعى لتشويه سمعتنا، وتستخدم أجهزة الاستخبارات لتحقيق هذه الغاية».
وخرج بوليمروبولوس بالانطباع نفسه خلال تفاعله مع مسؤولي الأمن الروس، ويقول إنهم يعانون «عدم الشعور بالأمان ويشعرون بالرغبة في أن يكونوا متساوين معنا»، وهو ما يظهر في الطريقة التي حاولوا بها الجزم حتى أثناء الاجتماعات حول مكافحة الإرهاب وغيرها من القضايا ذات الاهتمام المشترك، بأن نظام الحكم الأميركي هو أكثر فساداً من النظام الروسي.
ويقول بوليمروبولوس «ظل الأمر دائماً يتعلق بتدميرنا، وإيجاد طريقة للقول: النظام الأميركي مصاب بالاختلال، وإنه غير كفء». وطالما استمر الرئيس الأميركي في تقديم هذه الرسالة بنفسه، ويمكن لبوتين ورئيس المخابرات أن يجلسا ويستمتعا بالعرض.
لايزال الأميركيون يعانون حالة الاستقطاب
في صبيحة يوم الانتخابات، وجد الأميركيون أنفسهم أمام سيل حقيقي من بيانات استطلاعات الرأي تشير إلى إمكانية - بل احتمالية - موجة زرقاء لم تشهدها البلاد، منذ أن هزم المرشح آنذاك، والرئيس الأميركي في ما بعد باراك أوباما عام 2008 منافسه جون ماكين، أو عندما أطاح المرشح السابق أيضاً، والرئيس فيما بعد بيل كلينتون، بآمال منافسه بوب دول.
ولكن عندما بدأت الأصوات في الظهور، وتبددت الآمال في اكتساح الموجة الزرقاء المشهد بالسرعة نفسها التي حدثت في ولايتي فلوريدا وتكساس بعد إحصاء أصواتهما، أصبحت النتيجة الانتخابية ضبابية للحظات، كما أصبحت الحقائق الوطنية الأساسية أكثر وضوحاً. مرة أخرى، أظهرت استطلاعات الرأي خطأها، وهذا يشير الى أن أميركا لاتزال مستقطبة بشدة، وأن عدداً قليلاً من الناخبين يمكن إقناعهم.
نادراً ما يحدث الكثير في أميركا ولا تتغير البلاد كثيراً، لكن في عام 2020 وحده هناك الكثير من الأحداث التي لم تغير الكثير في المشهد الوطني، فقد حاول مجلس النواب عزل الرئيس، وتسببت جائحة كورونا في مقتل أكثر من 230 ألف أميركي وأصابت عدداً لا يحصى، وتحملت البلاد انهياراً اقتصادياً تاريخياً، وأدت الأعمال المروّعة للشرطة في مينيابوليس إلى تصاعد الانقسامات العرقية في أميركا، ما تمخض عنه احتجاجات واضطرابات مدنية في المدن والبلدات من الساحل إلى الساحل.
جميع تلك الأحداث صادمة بشكل فريد، وجعلت عام 2020 مؤلماً بشكل خاص للجمهور الأميركي، ومع ذلك من الناحية السياسية، لم تؤد هذه الأحداث الزلزالية إلا إلى القليل من التغيير السياسي.
إذا ألقينا نظرة على استطلاعات الرأي، ففي عام 2016 فاز دونالد ترامب بنسبة 58٪ من أصوات البيض، وفي عام 2020 فاز بنسبة 57٪ من أصواتهم، وفي عام 2016 فازت هيلاري كلينتون بـ89٪ من أصوات السود، وفي عام 2020 فاز جو بايدن بنسبة 87٪ من أصواتهم، وفي عام 2016 فازت كلينتون بنسبة 66٪ من أصوات ذوي الأصول الإسبانية، وفي عام 2020 فاز جو بايدن بنسبة 66٪ من أصواتهم. تعدّلت الهوامش الإجمالية بشكل طفيف للغاية - ويمكن لهذه التعديلات الطفيفة أن تحدث فرقاً بين الفوز والخسارة في حالات التأرجح المقسمة بشكل وثيق - لكن الرسالة العامة كانت واضحة تماماً، لاتزال ولاءاتنا القبلية قوية للغاية.
وتجدر الإشارة هنا إلى دور الهيئة الانتخابية ومجلس الشيوخ. يكاد يكون من المؤكد أن الحزب الجمهوري قد خسر التصويت الشعبي للمرة السادسة في آخر سبع انتخابات رئاسية، ومع ذلك ليس لديه سبب حقيقي للاعتقاد بأن الرئاسة أو مجلس الشيوخ ينزلقان خارج قبضته. وفي الواقع يبدو أن سيطرة الحزب الجمهوري على مجلس الشيوخ مرجحة، والنتيجة هي شعور بالإحباط السياسي المتزايد من غالبية الشعب، وليس لديهم طريق حقيقي لإصلاح نظام لا يمكنهم السيطرة عليه.
يكاد يكون من المؤكد أن الحزب الجمهوري خسر التصويت الشعبي للمرة السادسة في آخر سبعة انتخابات رئاسية، ومع ذلك ليس لديه سبب حقيقي للاعتقاد بأن الرئاسة أو مجلس الشيوخ ينزلقان خارج قبضته.
نادراً ما يحدث الكثير في أميركا ولا تتغير البلاد كثيراً، لكن في عام 2020 وحده هناك الكثير من الأحداث التي لم تغير الكثير في المشهد الوطني، فقد حاول مجلس النواب عزل الرئيس، وتسببت جائحة كورونا في مقتل أكثر من 230 ألف أميركي، وأصابت عدداً لا يحصى، وتحملت البلاد انهياراً اقتصادياً تاريخياً، وأدت الأعمال المروّعة للشرطة في مينيابوليس إلى تصاعد الانقسامات العرقية في أميركا.