السودان يتجه ليصبح مسرحاً لتزاحم القوى العظمى
خلال شهر نوفمبر الماضي، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن اتفاق مع السودان لإنشاء ميناء بحري بقدرات ملائمة لاستقبال سفن تعمل بالطاقة النووية. ولكن الخرطوم لم توافق على الصفقة في حينه، واتضح في ما بعد أنها أصبحت منسية. ولكن بعد مرور ستة أشهر، كان الروس لايزالون في حالة انتظار، على الرغم من أن فرص حدوث مثل هذه الصفقة كانت معدومة، لأن الولايات المتحدة لن تسمح بتحقيقها.
وأدى احتمال قيام قاعدة عسكرية روسية في إفريقيا، إضافة إلى القاعدة الصينية في جيبوتي، وأضخم قاعدة عسكرية تركية خارج أراضيها في الصومال، إلى دفع الولايات المتحدة إلى إعادة التفكير في أولوياتها في إفريقيا.
كبح نفوذ الصينيين والروس
والآن، لم تعد قيادة الولايات المتحدة العسكرية في إفريقيا تركز على منع الإرهاب فقط، وإنما على كبح نفوذ الصينيين والروس في القارة الإفريقية. وتضاعفت ميزانية هذه القيادة في إفريقيا لتمويل عملياتها في القارة السمراء.
وبالنسبة لروسيا، فإن حصولها على قاعدة بحرية في شمال شرق إفريقيا سيخدم العديد من أهدافها. ولطالما كانت الدول الافريقية الزبائن الرئيسة للمعدات العسكرية الروسية. واستثمرت شركات الطاقة الروسية، أمثال «غازبروم، ولوكويل، وروستيك، وروساتوم»، جميعها بكثافة في القارة الإفريقية. وخلال الأشهر الستة الماضية، كانت روسيا تستخدم ميناء بورتسودان لإمداد الأسلحة لشركة الأمن الروسية الخاصة «فاغنر غروب» التي تعمل لمصلحة الحكومة في جمهورية إفريقيا الوسطى.
ومن الناحية اللوجستية، فإن الحصول على قواعد عسكرية في مختلف أنحاء العالم أمر مهم للغاية، إذ يستطيع الأسطول البحري الروسي الرسو فيها وإعادة التزوّد بالطاقة والمؤن. وبالطبع فإن الحصول على قاعدة بحرية في بورتسودان، هذه المنطقة التي تُعدّ معبراً بحرياً مزدحماً، من شأنه أن يمنح المكانة والفرص لتوسيع النفوذ السياسي والاقتصادي لروسيا في شرق ووسط إفريقيا. وفي الحقيقة فإنه لم يعد سراً أن الكرملين مهتم بإقامة مشروعات استثمارية واسعة في السودان، خصوصاً في مجال الاتصالات والطيران والزراعة.
أميركا تعيد تقييم مصلحتها
ويُعدّ السودان إحدى أشد دول العالم فقراً، ولكنه من ضمن أكبر ثلاث دول في استخلاص مناجم الذهب. ويمتلك السودان 1.5 مليون طن متري من احتياطي اليورانيوم، كما أن دولة جنوب السودان الغنية بالنفط تصدّر نفطها عن طريق أنابيب تمر من السودان.
وبناءً عليه فإنه ليس من المدهش أن الولايات المتحدة ترى في احتمال سيطرة روسيا على السودان ليس مجرد تحذير من تهديد محتمل للمصالح الأميركية في المنطقة فحسب، بل مؤشر يدفع الولايات المتحدة إلى إعادة تقييمها لمصلحتها في السودان، ولهذا السبب قام مسؤولون عسكريون أميركيون كبار بزيارة للسودان.
وكان نائب رئيس القيادة الأميركية في إفريقيا للتعاون المدني العسكري أندرو يونغ، ورئيسة مديرية الأمن البحري العميد البحري هايدي بيرغ، في زيارة للسودان في يناير الماضي. وكانت سفينة النقل البحري السريع التابعة لقيادة النقل البحري العسكري الأميركي «يو إس إن إس كارسون» قد دخلت إلى ميناء بورتسودان في 24 فبراير الماضي. ومن ثم وصلت المدمرة وحاملة الصواريخ «يو إس إس وينستون تشرشل» في الأول من مارس الماضي.
إلغاء الإذن
ووفق وسائل الإعلام العربية، فقد ألغت حكومة الخرطوم إذناً كان سيمنح البحرية الروسية فرصة إنشاء قاعدة لها في السودان، وكان من المقرر أن يكون موقعها في شمال مدينة بورتسودان. ورفضت موسكو هذه الإدعاءات واعتبرتها شائعات غربية مضللة. وسواء كان ذلك صحيحاً أم غير ذلك، فإن الحقيقة الراسخة التي ظهرت على الملأ مهمة بحد ذاتها، وتوحي بالتأكيد أن ضغوط واشنطن كانت العامل الرئيس في جعل الخرطوم تلغي رخصة إنشاء قاعدة روسية.
ومن الواضح أن الولايات المتحدة لاتزال هي اللاعب الرئيس في الشرق الأوسط، ولن تتنازل عن هذا الدور بسهولة. وفي بداية شهر مارس، تلقى السودان 1.15 مليار دولار من الولايات المتحدة كي تسدد قرضاً للبنك الدولي. واستجابة لذلك أعلن البنك الدولي استئناف علاقاته مع الخرطوم بعد انقطاع دام نحو ثلاثة عقود. وتوصل السودان أيضاً إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي بشأن تخفيف ديون تبلغ 50 مليار دولار. وكلا الأمرين يمكن اعتبارهما مؤشرين على أن السودان على وشك دخول الفلك الجيوسياسي الأميركي.
وبالمقارنة، ألغت روسيا عام 2014 ديوناً على السودان قدرها 17 مليون دولار، على أمل كسب ود السودان والوصول إلى البنية التحتية للغاز والنفط فيه، ولكن حتى هذه البادرة من موسكو لم تمنحها المكافأة التي ترجو الحصول عليها، والمتمثلة في الحصول على موطئ قدم داخل هذا البلد الإفريقي.
ويبدو أن السودان أصبح في هذه المرحلة ميداناً لإعادة «لعبة التنافس الكبرى» والمواجهة الدبلوماسية والسياسية التي كانت بين الإمبراطوريتين البريطانية والروسية في أفغانستان ووسط آسيا، واستمرت لمعظم فترة القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ولكن هذا الصراع أصبح الآن ثلاثياً بين الولايات المتحدة والصين وروسيا.
والسودان هو مجرد حجر شطرنج هنا، ولكن حتى حجارة الشطرنج يمكن أن تتحرك عاجلاً أم آجلاً، ولذلك يتعين على الخرطوم التحرك بحكمة في ما يتعلق بخيار السير في الأمثل بالنسبة لها.
• يُعدّ السودان إحدى أشد دول العالم فقراً، ولكنه من ضمن أكبر ثلاث دول في استخلاص مناجم الذهب. ويمتلك السودان 1.5 مليون طن متري من احتياطي اليورانيوم، كما أن دولة جنوب السودان الغنية بالنفط تصدّر نفطها عن طريق أنابيب تمر من السودان.
• أدّى احتمال قيام قاعدة عسكرية روسية في إفريقيا، إضافة إلى القاعدة الصينية في جيبوتي، وأضخم قاعدة عسكرية تركية خارج أراضيها في الصومال، إلى دفع الولايات المتحدة إلى إعادة التفكير في أولوياتها في إفريقيا.
السودان أصبح في هذه المرحلة ميداناً لإعادة «لعبة التنافس الكبرى» والمواجهة الدبلوماسية والسياسية التي كانت بين الإمبراطوريتين البريطانية والروسية في أفغانستان ووسط آسيا، واستمرت لمعظم فترة القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
• ليس من المدهش أن الولايات المتحدة ترى في احتمال سيطرة روسيا على السودان ليس مجرد تحذير من تهديد محتمل للمصالح الأميركية في المنطقة فحسب، بل مؤشر يدفع الولايات المتحدة إلى إعادة تقييمها لمصلحتها في السودان.