بغداد تقف على مفترق طرق
مستقبل العلاقة بين الحكومة العراقية و«الحشد» بعد أحداث «26 مايو»
تعكس تفاعلات المشهد العراقي، التي تلت استعراض فصائل من الحشد الشعبي قوتها العسكرية في المنطقة الخضراء في 26 مايو الفائت، رداً على اعتقال السلطات الأمنية العراقية قاسم مصلح الخفاجي، قائد عمليات غرب الأنبار في الحشد، انسداداً في آفاق العلاقة بين الظهير السياسي للميليشيات الولائية والحكومة العراقية، وهو سياق متوقع في ظل النظرة المتبادلة بين الطرفين حول حدود المسؤولية والصلاحيات المخولة للحكومة. فالأجنحة السياسية للميليشيات الولائية، لاسيما «عصائب أهل الحق» و«حزب الله» العراقي، ومعظم مكونات «ائتلاف الفتح»، تنظر إلى الحكومة باعتبارها حكومة انتقالية، تقتصر صلاحياتها على الوصول إلى محطة الانتخابات التشريعية، والتعامل مع بقية الملفات بمنطق «تسيير الأعمال». وفي المقابل، تعتبر الحكومة نفسها حكومة كاملة الصلاحيات الدستورية، لكنها محكومة زمنياً فقط بالمرحلة الانتقالية.
وعلى الرغم من أن هذه السياقات لم تكن مفاجئة في إطار العلاقة بين الطرفين، لاسيما موقف رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، الذي أعلن تحديه أكثر من مرة لمواقف قيادات سياسية محسوبة على الحشد، وإصراره على التحقيق مع الخفاجي عبر القنوات الرسمية، وعدم تسليمه لأمن الحشد وفق ما طالبت به بعض قياداتها، لكن يمكن القول إن هذه الحادثة تشكل مفترق طرق بشكل عام في المشهد العراقي، في ظل عدد من المؤشرات، منها:
1- انخراط القوات المسلحة للمرة الأولى في الأزمة
حرص وزير الدفاع، جمعة عناد، على توجيه رسائل مباشرة بأن الدور الذي تقوم به ميليشيات الحشد له حدود على الأرض، حيث قال إن «مَن يعتقد أن عمليات التحرير التي جرت ضد تنظيم (داعش) الإرهابي لم تكتمل لولا الحشد، فهو مخطئ، لأن قوات الجيش هي التي أسهمت في تحرير العراق، وبإمكانها القيام بعمليات التحرير وحدها، لكن الحشد أسهم في تسريع التحرير فقط، ولولا إسناد طيران الجيش والقوة الجوية لما حصل الانتصار»، وقد فُسرت تلك التصريحات التي كررها عناد أكثر من مرة، على أنها تعبر عن محاولة لتقليص دور الحشد في الحرب ضد تنظيم «داعش»، بالإشارة إلى أن دورها سرَّع من العملية، لكنه لم يكن الدور الحصري، وذلك في سياق موقف عناد الاحتجاجي ضد الاستعراض العسكري للميليشيات عند المنطقة الخضراء، وتأكيده على أن هذا الاستعراض لا يخيف الدولة التي يمكنها السيطرة عليه.
2- اهتزاز مكانة الحشد
أصبح الحشد في موقع الاتهام بشكل رسمي، حيث تشكل الحادثة السابقة الأولى من نوعها على هذا المستوى، كما أنها فتحت بالتبعية ملفات أخرى، منها حقيقة الولاء والانتماء لبعض قوى الحشد للدولة، ومدى توظيف الحشد في المشهد السياسي، لممارسة أدوار لمصلحة قوى سياسية ترغب في إبعاد الناشطين عن مشهد الانتخابات، حتى لا يؤثر في الزخم السياسي للحشد.
3- مسلسل تصدع الميليشيات
أدى الاستعراض العسكري إلى تباين المواقف داخل الحشد، فهناك قطاع ضد تلك التوجهات التي يمارسها ساسة محسوبون على الميليشيات، لكن في الغالب حاول هذا القطاع التزام الصمت أو الحياد في الأزمة، في المقابل فإن الاستعراض كان لقطاع موجه من قيادات سياسية لديها خصومة مع الكاظمي، وتصر على أنها معركة عليها أن تنتصر فيها، وهو ما ظهر في احتفالات تلك الفصائل عندما تم الإعلان عن إطلاق سراح الخفاجي، قبل أن يتم نفي تلك الأنباء، وهو ما يمثل المرحلة الثانية من التصدع في مسار الحشد، وانقسامها ما بين حشد «العتبات» الموالي لمرجعية العراق، الذي عقد مؤتمراً في سبتمبر الماضي، أعلن فيه عدم الانخراط في العمل السياسي، والحشد الولائي المحسوب على طهران، وتبع ذلك أخيراً الحديث عن تشكيل الحرس الثوري فصائل مسلحة سرية ولائية جديدة.
4- صدامات متعددة
بدأ التصادم بالحديث حول المسؤولية عن كسر هيبة الدولة، فهادي العامري في بيانه الأول ربط هيبة الحشد بهيبة الدولة، واعتبر أن «مَن يكسر هيبة الحشد يكسر بالتبعية هيبة الدولة». في المقابل، جاءت تصريحات الكاظمي، ثم وزير الدفاع، على العكس من ذلك، عندما أكدت على مقاومتها لمظاهر «انفلات السلاح»، التي تمثل محاولة لكسر هيبة الدولة. وقد اتسعت دائرة التصادمات الداخلية تدريجياً، حيث كان لافتاً أيضاً أن المجلس الأعلى الإسلامي، بزعامة عمار الحكيم، الذي ينضوي تحت ائتلاف الفتح بقيادة هادي العامري، انتقد الاستعراض العسكري، ما يعكس تباين المواقف السياسية داخل الائتلاف.
وانتقل مشهد التباين بشكل حاد في المواقف إلى المؤسسات المختلفة، منها البرلمان الذي شهد جلسة عاصفة، شنت فيها كتلة الفتح هجوماً على الحكومة، وتحديداً وزير الدفاع، إلى درجة اتهامه بالتحريض والاستفزاز، والمطالبة بمحاسبته، كذلك بدا أن هناك تبايناً حول موقف «المرجعية» عندما أعيد نشر مقتطفات من خطبة «النصر»، للمرجع العراقي علي السيستاني عام 2017، التي دعا فيها الذين شاركوا في الدفاع الكفائي إلى المحافظة على «المكانة الرفيعة والسمعة الحسنة»، وعدم استغلال المكانة في تحقيق مآرب سياسية، فهناك مَن اعتبر أن إعادة النشر مجرد مصادفة، في حين أن معظم المراقبين اعتبروا أن الأمر ليس مصادفة، وإنما إسقاط على الأزمة الحالية.
السيناريو التالي
يمكن القول إن التفاعلات التي تجري على الساحة السياسية العراقية قد تتجه إلى أحد المسارين التاليين:
1- تراجع تكتيكي للحشد
ربما يكون الحشد قد خسر جولة، لكنه سيواصل المعركة ضد الكاظمي، كنوع من التكتيك لوقف التصادم، وهو ما جاء في سياق الحديث عن هدنة بين الأطراف، وعدم التصعيد من خلال المظاهر المسلحة، والاكتفاء بالتصعيد السياسي، على نحو ما جرى في البرلمان، بتحويل تحالف الفتح المشهد من المواجهة مع رئيس الوزراء إلى مواجهة مع وزير الدفاع، باعتباره محرضاً ضد الحشد، بالتوازي مع محاولة تفادي تنامي موجة التصعيد من جانب الناشطين السياسيين، الذين أطلقوا حملة «مَن قتلني»، في محاولة قد تؤدي إلى اهتزاز صورة الحشد خلال مرحلة الانتخابات المقبلة، مع الاحتفاظ بهامش للوساطة بهدف تلطيف الأجواء.
2- موجة أعنف من التصعيد
حتى مع احتواء أزمة الخفاجي بتداعياتها، لا يعتقد أنها الأزمة الأخيرة في ظل وصول الطرفين إلى مرحلة الصدام، إذ ربما تندلع موجة ثانية أعنف من التصعيد المتبادل في حال استمرار عمليات الاغتيال السياسي، خصوصاً أنه أصبح هناك طرف في دائرة الاتهام، إضافة إلى أن عملية الاحتواء وأدوار الوساطة التي تقوم بها بعض القوى لن تغير في معادلة العلاقة التي ترسخت بين الكاظمي وخصومه، وتحولت إلى معركة «تكسير عظام»، وربما يعاد تأجيج الأزمة مرة أخرى في حال إدانة الخفاجي.
مرحلة متقدمة للصدام
يمكن القول إن سابقة اعتقال قاسم الخفاجي وتداعياتها تمثل، وفقاً للمراقبين العراقيين، مرحلة متقدمة من مراحل الصدام بين قوى الدولة وقوى اللادولة، وسيحسب للحكومة الانتقالية أنها أعادت تسليط الضوء على أولوية إعادة الاعتبار للدولة، وهو مشهد غير مسبوق في الحالة العراقية، لكنه يظل مرتبطاً بالمرحلة الانتقالية، ولم يختبر بعد في السياقات الطبيعية التي تتشكل فيها الحكومات كتعبير عن إفرازات توازنات القوى، وبالتالي فإن المحك الفعلي سيظهر في ضوء نتائج الانتخابات المقبلة، وما إذا كانت ستعيد تشكيل توازنات القوى السابقة أم ستغير الخريطة، لكن خارج سياق المرحلة الانتقالية، فإن المتغير الخاص بالعلاقة بين القوات المسلحة والحشد ربما سيأخذ مساراً مستقلاً على المديين المتوسط والطويل، وعلى الأرجح ستبقى العلاقة محكومة بالتوتر في ظل تحدي الاندماج المؤسسي.
• حرص وزير الدفاع، جمعة عناد، على توجيه رسائل مباشرة بأن الدور الذي تقوم به ميليشيات الحشد له حدود على الأرض، حيث قال إن «مَن يعتقد أن عمليات التحرير التي جرت ضد تنظيم (داعش) الإرهابي لم تكتمل لولا الحشد، فهو مخطئ، لأن قوات الجيش هي التي أسهمت في تحرير العراق».
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news