«المدن الإسفنجية» في الصين.. برنامج رائد أربكه فيضان غير مسبوق
واجه برنامج «المدن الإسفنجية» الصيني، الذي تبلغ كلفته مليارات الدولارات للتخفيف من الفيضانات في المناطق الحضرية باستخدام الوسائل الطبيعية، أكبر اختبار له الأسبوع الماضي، وأظهرت التقلبات الجوية نقائص المشروع المبتكر.
وغمرت الأمطار الغزيرة المفاجئة، في 20 يوليو، مدينة تشنغتشو غير الساحلية، وهي واحدة من 30 مدينة معنية ببرنامج المدن الإسفنجية، ما تسبب في فيضانات هائلة في نظام مترو الأنفاق والطرق السريعة، وعبر المدينة والمنطقة المحيطة بها، إذ سقطت كميات هائلة من الأمطار في أربعة أيام.
وتقول أستاذة العلوم البيئية في جامعة نوتنغهام - نينغبو الصينية، فيث تشان، التي تبحث في مشاريع مدينة الإسفنج: «إن حادثة تشنغتشو نادرة جداً ومؤسفة للغاية»، لكنها أضافت: «يمكننا التعلم من هذه الحادثة». ويهدف برنامج مدينة الإسفنج الصيني إلى استخدام الأرصفة والحدائق، والأسطح الخضراء، والأراضي الرطبة الحضرية، وغيرها من الابتكارات لامتصاص المياه أثناء العواصف، ثم تنقي التربة ذلك الماء وتطلقه تدريجياً مثل الإسفنج.
واستثمرت الحكومة الصينية أكثر من 12 مليار دولار في البرنامج، منذ عام 2014، لمساعدة المدن على إنشاء طبقات إسفنجية على 20٪ من مساحاتها، بهدف الاحتفاظ بـ80٪ من مياه الأمطار كل عام، أو إعادة استخدامها، بحلول عام 2030. ويعد البرنامج محاولة من جانب الصين لإحداث توازن بين بناء المناطق الحضرية، والمتطلبات البيئية، وهي جهود قد تقدم نموذجاً للدول الأخرى المعرضة للفيضانات.
وعلى الرغم من أن مدينة تشنغتشو أنفقت أكثر من 80 مليون دولار، منذ عام 2016، لإنشاء أحزمة خضراء، وطرق مرنة مع المياه، وآبار تجميع، للحد من الفيضانات الناجمة عن هطول الأمطار الغزيرة أو الفيضانات من الأنهار الرئيسة، فإن شدة أمطار الأسبوع الماضي غمرت المنطقة المصممة لامتصاصها بسرعة.
وتقول تشان: «بالنسبة لهذا النوع من الأمطار، ستتشبع التربة بسرعة كبيرة جداً»، متابعة: «برنامج مدينة الإسفنج هو برنامج جيد، لكنه لا يتحمل سوى عاصفة خفيفة أو كبيرة»، والتي تأتي مرة واحدة كل 30 عاماً، كما تقول. والمهمة التي تنتظر حكومة الصين ليست التخلي عن النهج الأكثر استدامة، وصداقة للبيئة، لامتصاص مياه العواصف وإعادة تدويرها، ولكن إيلاء اهتمام أكبر للظروف المناخية الشديدة وحالة عدم اليقين.
غابة خرسانية
يكمن أساس الخطر المتزايد للفيضانات الناجمة عن تغير المناخ في التوسع الحضري غير المسبوق في البلاد، ومنذ عام 1978 تضاعف عدد سكان المدن في الصين خمس مرات، ليصل إلى 900 مليون، وبالتالي يعيش 64٪ من السكان البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة الآن في المدن، ونظراً لأن الطرق السريعة والمباني والبنية التحتية الأخرى، تمهد الأرض وتقلص المساحات الخضراء، فقد برزت الفيضانات السطحية باعتبارها أخطر مشكلة تتعلق بالمياه في المناطق الحضرية، إذ تؤثر الفيضانات على عشرات المدن الصينية كل عام. وأنظمة الصرف الحضري في معظم المدن الصينية غير كافية لمواجهة مخاطر الفيضانات الحضرية المتزايدة في ظل تغير المناخ.
وفي يوليو من العام الماضي، تضرر أكثر من 20 مليوناً من سكان المدن من الفيضانات في 24 مقاطعة، وفقاً لورقة بحثية أعدها علماء صينيون.
وحفزت المشكلة أيضاً على إعادة التفكير في البنية التحتية التقليدية، للتحكم في الفيضانات السائدة في الصين، وقد شُيد 97 ألف سد منذ خمسينات القرن الماضي. ويقول الخبراء إن تركيز الحكومة على بناء السدود والحواجز لمنع الفيضانات النهرية كان أقل فاعلية في ضمان حماية المدن المزدهرة، خصوصاً عندما تكون الأمطار غزيرة.
ويقول كيرك بارلو، وهو خبير في مؤسسة «إنترناشيونال ريفرز» لحماية الأنهار حول العالم، بولاية كاليفورنيا: «عادةً ما يتم النظر إلى السدود على أنها أدوات لتخفيف آثار الفيضانات، ولكن مع زيادة حجم السدود، فإنها تميل إلى تعقيد ضوابط التحكم في الفيضانات، بسبب عدم القدرة على توقع تغير المناخ». ويشير بارلو إلى انهيار سدين في منغوليا الداخلية، بسبب الأمطار الغزيرة في منتصف يوليو.
علاقة متناغمة
يُعتبر أستاذ هندسة المناظر الطبيعية بجامعة بكين، يو كونغجيان، المهندس الرئيس لمفهوم مدينة الإسفنج. وخلال المنتدى الاقتصادي العالمي في عام 2019، وصف كونغجيان النهج السابق للوقاية من الفيضانات بأنه «خاطئ تماماً»، موضحاً: «أعتقد أنه يمكننا استخدام الخرسانة لتوجيه النهر، ويمكننا استخدام السدود لحماية المدينة من الفيضانات، كما يمكننا تصريف كل المياه»، لكنه استدرك: «تتسبب مثل هذه الهياكل في حدوث فيضانات أيضاً، تلك البنى التحتية الرمادية هي في الواقع قاتلة للنظام الطبيعي، والتي يتعين علينا الاعتماد عليه من أجل مستقبلنا المستدام».
ويرى كونغجيان أن مدينة الإسفنج تسهم في إيجاد علاقة أكثر انسجاماً بين البشر والطبيعة، والتي تمنح المياه في الواقع مساحة أكبر للتجمع في المناطق الحضرية، مثل الحدائق التي تجف في بعض المواسم، أو تصبح بركاً، أو قنوات ضحلة في مواسم الأمطار.
ويقول الخبير الصيني: «الفيضانات ليست عدواً، إذ يمكننا تكوين صداقات معها». ولكن حجم الأمطار في مدينة تشنغتشو، عاصمة مقاطعة خنان، الواقعة على سهل شمال الصين القاحل، صدم المدينة وابتلع معالمها.
وعلى الرغم من التنبيهات الحمراء من خبراء الأرصاد الجوية، استمر 12 مليون شخص في الذهاب إلى العمل والمدرسة كالمعتاد عندما هطلت أمطار غزيرة، وغمرت المياه الطرق وأجزاء من نظام مترو الأنفاق، حيث حوصر نحو 500 شخص لساعات، وسط ارتفاع منسوب المياه. وتشبث المسافرون بالأشجار وأعمدة الإنارة، مع تدفق المياه بكميات هائلة في أنحاء المدينة، وبلغ عدد الضحايا 73، بحسب وسائل الإعلام الحكومية. وأدى الفيضان إلى قطع الكهرباء، ومياه الشرب، والإنترنت واتصالات الهاتف في المدينة والمناطق النائية، ما أثر على 13 مليون شخص، وأُجبر أكثر من مليون صيني على ترك منازلهم.
خسائر كبيرة
تم القضاء على نحو 182 ألف هكتار من المحاصيل الزراعية، والآلاف من الخنازير وغيرها من الماشية في الأراضي الزراعية المحيطة، في المنطقة المعروفة باسم «سلة الخبز» في الصين، ما زاد من الأضرار الاقتصادية الإجمالية المقدرة بأكثر من 10 مليارات دولار.
وقال الخبراء إن الفيضان الأخير سلط الضوء على ضرورة معالجة مشكلة التشبع بالمياه في المدن. وفي ذلك يقول مدير معهد الشؤون العامة والبيئية في بكين، ما جون «من الواضح أننا بحاجة إلى التعامل مع هذا بجدية أكبر بكثير»، متابعاً «حدوث ذلك يتطلب أحياناً نوعاً من كارثة كبيرة حقيقية»، مشيراً إلى وجود «فجوة» في استجابة إدارة المدينة، ويقول: «لا ينبغي أن نهدر أي أزمة ونأخذ ذلك كدرس، والاتجاه العام لهطول الأمطار الشديدة والغزيرة واضح».
مسألة حساسة
بينما تكافح تشنغتشو للتعافي، فإن خطر الفيضانات المتزايد يضرب العصب السياسي في الصين، إذ تم ربط تفويض الحاكم منذ العصور القديمة بقدرة الدولة على «ترتيب موارد المياه»، من خلال السيطرة على الفيضانات، وقد سقطت السلالات الحاكمة عندما فشلت في هذه المهمة.
وتتمحور أساطير أصل الصين حول «يو» العظيم، وهو مؤسس السلالة الأولى «شيا»، والذي وفقاً للأسطورة، قام بحفر أحواض الأنهار في سهل شمال الصين، حيث يتدفق النهر الأصفر الآن عبر تشنغتشو.
وتقول سابرينا هابيش سوبيغالا من معهد الدراسات الصينية في جامعة برلين الحرة: «على مدار التاريخ وفي القرن العشرين، كانت إدارة الموارد المائية والسيطرة على الفيضانات من القضايا السياسية للغاية في الصين».
وفي انعكاس لهذه الحساسية، أصدر الرئيس الصيني شي جين بينغ «تعليمات مهمة» في 21 يوليو، بعد يوم من فيضان تشنغتشو، يطالب السلطات بإعطاء الأولوية للوقاية من الفيضانات، و«تحديد المخاطر الخفية»، وتحسين نظام الإنذار المبكر لهطول الأمطار.
وحذر مسؤولو مكافحة الفيضانات وخبراء الأرصاد الصينيون من احتمال هطول مزيد من الأمطار الغزيرة، والأعاصير والفيضانات، خلال أغسطس، بما في ذلك المدن الكبرى مثل بكين وتيانغين. وتعهدوا بتكثيف مراقبة الأنهار والخزانات، وتقديم تحذيرات مبكرة من كارثة الطقس للسماح بالإجلاء في الوقت المناسب، وفقاً لتقارير وسائل الإعلام الحكومية.
أهداف طموحة
تقول أستاذة العلوم البيئية في جامعة نوتنغهام- نينغبو الصينية، فيث تشان، إن الأهداف التي حددتها الحكومة بالنسبة لمدن الإسفنج لامتصاص المياه، «طموحة للغاية»، وقد يتم تعديلها في النهاية، موضحة أن التحديات مثل القيود المالية والافتقار إلى المشاركة العامة بسبب نهج سياسة الصين من أعلى إلى أسفل، أدت إلى إبطاء التنفيذ.
ومع ذلك يعتقد خبراء البيئة أن الأمطار الكارثية في مدينة تشنغتشو، وأماكن أخرى، ستساعد في زيادة الوعي في الصين بشأن المخاطر المتزايدة لتغير المناخ وضرورة العمل في هذا السياق.
• 97 ألف سدّ تم إنشاؤها في الصين منذ خمسينات القرن الماضي.
• 900 مليون شخص يسكنون المدن في الصين.
يقول الخبراء إن تركيز الحكومة على بناء السدود والحواجز لمنع الفيضانات النهرية، كان أقل فاعلية في ضمان حماية المدن المزدهرة، خصوصاً عندما تكون الأمطار غزيرة.