بعضها حقق الاستقرار والازدهار الاقتصادي
الأحزاب القوية الحاكمة في جنوب شرق آسيا تمثل عائقاً أمام إدارة بايدن
تحاول إدارة الرئيس جو بايدن تحقيق ثلاثة أهداف في وقت واحد، في ما يخص علاقاتها مع آسيا. إنها تريد استكمال «التحول نحو آسيا»، الذي بدأ في سنوات الرئيس الأميركي السابق بارك أوباما، وبناء شراكات أقوى، والتأكيد على القيم الديمقراطية المشتركة. ويوجد القليل من التوتر بين هذه الأهداف الثلاثة في شمال شرق آسيا، إذ لاتزال اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان حلفاء للولايات المتحدة، إضافة إلى الديمقراطيات الراسخة، لكن في جنوب شرق آسيا، حيث يصعب الوصول إلى شركاء ديمقراطيين، كيف يمكن التوفيق بين هذه الأهداف؟
لا يمكن القضاء على هذه التوترات، ولكن يمكن التغلب عليها، ويجب أن تكون نقطة البداية حول التواضع، إذ يتعين أن يكون الأمر حول إلى أي مدى يمكن لأميركا أن تأمل في التغيير في جنوب شرق آسيا، وهي منطقة عنيدة تاريخياً أمام الضغوط، واستيعاب الديمقراطية الخارجية. والشراكة مع الأنظمة الاستبدادية أمر لا مفر منه، إذا كانت أميركا تريد شركاء في جنوب شرق آسيا.
من بعيد، قد يبدو جنوب شرق آسيا وكأنه نقطة الصفر في صراع القرن الـ21 بين الديمقراطية والديكتاتورية، وتتزايد بصمة الصين في المنطقة، بينما ينحسر نفوذ أميركا. ويبدو أن جنوب شرق آسيا يقع على وجه التحديد في منطقة الالتقاء المضطرب للتنافس بين الولايات المتحدة والصين، والمنافسة العالمية بين الحُكمين الديمقراطي والاستبدادي.
عن قرب، يبدو جنوب شرق آسيا وكأنه لا شيء من هذا القبيل، والمنطقة منشغلة بالفيروس التاجي، وغارقة في الاستبداد، وهذا يجعل من الصعب العثور على شركاء ديمقراطيين للعمل معهم، ناهيك عن حجة بايدن بأن الديمقراطيات ستثبت مزاياها للحكم الرشيد على الأنظمة الاستبدادية في السنوات المقبلة. وفي أحد أركان جنوب شرق آسيا، انهارت التجربة الديمقراطية الهشة في ميانمار، التي بدأت في عام 2011، وهو تقدم ديمقراطي نادر، تزامن مع سنوات أوباما، في موجة أخرى من الحكم العسكري الوحشي. وفي زاوية أخرى، تكافح إندونيسيا، أكبر ديمقراطية في جنوب شرق آسيا، بقوة، مع فيروس «كورونا»، بحيث لم يتمكن وزير الدفاع لويد أوستن، ولا نائب الرئيس، كامالا هاريس، من وضع الدولة المحورية ضمن برنامج رحلاتهم الصيفية في جنوب شرق آسيا.
جهات فاعلة
بصراحة، الدولتان الوحيدتان اللتان أدرجهما أوستن وهاريس في جولاتهما الصيفية ليستا ديمقراطيتين على الإطلاق: سنغافورة وفيتنام. ولا تشارك أميركا الكثير مع كلا البلدين، حيث حكمت الأحزاب المهيمنة دون انقطاع ودون منازع عملياً، منذ الخمسينات.
ومع ذلك، فإن بعض الأنظمة الاستبدادية تصنع شركاء أكثر عقلانية وقابلية للدفاع عن الآخرين. وسنغافورة وفيتنام مؤهلتان لذلك بشكل كبير، وعندما تحكمها الأحزاب القوية بدلاً من الجيوش المهيمنة أو الطوائف الشخصية، كما هو الحال في كل من سنغافورة وفيتنام، يمكن للأنظمة الاستبدادية أن تتمتع في كثير من الأحيان بشرعية محلية كبيرة، ويمكنها أيضاً أن ينتج نتائج إنمائية مبهرة، وأن تقدم شركاء موثوقين للحفاظ على الوضع الدولي السلمي الراهن.
علاوة على ذلك، يمكن للأحزاب الاستبدادية الحاكمة أن تضع أساساً مؤسسياً قوياً للتحولات الديمقراطية السلمية والتدريجية. وفي الواقع، كانت الأحزاب الحاكمة المهيمنة تاريخياً جهات فاعلة حاسمة في تشكيل الديمقراطية في اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية. ومن المؤكد أن الأحزاب المهيمنة في جنوب شرق آسيا لا تتلاءم مع أجندة بايدن الديمقراطية اليوم، ولكن ربما قد يتغير الحال غداً.
على عكس شمال شرق آسيا، لم تكن منطقة جنوب شرق آسيا أرضاً ديمقراطية خصبة، وجاءت الانتكاسة الديمقراطية للمنطقة من 1976 إلى 1986، عندما لم يكن في جنوب شرق آسيا أي نظام ديمقراطي، وكان هذا العقد المظلم للديمقراطية إيذاناً بانقلاب وحشي في تايلاند. وقد يثبت التاريخ أن الانقلاب الأخير في ميانمار كان بداية لموجة مظلمة مماثلة في عشرينات القرن الماضي.
كما أن جنوب شرق آسيا لا يميل إلى اتباع اتجاهات الديمقراطية العالمية، وكان المصير الديمقراطي للمنطقة في أسوأ حالاته، منذ عقد، عندما كانت آفاق الديمقراطية العالمية تتحسن بشكل كبير. وحتى عندما بدأت الموجة الثالثة من التحول الديمقراطي بالانتشار، في جميع أنحاء العالم، في أعقاب ثورة القرنفل البرتغالية، في عام 1974، أصبح جنوب شرق آسيا أكثر استبداداً في جميع المجالات. وفي إشارة إلى المقاومة العامة لجنوب شرق آسيا لاتجاهات إرساء الديمقراطية الأوسع، لم تجلب ثورة البرتغال رياح تحرير جديدة إلى جنوب شرق آسيا، بل جلبت الاحتلال الإندونيسي لتيمور الشرقية، بعد أن تحررت من الاحتلال البرتغالي.
وحتى نهاية الحرب الباردة لم تجلب مكاسب ديمقراطية، وحدث انقلاب في تايلاند (تم عكسه) في عام 1991، وكان هناك انقلاب في كمبوديا، في عام 1997. واتبعت الحركات الشعبية للإطاحة بالديكتاتوريين في الفلبين وإندونيسيا إيقاعاتها الوطنية الخاصة، وليس إيقاعات العالم. ونشأت في عام 1986، «قوة الشعب» في الفلبين. واندلعت «ريفورماسي» في إندونيسيا في عام 1998. واتبعت هاتان الدولتان اتجاهاً نحو التراجع الديمقراطي والتآكل خلال العقد الأول من القرن الـ21.
خطوات جزئية
وكان الاتجاه الأكثر قتامةً، في الآونة الأخيرة، في منطقة جنوب شرق آسيا، إلى حد ما ضد الاتجاه العالمي، هو عودة ظهور الحكم العسكري الصريح. وميانمار هي المثال الأكثر وضوحاً منذ انقلاب فبراير. ولم يتخذ الجيش التايلاندي سوى خطوات غير مكتملة وجزئية نحو تقاسم السلطة مع المدنيين المنتخبين، منذ آخر انقلاب في عام 2014. وفي إندونيسيا والفلبين، أيضاً، يعتمد الرؤساء المدنيون المنتخبون، أكثر من أي وقت مضى، على الجيش في قوتهم ضد خصومهم. وتلوح في الأفق تركات التسييس العسكري في ظل الأنظمة الاستبدادية القديمة، في كلا البلدين.
وتعد منطقة جنوب شرق آسيا، أيضاً، موطناً لأنظمة استبدادية، تتصدر فيها الأحزاب الحاكمة المسرح السياسي، بدلاً من الجيوش الحاكمة. وأصبحت كمبوديا في عهد هون سين، أكثر انغلاقاً سياسياً، بعد ثلاثة عقود في السلطة. وبدا أن ماليزيا تتخذ خطوات ديمقراطية حاسمة في عام 2018 من خلال التصويت لمصلحة حزبها الحاكم منذ فترة طويلة، لكن الحرس القديم لم يتم إبعاده أبداً، ويبدو أنه مستعد للعودة. ثم هناك سنغافورة وفيتنام، النظامان الاستبداديان الأطول أمداً، في جنوب شرق آسيا، والهدفان الرئيسان في الاستراتيجية الإقليمية لإدارة بايدن.
الأحزاب الحاكمة في سنغافورة وفيتنام متشابهة في سبب حكمها كما في طريقة حكمها، وكلاهما ملتزم بشدة بالاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية الوطنية، قبل كل شيء، وبغض النظر عن كلفة الحريات السياسية والمدنية. وهذا يعني بطبيعة الحال تأمينهم لبقائهم في السلطة، لكن هذا ليس كل ما تعنيه. والسبب الرئيس الذي يجعل سنغافورة وفيتنام لا تواجهان معارضة داخلية ذات مغزى، ليس لأنهما كانتا في غاية القمع، كما تفعل الأنظمة الاستبدادية، لأنهما نجحتا للغاية في تحقيق السلام والتنمية في بلدين كانا يفتقران لهما بشدة. وقد استمرت حروب فيتنام الطويلة من 1945 إلى 1975، بينما شهدت سنغافورة فترة إنهاء استعمار مضطربة، من 1945 إلى 1965. وأكثر من أي مكان آخر في جنوب شرق آسيا، ضمنت الأحزاب الحاكمة في سنغافورة وفيتنام احتكاراً وطنياً للشرعية السياسية.
شراكة مع الأحزاب الحاكمة
قد تبدو الشراكة مع الأحزاب الحاكمة بمثابة خيانة فاضحة لأجندة إرساء الديمقراطية لإدارة بايدن، ولكن هذا يجب ألا يكون عليه الحال. وتاريخ آسيا في التحول الديمقراطي هو التاريخ الذي تحررت فيه الأحزاب الحاكمة القوية تدريجياً، لأنها رأت أن مخاطر التحول الديمقراطي منخفضة نسبياً، فإذا كان انفتاح النظام السياسي لن يؤدي إلى زعزعة استقرار النظام أو إزاحة الحزب الحاكم من السلطة، فإن الإصلاحات الديمقراطية تصبح خطوة معقولة إلى الأمام، وكانت هذه هي القصة الرئيسة لإرساء الديمقراطية في اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية.
كان الاتجاه الأكثر قتامةً، في الآونة الأخيرة، في منطقة جنوب شرق آسيا، إلى حد ما ضد الاتجاه العالمي، هو عودة ظهور الحكم العسكري الصريح.
• دان سلايتر.. زميل معهد «أميركين إنتربرايز انستيتيوت»
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news