المواجهات الأخيرة في لبنان تعمّق الأزمة في بلد على حافة الهاوية
جلب التعيين الأخير لرئيس وزراء جديد في لبنان، بعد أكثر من عام من المشاحنات السياسية، بصيص أمل صغيراً على الأقل، لبلد جاثم على ركبتيه. ويعاني لبنان انهياراً مالياً خطيراً، وتبعات انفجار كيماوي ضخم، ونقصاً مزمناً في الكهرباء وعدم وجود حكومة تتمتع بصلاحية اتخاذ الإجراءات.
ثم جاءت مواجهات مسلحة، الأسبوع الماضي، بين أنصار «حزب الله» و«حزب القوات اللبنانية» المسيحية، وتبخر أي أمل في حدوث تحول، حيث بدا أن لبنان ينحدر إلى أزمة جديدة وربما أعمق. ولا أحد يتوقع حرباً أهلية صريحة من النوع الذي دمر لبنان في الفترة بين 1975 و1990. و«حزب الله» المدعوم من إيران هو أقوى قوة سياسية وعسكرية في البلاد، والفصيل الوحيد الذي لديه ميليشيا مسلحة تسليحاً جيداً، ومخزونات ضخمة من الأسلحة تجعله أكثر قوة، حتى من الجيش اللبناني.
لكن التصعيد أشعل مخاوف من أن الصراع الأهلي والطائفي المتأجج سيؤدي إلى إرجاء الحلول إلى أجل غير مسمى، للعديد من المشكلات الأخرى التي يواجهها لبنان، من نقص الوقود لمحطات الكهرباء في كل أنحاء البلاد، إلى الانحدار في قيمة العملة التي دمرت القدرة الشرائية لمواطنيه، الذين كانوا في يوم من الأيام مزدهرين نسبياً.
الشوارع هادئة الآن، لكن التوترات مستمرة، وتعهد الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصرالله - الذي قاد جنازات لاثنين من أعضاء الميليشيا، من بين القتلى الستة في الاشتباك يوم الخميس - بأن دماءهم لم تُرَق «عبثاً»، مُلمحاً إلى الانتقام، وبحسب صور انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، كان أحد القتلى مقاتلاً من الحزب، وقاتل مع الميليشيا في سورية دعماً لحكومة بشار الأسد.
واتهمت «القوات اللبنانية» «حزب الله» بالسعي إلى فرض إرادته على البلد بأكمله، بمن فيها المسيحيون، وحذرت من أنها ستقاوم أي محاولات من قبل أتباع الميليشيا الشيعية لدخول المناطق المسيحية، ويعيد القتال بالأسلحة النارية ذكريات مؤلمة عن الحرب الأهلية في لبنان.
وقالت سيدة تدعى (سعاد)، إن أنصار «القوات اللبنانية» يقومون الآن بدوريات في أحياء مسيحية في محيط الاشتباك، وتعيش في حي مسيحي في الطيونة، حيث اندلع العنف، وطلبت عدم ذكر اسمها بالكامل خوفاً من الانتقام، وقالت عن مؤيدي «القوات اللبنانية»: «إنهم جاهزون ومستعدون لأي محاولة لاقتحام خارجي للمنطقة، إنهم يحملون العصي وليس السلاح، والبنادق مخبأة».
الدافع المباشر
كان الدافع المباشر لهذه الأزمة الأخيرة هو دعوة أطلقها، في وقت سابق من الأسبوع، نصرالله، لإقالة القاضي المسؤول عن التحقيق في الانفجار الذي أودى بحياة أكثر من 200 شخص في ميناء بيروت العام الماضي، طارق بيطار.
وخلال مسيرة نظمها مسلحون من أنصار الحزب، وحليفته الشيعية حركة «أمل»، لدعم مطلب نصرالله، فتح قناص واحد على الأقل النار عندما اقترب المتظاهرون من حي مسيحي، وأدى ذلك إلى إطلاق وابل من النيران بالرد من المتظاهرين، الذين سعوا بعد ذلك إلى اقتحام أحياء مسيحية قريبة.
وتنفي «القوات اللبنانية»، وهي فصيل سابق في الحرب الأهلية وأصبحت الآن حزباً سياسياً، اتهامات «حزب الله» بأنها مسؤولة عن إطلاق نيران القناصة، لكن القوات قالت أيضاً إن المسيحيين يحق لهم الدفاع عن أنفسهم ضد التوغلات في المناطق المسيحية.
ومع ذلك، فإن المخاطر أكبر بكثير من مصير قاضٍ واحد. وانقسام البلد الآن بين مسيحيين يؤيدون استمرار تحقيقات القاضي، وبين شيعة يدعمون دعوات «حزب الله» إلى إقالته، وتمسّ المواجهة خطوط الصدع الطائفي التي تتقاطع مع الشوارع والأحياء والحكومة.
وقال المحلل السياسي اللبناني، خلدون الشريف: «تم رسم خط أحمر بين المناطق المسيحية ومناطق أخرى، وإذا لم تحاول جميع الأطراف التهدئة، فإن هذا لن ينجح بشكل جيد»، متابعاً: «في أي لحظة يمكن أن يحدث اشتباك في أي منطقة مختلطة».
وقال إنه حتى لو تم احتواء العنف، فإن الساحة الآن مهيأة لفترة طويلة محتملة من الشلل السياسي، ويُصر «حزب الله» على موقفه، فيما يقف كل من الرئيس ميشال عون، وهو مسيحي، ورئيس الوزراء الجديد، نجيب ميقاتي، وهو مسلم سني، إلى جانب (القاضي) بيطار، ومن دون حل وسط لن تكون الحكومة قادرة على الاتفاق على الخطوات اللازمة لانتشال لبنان من بؤسه، بما في ذلك الإصلاحات السياسية والاقتصادية، التي يطلبها صندوق النقد الدولي لإطلاق التمويل الطارئ الذي يحتاج إليه لبنان بشدة.
وقال مقدم برنامج «السياسة اللبنانية»، نزار حسن، إن السيناريو البديل هو أن يرضخ الرئيس ورئيس الوزراء لدعوات «حزب الله» لإقالة بيطار، لكن هذا يأتي بثمن خاص. ومن المحتمل أن تفقد الحكومة دعم الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين الآخرين، الذين أصروا على إجراء تحقيق شفاف في انفجار الميناء، والذين سيكون دعمهم حيوياً إذا كانت هناك خطة إنقاذ من صندوق النقد الدولي.
لعبة التفاوض
وقال حسن: «يمكنك القول إن ما رأيناه في لبنان جزء من لعبة إيران الإقليمية، لزيادة الضغط على المجتمع الدولي للاستسلام، وإيران تلعب لعبة التفاوض في جميع أنحاء المنطقة على رقعة الشطرنج بأكملها».
وفي منطقة الطيونة، حيث اندلع العنف، شربت مجموعة من أربعة أصدقاء من ديانات مختلفة الشاي معاً، وأطلقوا النكات عن طوائف بعضهم، وقالوا إنهم يأملون انتهاء الاشتباكات، وقال أحد الرجال، الذين تحدثوا جميعاً بشرط عدم الكشف عن هويتهم خوفاً على أمنهم: «هذه منطقة حساسة، إنها مسيحية بالطبع لكنها مليئة بالمسلمين»، متابعاً: «يعيش الجميع جنباً إلى جنب».
وقال آخر دُمّر منزله بسبب النيران أثناء أعمال العنف: «كان الجو ينفث الغبار»، لكنه أضاف أنه قام منذ ذلك الحين بتعبئة حقيبتين مليئتين بالضروريات، مثل وثائق هويته، ووضعهما عند الباب، فقط في حالة اندلاع المزيد من القتال مرة أخرى واضطر إلى الفرار.
• كان الدافع المباشر لهذه الأزمة الأخيرة هو دعوة أطلقها، في وقت سابق من الأسبوع، زعيم «حزب الله»، حسن نصرالله، لإقالة القاضي المسؤول عن التحقيق في الانفجار الذي أودى بحياة أكثر من 200 شخص في ميناء بيروت، العام الماضي، طارق بيطار.
فساد سياسي
طارق بيطار هو ثاني قاضٍ مكلف بالتحقيق في انفجار مرفأ بيروت، وخلال تحقيقه ركّز القاضي الأول، فادي صوان، على سؤال استحوذ على اهتمام الرأي العام اللبناني: مَن المسؤول عن السماح بتخزين 2750 طناً من نترات الأمونيوم عشوائياً، في مستودع بالمرفأ، إلى جانب ألعاب نارية ومواد لتخفيف الطلاء على حافة مدينة مزدحمة؟
وبعد محاولة استجواب الوزراء السابقين والقادة السياسيين الأقوياء، تم عزل صوان واستبداله بالقاضي بيطار، لكن الأخير كافح، أيضاً، لاختراق ثقافة الفساد والنفوذ السياسي في لبنان، التي منعت القانون من محاسبة أي شخص ارتكب مخالفات تستحق المتابعة والعقاب. وأظهرت الوثائق الحكومية التي اطلعت عليها صحيفة «واشنطن بوست»، في وقت سابق من هذا العام، أن المسؤولين كانوا على دراية جيدة بالمخاطر التي يشكلها المخزون الكيميائي الضخم، قبل فترة طويلة من العام الماضي. وكشفت الوثائق أن المسؤولية عن نترات الأمونيوم مرت، على مدى سنوات، بين مختلف الجهات الحكومية والخاصة، بما في ذلك وزارة الأشغال العامة والنقل والقضاء والجيش، وحتى شركة المتفجرات الخاصة.
وواجه بيطار رد فعل عنيفاً بعد أن أصدر، الأسبوع الماضي، مذكرة توقيف بحق وزير المالية السابق، علي حسن خليل، وهو عضو في حركة «أمل». وفي مقابلة في اليوم نفسه، قال خليل: «أنا فخور بأن أكون جزءاً من حركة سياسية، وإنني جندي في حركة (أمل)».