أوروبا أصبحت جزيرة ديمقراطية محاصرة في عالم فوضوي
تراكم التهديدات الخارجية والانقسامات الداخلية، إلى جانب ضعف التحالف الأمني مع أميركا، والتخريب الروسي الذي لا هوادة فيه، وحرب الصين على القيم الغربية، كلها أشياء تكشف نقاط الضعف الاستراتيجية الأساسية.
وتشبه أوروبا بشكل متزايد جزيرة ديمقراطية محاصرة في عالم فوضوي، حيث يهدد المد المتصاعد من الاستبداد والإفلات من العقاب وانتهاك القواعد الدولية، بإغراقها. ويتفهم بعض القادة الأوروبيين هذا الأمر، ولاسيما الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلا أن علاجات السياسة طويلة الأمد لاتزال بعيدة عنهم، وعلى سبيل المثال من الواضح أن استخدام ديكتاتور بيلاروسيا، ألكسندر لوكاشينكو، المهاجرين للضغط على الاتحاد الأوروبي أمر شائن، ومع ذلك نجح الأمر، وقد اتصلت المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، به لإجراء محادثة، منهيةً عزلته بعد الانقلاب، وأثار سلوكها الأحادي الجانب غضب دول البلطيق.. لقد كان تنازلاً وليس حلاً دائماً.
التخويف المستمر من قبل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لأوكرانيا يخاطر بتوسيع نطاق الحرب، وقد يكون التعزيز الأخير للحدود بـ90 ألف جندي روسي، بمثابة قعقعة، على غرار الاستفزازات في دونباس والبحر الأسود، الربيع الماضي. وإذا لم يكن الأمر كذلك فلن تلوم أوروبا سوى نفسها، وتنبع الأهمية من موافقته الفعلية على ضم شبه جزيرة القرم غير القانوني في عام 2014، ويمتد عدم الاستقرار إلى أطراف أوروبا إلى البلقان، وسط مخاوف مبررة من انزلاق البوسنة والهرسك، مرة أخرى، إلى الصراع بعد 26 عاماً من اتفاقات دايتون للسلام.
إن عودة القومية العرقية، التي يجسدها زعيم صرب البوسنة الانفصالي، ميلوراد دوديك، تغذيها بلغراد وموسكو، وتتمثل المشكلة الاستراتيجية الأكبر في عدم قدرة الاتحاد الأوروبي على الوفاء بوعوده بتكامل أوثق مع المنطقة، كما أن علاقة أوروبا بتركيا، التي تعد حارساً رئيساً، غير فعالة أيضاً، ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى الرئيس رجب طيب أردوغان، وعندما هدّد الأخير عضوي الاتحاد الأوروبي، اليونان وقبرص، العام الماضي، أرسل ماكرون قوات بحرية إلى شرق البحر المتوسط، وجلست بقية أوروبا تتفرج.
معركة مريرة
ويتدخل أردوغان، أيضاً، في أوكرانيا والصراع الأذربيجاني - الأرميني، الذي اندلع مرة أخرى، الأسبوع الماضي، ومع ذلك فإن بروكسل تدفع له مقابل إبعاد لاجئين من الشرق الأوسط، لذلك بالكاد تجرؤ على مواجهته، ودائرة عدم الاستقرار التي تضغط على أوروبا تدور حول أكثر من مجرد نزاع مسلح حقيقي أو محتمل، والهجرة واحدة من أكبر معضلاتها.
وعلى الرغم من أزمة اللاجئين السوريين الحادة، عام 2015، لايزال الاتحاد الأوروبي يفتقر إلى سياسة إنسانية متفق عليها، وهذا يضمن المزيد من المتاعب على الطريق، وللمفارقة فإن أحد المعترضين الرئيسين هو بولندا التي ترفض حصص المهاجرين، ومع ذلك، في مواجهة الفوضى الحدودية، يخوض زعماء الجناح اليميني، مثل فيكتور أوروبان المجري، معركة مريرة مع بروكسل، حول قضايا سيادة القانون والديمقراطية، إلى تضامن الاتحاد الأوروبي.
والمزعج أيضاً هو الطريقة التي يبدو أن الرأي العام الأوروبي قد قبل بها من عمليات الصد غير القانونية، وسوء المعاملة الروتينية لطالبي اللجوء، سواء بالمعسكرات في ليبيا أو على شواطئ اليونان، في انتهاك لقانون الاتحاد الأوروبي، ويعكس هذا جرحاً آخر: التأثير المتزايد لكراهية الأجانب والشعبويين اليمينيين، وإعادة تطبيع السياسات القومية المتطرفة في جميع أنحاء أوروبا.
إذا لم يدافع الأوروبيون عن القيم الديمقراطية الغربية في عالم سيطر عليه المستنسخون عن دونالد ترامب والمقلدون له، فمن سيفعل؟
للأسف، لا يمكن النظر إلى بريطانيا، إذ لم تعد المملكة المتحدة صديقاً موثوقاً به، تحت قيادة بوريس جونسون، التي تقوم بالقنص والاستهزاء من الخطوط الجانبية، وقد أصبحت منطقة صراع هامشية أخرى بالنسبة للاتحاد الأوروبي، وبريطانيا أكثر إثارة للقلق من الحليف، واستغل وزير الدفاع، بن والاس، الأزمات المرتبطة ببيلاروسيا وأوكرانيا، الأسبوع الماضي، لدفع أجندة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وإبرام صفقات أسلحة مع وارسو وكييف.
بصراحة، أرسلت المملكة المتحدة قوات وليس مساعدات إنسانية، إلى الحدود البولندية، وكما أن عصر عدم الاستقرار في أوروبا مدين بالكثير لأحداث خارجة عن سيطرتها، فإن قليلين هم الذين يتوقعون أن يحاول ترامب نسف ما سماه فرانكلين روزفلت «ترسانة الديمقراطية» والتحالف الغربي معها، وقد يحاول مرة أخرى.
وبالمثل توقع القليل، كما تعترف ميركل الآن، أن الصين ستظهر منافساً عالمياً مهيمن وعدواني ومناهض للديمقراطية، والرئيس الأميركي، جو بايدن، يطمئن الأوروبيين إلى أن حلف «الناتو»، حتى بعد الانسحاب من أفغانستان، أمر حيوي كما كان دائماً، لكن القمة المثيرة التي عقدها مع الرئيس الصيني، شي جين بينغ، الأسبوع الماضي، أظهرت أين يكمن تركيزه الحقيقي. ويرى بوتين هذا، ويشم رائحة الدم.
أمن الفضاء
إن إمدادات الغاز في أوروبا إحدى نقاط الضغط، والهجمات الإلكترونية السرية شيء آخر، وكان اختبار روسيا الصاروخي المتهور ضد الأقمار الاصطناعية، الذي أثار مخاوف أوروبا بشأن السلامة، أول عمل مسجّل من أعمال الشغب في الفضاء الخارجي، وعدم قدرة أوروبا على جعل بوتين يدفع ثمناً باهظاً للعدوان في جورجيا وشبه جزيرة القرم، وتدميره للديمقراطية الروسية، وتدخله في الانتخابات الخارجية، وهجماته القاتلة على أليكسي نافالني ومعارضين آخرين على الأراضي الأوروبية، تزيد من الشعور بالتراجع.
وفي ما يخص الصين، لا يوجد شيء قريب من جبهة موحدة، وهذا الضعف يشجع المتربصين الآخرين، إذاً ما العمل؟
أوروبا، كما كانت دائماً، منزل منقسم، ويواصل الأوروبيون الشرقيون وضع ثقتهم في واشنطن بدلاً من بروكسل، على الرغم من المؤشرات الواضحة لحدوث تمزق آخر عبر المحيط الأطلسي، إذا فقد الديمقراطيون البيت الأبيض في عام 2024.
إن بيروقراطية الاتحاد الأوروبي ضعيفة، وبرلمانها ضعيف، وتفتقر ألمانيا إلى قائد يوحد جميع الأطراف، وفي فرنسا ينتظر ماكرون مواجهة شرسة في انتخابات الربيع، ضد اليمين المتطرف المدعوم من روسيا.
وبينما تستعد فرنسا لتولي رئاسة الاتحاد الأوروبي، هل يدرك القادة الآخرون هذه اللحظة الحاسمة ويدعمون ماكرون؟ وفي عالم من أسماك القرش والثعابين والوحوش المخيفة، أصبح استقلال أوروبا وتماسكها، وقيمها على المحك كما لم يحدث من قبل.
• تتمثل المشكلة الاستراتيجية الأكبر في عدم قدرة الاتحاد الأوروبي على الوفاء بوعوده بتكامل أوثق مع المنطقة.
• بيروقراطية الاتحاد الأوروبي ضعيفة، وبرلمانها ضعيف، وتفتقر ألمانيا إلى قائد يوحد جميع الأطراف.
• لم تعد المملكة المتحدة صديقاً موثوقاً به، تحت قيادة بوريس جونسون، التي تقوم بالقنص والاستهزاء من الخطوط الجانبية، وقد أصبحت منطقة صراع هامشية أخرى بالنسبة للاتحاد الأوروبي.
سيمون تيسدال - كاتب ومحلل سياسي