افتراض لم يعد مستبعداً
ماذا لو انسحبت الولايات المتحدة عسكرياً من الشرق الأوسط
يتناول هذا المقال دراسة التداعيات التي يمكن أن تترتب على انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط في حالة إقدامها على هذه الخطوة، وذلك كنوع من «المِران التأمُلي» و«التفكير الاستشرافي» لعام 2022 وما بعده، والذي يبدأ من موقف ما ويدرس آثاره المحتملة، من دون أن يعني ذلك إمكانية تحقق هذا الموقف في الأجل القريب أو المتوسط. ويتطلب هذا النوع من التحليل، تحديد مواصفات «المشهد» الذي تتداعى بعده الأحداث.
ولما كان المشهد يتعلق بتداعيات الانسحاب الأميركي من المنطقة، فإنه من الضروري البدء بتحديد ما هو المقصود من هذا التعبير. فالمقصود هو انسحابها العسكري، بمعنى وجودها المادي المتمثل في قواعد عسكرية وقواعد تسهيلات التدريب، وقواعد لوجستية لتوفير الخدمات للقوات الأميركية في المطارات والموانئ. وتوجد أمثلة لهذه القواعد في العديد من الدول العربية، وتركيا، وإسرائيل، وهي تضم ضباطاً وجنوداً وموظفين مدنيين. وقد تم قصر تعريف فرضية الانسحاب الأميركي هنا على البُعد العسكري فقط، لأن واشنطن لها مصالح اقتصادية وسياسية هائلة في الإقليم، ومن الصعب جداً تصور نشوء موقف يدفعها إلى التضحية بها.
دوافع للانسحاب
إن جوهر الأسباب التي يمكن أن تقود الولايات المتحدة إلى هذا الانسحاب، كما صرح الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، في حواره الشهير مع مجلة «أتلانتيك» الأميركية في عام 2016، هو أن واشنطن لديها موارد محدودة، وعليها اختيار المكان الأفضل لاستخدامها، وأن هذا المكان هو آسيا وليس الشرق الأوسط.
وتشمل هذه الأسباب وجود توافق بين النخبة الحاكمة في واشنطن على عدم الزج بالقوات الأميركية في حروب طويلة لا تؤثر مباشرة على الأمن القومي الأميركي، أو أنها حروب بين دول وقوى محلية تبدو لا نهاية لها، أو أن المصالح الأميركية في المنطقة لم تعد حيوية، وأنها لا تبرر المستوى الجاري للوجود العسكري، كما جادل السياسي الأميركي مارتن إنديك، أو بسبب نمو المشاعر المُعادية للوجود الأميركي في بلد ما، مما يؤدي بالولايات المتحدة إلى إنهاء وجودها المباشر في المنطقة، واللجوء بدلاً من ذلك إلى دعم القدرات العسكرية والاستخباراتية لحلفائها حتى يتحملوا مسؤولية الدفاع عن بلادهم بأنفسهم.
أضف إلى ذلك، تزايد الاعتقاد الأميركي بأن التدخل العسكري ليس أفضل السُبل لحماية المصالح الخارجية، بل إن أدوات القوة الناعمة وأهمها الدبلوماسية متعددة الأطراف يمكن أن تحقق نتائج أفضل.
إعادة تموضُع
إذا تحقق هذا الانسحاب الأميركي عسكرياً من الشرق الأوسط، فإنه سوف يُوجد بيئة جيواستراتيجية جديدة تدفع بعض الدول الكبرى والإقليمية إلى تطوير سياساتها في المنطقة. وقد تعمدتُ عدم استخدام تعبير «ملء الفراغ» الذي استخدمته السياسة الأميركية في الخمسينات من القرن الماضي عندما أعلنت عن «مبدأ أيزنهاور» عن ملء الفراغ في الشرق الأوسط، وذلك بحُكم اختلاف الظروف والسياق.
والأرجح لن يؤدي الانسحاب الأميركي إلى ظهور فاعلين دوليين أو إقليميين جدد، وإنما إلى تطوير أدوار الأطراف الفاعلة وسعي بعضها إلى إعادة التموضُع. وقد يؤدي التنافس بينها إلى حالة من عدم الاستقرار المؤقت هنا أو هناك. وسوف تُعيد دول المنطقة النظر في تحالفاتها مع الدول الإقليمية صاحبة القوة والساعية لتطوير نفوذها. كما قد تتطور العلاقات بين الدول الإقليمية غير العربية، مثل العلاقة بين إيران والصين، أو العلاقة بين إسرائيل وإحدى القوى الغربية.
صعود صيني وروسي
يمكن تحديد أبرز القوى الكبرى التي ستسعى للاستفادة من الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط، في الصين وروسيا. وإن كان ينبغي الإشارة بداية إلى أن دورهما سيكون في إطار عدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة وعدم التورط في الصراعات القائمة بينها، بل سيكون استمراراً للسياسة التي اتبعتها الدولتان منذ عام 2000. وسيكون من شأن ازدياد انخراطهما في الإقليم، شيوع الاعتقاد بأفضلية بالنموذج الصيني - الروسي في الإدارة والحُكم.
فإذا بدأنا بالصين، فسنجد أنها تسعى لأن تكون دولة متقدمة متوسطة المستوى بحلول عام 2035، وأن تصبح قوة عظمى على مستوى الولايات المتحدة بحلول عام 2050، وذلك حسب الاستراتيجية التي يتبناها الحزب الشيوعي الحاكم. وقد بدأت الصين زحفها الهادف لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط، بتنمية العلاقات التجارية مع كل دول المنطقة، وتوسيع حجم استثماراتها والتركيز على تطوير البنى التحتية من شبكات طرق وموانئ، وإقامة مشروعات إنتاج الطاقة المتجددة الشمسية والنووية، مما جعل الصين أهم شريك تجاري للمنطقة منذ عام 2016.
وكان من أهم مظاهر تبلور الدور الصيني في الشرق الأوسط، توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة مع إيران في مارس 2021، والتي اعتبرها كثير من المعلقين أحد مظاهر دبلوماسية جديدة لبكين في المنطقة، ولدورها العالمي.
وسيوفر الانسحاب الأميركي من المنطقة، حال حدوثه، البيئة المناسبة لترسيخ النفوذ الاقتصادي الصيني وتبلور دورها السياسي الذي بدأ في الظهور من قبل. وتهدف الصين إلى تقديم نموذج تنموي من خلال التعاون مع دول المنطقة وتطرحه كبديل أفضل من النموذج الغربي. وربما تنخرط في صفقات بيع السلاح والتكنولوجيا العسكرية، وتطوير وجودها العسكري ولكن بشكل محدود وناعم حتى لا تستفز الولايات المتحدة والقوى الغربية.
وإذا كانت واشنطن تسعى لاحتواء بكين، وحصارها والتضييق على أنشطتها في بحر الصين الجنوبي، ومن خلال تحالف «أوكوس» مع أستراليا وبريطانيا، ومجموعة «كواد» مع اليابان والهند وأستراليا، فإن تطوير النفوذ الصيني في الشرق الأوسط أو بالأحرى «غرب آسيا»، يعني أنها تكون قد قامت بعملية التفاف وتدعيم نفوذها في إحدى المناطق التقليدية للنفوذ الأميركي في العالم، وهو ما يمكن تسميته بـ«الاتجاه غرباً».
ثم تأتي روسيا المتطلعة لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط بعد أن وثقت علاقاتها الاستراتيجية مع دول المنطقة من خلال صفقات السلاح، ونقل تكنولوجيا بناء المفاعلات النووية للأغراض السلمية، والوجود العسكري المباشر في سورية وليبيا. واستطاعت روسيا تطوير علاقاتها مع العديد من الدول التي تعتبر موالية للولايات المتحدة أو صديقة لها. وقامت موسكو، مثلاً، ببيع منظومة صواريخ «إس – 400» لتركيا، العضو في حلف «الناتو»، وطائرات «سوخوي 35» إلى مصر. وستهدف روسيا من ذلك إلى تخفيف الضغوط الأميركية والأطلنطية على حدودها المباشرة في أوكرانيا، والبحر الأسود، وفي مناطق نفوذها التقليدية في شرق أوروبا.
وليس من المتوقع أن تدخل إحدى الدول الأوروبية في مجال التنافس الإقليمي مع الصين وروسيا، وإنما ستسعى دول مثل فرنسا وإيطاليا وبريطانيا إلى دعم قواعدها العسكرية الموجودة في بعض دول الشرق الأوسط، وأيضاً عقد صفقات سلاح مع الدول الراغبة في ذلك.
تمدد قوى إقليمية
إذا انتقلنا إلى مستوى الدول الإقليمية غير العربية، فإن إيران تأتي في مقدمة الدول التي سوف تسعى للاستفادة من الانسحاب الأميركي، وذلك بحُكم العداء الطويل بين الدولتين. وأياً كانت الظروف، فإن هذا الانسحاب ربما يؤدي إلى زيادة الطموحات الإيرانية والرغبة في الاستفادة من الفرص الاقتصادية والسياسية في دول الخليج العربي. والأرجح ألا يكون ذلك بوسائل عسكرية أو ثورية، لأن مثل هذا النهج سيتعارض مع مصالح الصين وروسيا اللتين ستحرصان على حماية استقلال دول المنطقة وعدم التدخل في شؤونها.
وبالنسبة لتركيا، فستسعى هي الأخرى للاستفادة من قدراتها الاقتصادية في تدعيم علاقاتها ونفوذها مع دول المنطقة، وإبرام صفقات تسليح معها، ودعم قواعدها العسكرية في الصومال والعراق وقطر وسورية.
ثم تأتي إسرائيل التي تعتبر أقرب حليف إقليمي للولايات المتحدة، خصوصاً بعد ضمها في يناير 2021 كدولة رقم 21 في قائمة الدول التي تشملها القيادة المركزية الأميركية، والتي ستسعى في حالة الانسحاب الأميركي إلى مد نفوذها في المنطقة من خلال توفير مظلة أمنية للدول العربية الراغبة في ذلك، والاستفادة من تقدمها التكنولوجي في كثير من المجالات.
أما بخصوص الدول العربية، فمن الأرجح أنها لن تتصرف كمجموعة واحدة، وإنما ستأخذ دولها مسارات عدة، فتقترب أكثر من تركيا أو إيران أو إسرائيل، كل دولة حسب تقديرها لمصالحها وللتهديدات الموجهة لأمنها.
جوهر الأسباب التي يمكن أن تقود الولايات المتحدة إلى هذا الانسحاب، كما صرح الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، في حواره الشهير مع مجلة «أتلانتيك» الأميركية في عام 2016، هو أن واشنطن لديها موارد محدودة، وعليها اختيار المكان الأفضل لاستخدامها، وأن هذا المكان هو آسيا وليس الشرق الأوسط.
يمكن تحديد أبرز القوى الكبرى التي سوف تسعى للاستفادة من الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط، في الصين وروسيا. و سوف يكون دورهما في إطار عدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة وعدم التورط في الصراعات القائمة بينها، بل سيكون استمراراً للسياسة التي اتبعتها الدولتان منذ عام 2000.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news