الطائفة المسيحية في مدينة إدلب.. 5 أشخاص فقط

المواطن السوري، ميشال بطرس الجسري، أحد خمسة مسيحيين لايزالون يعيشون في مدينة إدلب بعد أن سيطر عليها المتشددون، حيث كانوا يشكلون جزءاً من مجتمع ينبض بالحياة في هذه المدينة، لكنه الآن شارف على الانقراض. هذه المدينة، هي المنطقة الوحيدة في سورية التي لاتزال يسيطر عليها معارضون متشددون. لم يستطع الجسري الاحتفال بعيد الميلاد المجيد في كنيسة المدينة، بعد أن أغلقها المقاتلون. كما فقد الاحتفال مع الأصدقاء والأقارب حول شجرة عيد الميلاد لأن جميع زملائه المسيحيين تقريباً إما ماتوا، أو فروا خلال الحرب الأهلية التي دامت 10 سنوات في سورية.

وبدلاً من ذلك، يقول الجسري، إنه ذهب إلى المقبرة المسيحية في المدينة، والتي لم يعد يستخدمها أحد، وجلس بين قبور أسلافه، واحتفل بذلك بهدوء وبطريقته الخاصة، ويتساءل «مع من سأحتفل بالعطلة؟ مع الجدران؟».

هذا الرجل البالغ من العمر 90 عاماً، انحنى ظهره، وقلت قدرته على السمع بوضوح، لكنه لايزال قوياً إلى حد ما، ويمثل فرداً من أحد المجتمعات المسيحية التي كانت تنبض بالحياة في الشرق الأوسط، والتي يبدو أنها على وشك الانقراض.

ظلت المجتمعات في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا - والتي تعود جذور بعضها إلى الأيام الأولى للمسيحية - تكافح منذ عقود في ظل الحروب والفقر والاضطهاد. وكشف تقرير للحكومة البريطانية في عام 2019 أن عدد المسيحيين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قد انخفض إلى أقل من 4% من عدد السكان، بعد أن كان يمثل أكثر من 20% قبل قرن من الزمان. وكان العقد الماضي قاسياً بشكل خاص على هذه الطائفة حيث اضطرت المجتمعات المسيحية في أجزاء من العراق وسورية وخارجها، والتي تقع تحت سيطرة المسلحين المتشددين، إلى الفرار من مناطقها، بعد أن أصبحوا خاضعين لأهواء حكامهم الجدد، الذين منعوهم من ممارسة شعائرهم الدينية، واستولوا على ممتلكاتهم في بعض الأحيان.

ولد الجسري عام 1931 في إدلب، وهي مدينة محاطة ببساتين الزيتون والأراضي الزراعية في شمال غرب سورية، وهو واحد من أربعة أطفال. توفيت والدته عندما بلغ من العمر شهرين، وسرعان ما تزوج والده وأنجب ولدين آخرين. وعلى الرغم من أن مسيحيي إدلب لا ينافس عددهم عدد المسيحيين في المدن الكبرى مثل حلب، التي انخفض عدد سكانها المسيحيين أيضاً خلال الحرب، إلا أنهم كانوا يشكلون هناك مجتمعاً صغيراً نابضاً بالحياة في عاصمة المحافظة والقرى المجاورة، ويعيشون جنباً إلى جنب في تسامح مع الأغلبية المسلمة في المنطقة.

وينتمي الجسري لعائلة من الروم الأرثوذكس، مثل معظم مسيحيي إدلب، الذين كانوا يمارسون شعائرهم الدينية في كنيسة القديسة مريم الأرثوذكسية، وهي كنيسة بُنيت عام 1886 بالقرب من وسط المدينة. وعمل أفراد من مجتمعه في مهنة صياغة المجوهرات ومارس بعضهم الطبابة والمحاماة والتجارة.

في عيد الفصح وعيد الميلاد كان القس يفتح باب منزله للمسلمين والمسيحيين المهنئين، ويقول الأب إبراهيم فرح، كاهن الجسري السابق، إن شجرة عيد الميلاد الضخمة التي يتم نصبها في ميدان بالقرب من الكنيسة كانت تجتذب حشوداً من الأطفال المسلمين والمسيحيين الذين يفدون إلى هناك لتلقي الهدايا. وعلى مدى عقود عديدة، عمل الجسري في الكنيسة كمسؤول عن المقبرة، وحافظ على نظافتها، وإصلاح الأسوار وتنظيم الجنازات، وكان يستقبل عائلات المتوفين ويصنع لهم القهوة.

ظلت سورية تخضع لحكم عائلة الأسد منذ أكثر من 50 عاماً، وفي ظل حكم كل من الرئيس الراحل حافظ الأسد، الذي توفي عام 2000، وابنه بشار الأسد، الذي أصبح رئيساً لسورية منذ ذلك الحين، كان العنف بين الطوائف الدينية أمراً نادراً للغاية.

وانهار الوئام والحياة المطمئنة التي كان يعيشها الجسري وطائفته منذ فترة طويلة، بعد اندلاع الحرب الأهلية في سورية في عام 2011، ما أدى إلى زعزعة سيطرة الحكومة على مساحات شاسعة من الأراضي. وفي عام 2015، اقتحم المتمردون مدينة إدلب، ويقول الجسري إنه عندما سيطروا على المدينة، قتلوا المسيحي الياس الخال وابنه نجيب لأنهما كانا يبيعان الخمور.

ويقول إنهم خطفوا الأب إبراهيم بعد فترة وجيزة واحتجزوه لمدة 19 يوماً، وبحلول الوقت الذي أُطلقوا فيه سراحه، كانت مكتبة الكنيسة وأرشيفها قد نُهبا، وفر معظم المسيحيين الذين بقوا في المدينة قبل وصول الثوار إليها، وعددهم 1200. أغلق حكام المدينة الجدد الكنيسة وحظروا الاحتفالات الدينية المسيحية، ما أجج أكثر الهجرة، وبمجرد رحيل المسيحيين، استولى المتمردون على منازلهم ومحالهم، ويقول الأب إبراهيم عبر الهاتف من تورنتو، حيث انتقل إلى هناك بعد فراره من سورية: «اعتدنا أن ننظر إلى إدلب على أنها فسيفساء اجتماعية جميلة، لكنها الآن أصبحت فوضى متكاملة الأركان».

كان المسيحيون يمثلون نحو 10% من سكان سورية البالغ عددهم 21 مليوناً قبل اندلاع الحرب الأهلية في عام 2011، والآن، يمثلون نحو 5%، وبقي منهم أقل من 700 ألف، وفقاً للجماعات التي تتعقب الممارسات ضد المسيحيين في جميع أنحاء العالم.

ومع سقوط الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، بدأ المسيحيون أيضاً بمغادرة العراق بأعداد كبيرة، وتقلص عدد سكان العراق من المسيحيين إلى أقل من 500 ألف بحلول عام 2015 بعد أن كان 1.5 مليون في عام 2003.

وبحلول نهاية عام 2015، على حد قول الأب إبراهيم، لم يتبقَّ في المدينة سوى خمسة مسيحيين، ومات منهم اثنان منذ ذلك الحين، ومن بين المتبقين امرأة تفضل الحفاظ على خصوصية حياتها. هناك أيضاً نبيل رزوق، (72 عاماً)، هو أرمل متقاعد يعيش أبناؤه الأربعة في أي مكان آخر في سورية أو في الخارج. ويقول إنه اختار البقاء في إدلب لأن الحرب سرقت عمره ولا يريد أن يفقد منزله أيضاً، ويضيف «إذا فقدت الزمان والمكان، سأصاب بالجنون، لهذا السبب تمسكت بالمكان».

ويقضي الجسري وقته في التجول في سوق المدينة، والدردشة مع الجيران أو زيارة الأصدقاء، أو مع أطفال الأصدقاء الذين لقوا حتفهم، ولا يزعجه كونهم جميعاً مسلمين، ويقول «كلنا إخوة»، وعلى الرغم من انهيار مجتمعه، يقول إنه لم يفكر أبداً في مغادرة سورية، ويضيف «لدي أصدقاء أحبهم كثيراً، لا أحد يزعجني ولا أنا أزعج أحداً».

لاتزال الكنائس في إدلب مغلقة، على الرغم من أن المتشددين الذين يسيطرون على المنطقة يسعون للتخفيف من ماضيهم الأكثر تطرفاً، وسمحوا للمسيحيين في القرى المجاورة باستئناف الصلوات في كنائسهم، لكن يبدو أن كل ذلك لم يقنع جماعة الجسري بالعودة للمدينة. ويقول «أتمنى أن يعودوا»، وأقرب أصدقائه هو الحمام الأليف الذي يحتفظ به في غرفة ملحقة بمنزله، والذي يرفرف من حوله، ويرمي له الحب ويدندن لنفسه بأغاني عربية قديمة عن الحب وبلد أحبه كثيراً.

• كشف تقرير للحكومة البريطانية في عام 2019 أن عدد المسيحيين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قد انخفض إلى أقل من 4% من عدد السكان، بعد أن كان يمثل أكثر من 20% قبل قرن من الزمان.

• بحلول نهاية عام 2015، لم يتبقَّ في إدلب سوى خمسة مسيحيين، ومات منهم اثنان منذ ذلك الحين. ومن بين المتبقين امرأة تفضل الحفاظ على خصوصية حياتها. هناك أيضاً نبيل رزوق، (72 عاماً)، هو أرمل متقاعد يعيش أبناؤه الأربعة في أماكن أخرى من سورية أو في الخارج.

الأكثر مشاركة