«اصطناع الأزمات»..استراتيجية الدول الضعيفة للحصول على تنازلات من القوى الكبرى

كيلي إم غرينهيل*

في الأسابيع الأخيرة، تمخضت السياسات الدولية عن سلسلة من حالات الطوارئ والأزمات. فقد أجرت كوريا الشمالية سبع تجارب صاروخية في يناير، أكثر من أي شهر آخر تم رصده، وحشدت روسيا أكثر من 100 ألف جندي على طول حدود أوكرانيا، ما أدى إلى مخاوف حقيقية من غزو وشيك، وفي الجوار مباشرة، في بيلاروسيا، تستمر معاناة طالبي اللجوء الذين يسعون للعبور للاتحاد الأوروبي على طول حدود البلاد مع بولندا وليتوانيا ولاتفيا نتيجة لتدابير الهجرة الطارئة التي نظمتها الدولة.

للوهلة الأولى، قد تبدو هذه الأزمات الثلاث غير متصلة استراتيجياً وجغرافياً مع بعضها بعضاً، إلا ان هناك خيطاً مشتركاً يمر عبر هذه التطورات المستمرة: في جميع الحالات الثلاث، افتعل اللاعبون الضعفاء نسبياً أزمات جذبت انتباه نظرائهم الأكثر قوة في الغرب، ولهذا السبب فمن غير المحتمل أن تكون هذه الحوادث غير مقصودة.

لماذا تتخذ بعض الدول خطوات غير عقلانية على ما يبدو مثل اختبارات الصواريخ التسلسلية، والتصعيد العسكري الذي يهدف إلى استعداء الدول الأكثر قوة ويؤدي إلى عواقب انتقامية؟ لماذا تختلق هذه الدول الأزمات كأسلوب للتأثير؟ قبل كل شيء، كيف ينبغي للولايات المتحدة وشركائها الرد على هذا النمط من السلوك؟

إن اختلاق الأزمات على الرغم من أنه أسلوب غير منطقي، هو استراتيجية مجربة وحقيقية للاعبين الضعفاء الذين يسعون للدخول في مفاوضات وتنازلات من جهات فاعلة قوية تعارض مثل هذه التنازلات. وفي الواقع، يُظهر البحث الذي أجريناه أن العديد من هؤلاء الفاعلين ينظرون إلى اختلاق الأزمات على أنه أمر ضروري للمفاوضات مع نظرائهم الأكثر قوة. ويمثل الاختلاق الاستراتيجي للأزمات أحد الأساليب القليلة للضغط الذي تمارسه الدول الضعيفة على نظرائها الأكثر قوة. وبعد اختلاق المواجهات العسكرية، وحالات الطوارئ الإنسانية، وغيرها من الأزمات التصعيدية المحتملة، تستدير هذه الجهات الفاعلة الضعيفة وتختفي عن المسرح نظير تنازلات عسكرية واقتصادية وسياسية. وهذا يفسر، على سبيل المثال، لماذا لاحظ جيران كوريا الشمالية والمحاورون الدوليون نوبات متكررة من «الدراما والكارثة» عند التعامل مع بيونغ يانغ.

وفي مواجهة مثل هذه الكوارث المُركَّبة، كثيراً ما تضطر الدول الأقوى إلى إيلاء اهتمام متجدد لمصالح الدول الأضعف ومظالمها. وقبل نشوء أي أزمة، غالباً ما يتجاهل صانعو السياسة في الدول القوية، خصوصاً الغربية، مخاوف الدول الأضعف ويقاومون تلبية مطالبها، بل حتى الاجتماع معها. ويسود الكبرياء بين الأقوياء، حيث تستخف الدول الأقوى بتصميم الدول الأضعف واستعدادها لتحمل مخاطر خلق أزمات مكلفة. ولكن بمجرد اندلاع الأزمات المُصطنعة، غالباً ما تعمل الدول الأقوى على تعديل أو عكس مواقفها. ويحل الحوار محل الاستخفاف والاستهزاء. وفي بعض الأحيان، تبدي الدول القوية استعدادها للتفاوض أو منح امتيازات كانت تعتبر في السابق غير واردة. وبالتالي، يمكن أن يساعد اصطناع الأزمات على تكافؤ الفرص، وتعزيز صدقية الجهات الفاعلة الضعيفة، وزيادة فاعلية تهديداتها، وتحسين موقفها التفاوضي بشكل عام.

لنتأمل هنا أزمة الهجرة الحدودية المصطنعة التي أطلقها الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو. فإذا افترضنا أن لوكاشينكو، كما تكهن البعض، سعى لدى الاتحاد الاوروبي لإلغاء العقوبات المفروضة عليه أو الاعتراف الرسمي بفوزه في الانتخابات الرئاسية لعام 2020 المليئة بالاحتيال، فإن مناورته سيكون مصيرها الفشل الذريع. ولكن بدلاً من ذلك سعى لوكاشينكو لزعزعة الزعماء الأوروبيين، وزرع الانقسامات الداخلية بينهم، وإجبارهم على التعامل معه كرئيس للدولة البيلاروسية، ولهذا نجح في مسعاه، على الأقل جزئياً.

ونتج عن ذلك أن رد الفعل الأوروبي لأزمة الهجرة لم يقتصر فقط على المزيد من الاقتتال الداخلي في الاتحاد الأوروبي، واتهامات بعدم شرعية محنة المهاجرين وطالبي اللجوء، بل تعداه الى تلقي لوكاشينكو مكالمات هاتفية عدة من المستشارة الألمانية آنذاك أنغيلا ميركل، وهو أمر كان من المستحيل أن يحدث قبل الأزمة. ولاتزال بيلاروسيا معزولة، والقادة الأوروبيون يعارضون بشدة النظام في مينسك، ومع ذلك، وكما اعترف قادة الاتحاد الأوروبي على نطاق واسع، فإنهم يظلون عرضة لمثل هذه الأزمات المصطنعة. وفي الواقع، كما اعترفت مفوضة الاتحاد الأوروبي للشؤون الداخلية، إيلفا جوهانسون، فإن ما يريده لوكاشينكو «ليس أزمة هجرة في الواقع، إنما يسعى لخلق أزمة جيوسياسية».

تبرهن تصرفات روسيا ضد أوكرانيا على منطق مماثل. لسنوات، حذر القادة الروس من أن أوكرانيا تشكل مصلحة روسية حيوية، وأن تحالفها المحتمل مع الغرب سيتخطى الخطوط الحمراء الروسية. ومع ذلك، التزمت الولايات المتحدة علناً منذ عام 2008 بالترحيب بأوكرانيا في حلف شمال الأطلسي (ناتو)؛ وبالمثل، ازدادت ارتباطات الدول الغربية بالسياسة والشؤون الأمنية الأوكرانية منذ عام 2014، وقامت الحكومة الأوكرانية بقمع الجماعات السياسية والتجارية الموالية لروسيا في البلاد، بينما لم تخفِ اهتمامها بتوثيق العلاقات مع الغرب.

في ظل هذه الظروف، يتعرض السلوك الروسي للإدانة، ولكنه غير مفاجئ. ويبدو اتهام الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، العلني بأن الولايات المتحدة تجاهلت مخاوف روسيا، منطقياً تماماً عند النظر إليه في ضوء ذلك. وبسبب تفاقم الوضع، اختلقت روسيا أزمة تبرز المخاطر التي قد تواجهها الولايات المتحدة وأعضاء «الناتو» الآخرون إذا عاملوا أوكرانيا كحليف رسمي أو بحكم الأمر الواقع. قد تفشل مناورة بوتين، ومع ذلك، فإن النتيجة هي اضطرار الولايات المتحدة وحلفائها للتعامل مع المصالح الروسية بجدية أكبر من أي وقت مضى. وتجري حالياً مناقشات تفصيلية حول مجموعة المخاوف العسكرية والدبلوماسية الروسية المتعلقة بأوكرانيا والوضع الاستراتيجي الأوسع في الجوار الروسي.

من جانبه، فإن الزعيم الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، يتبع ببساطة قواعد اللعبة التي استخدمها والده وجده من قبله: تصعيد التوترات وخلق أزمة تقليدية ونووية وهجرة، ثم يعرض حل المشكلة في مقابل الحصول على امتيازات دولية.

إذا كان بوتين ولوكاشينكو وكيم وآخرون يسعون لاختلاق الازمات ويستخدمون سبباً مشتركاً يستغل غطرسة الأقوياء، فإن تصحيح المسار من قبل تلك الدول القوية نفسها أمر سليم. ومن بين الخطوات الأخرى، زيادة الاعتراف والتقدير للخيارات المتاحة للدول الضعيفة نسبياً. إذن، على الدول القوية اتخاذ خطوات للتدخل السياسي في وقت مبكر عندما تبدأ الدول الضعيفة في إصدار التهديدات، ويمكن أن تتمخض عن التدخل الدبلوماسي النشط والدقيق في وقت مبكر أزمات مستقبلية أقل، ويمكن للعالم أن يتجنب التوترات الدولية التي قد تؤدي إلى دوامات من انعدام الأمن، ناهيك عن الصراع الذي لا يريده أي من الطرفين.هذه ليست حجة لصالح التهدئة، ولا هي دعوة لتنازلات استباقية، لكنها، بدلاً من ذلك، تنبيه بأن الجهات الفاعلة الضعيفة لن تنحني بالضرورة لإرادة نظرائها الأكثر قوة، بغض النظر عن التهديدات والعقوبات التي قد تتعرض لها. إن الدول الملتزمة، مهما كانت ضعيفة، ستفعل ما بوسعها لإيصال صوتها، وينبغي النظر إلى المخاطر التي قد تواجهها والتي هي في بعض الأحيان مخاطر وجودية.

• لسنوات، حذّر القادة الروس من أن أوكرانيا تشكل مصلحة روسية حيوية، وأن تحالفها المحتمل مع الغرب سيتخطى الخطوط الحمراء الروسية.

كيلي إم غرينهيل ■  محلل وكاتب سياسي