«تسميم المضادات الإعلامية»
لأن المعركة الإعلامية في أوكرانيا شديدة الضراوة، فقد وصلت حدودها إلى الاتهامات المتبادلة بنشر الدعاية المضللة من داخل «منصات تدقيق الحقائق»، أي تلك المنصات المنوط بها تنقية الأخبار، وتقديم الحقائق خالية من الشوائب، وهو فعل يُذكر بتسميم الآبار في الحروب القديمة.
فقد ذكرت صحيفة «بروريببليكا»، المهتمة بقضايا الإعلام، أن أوكرانياً من أصل روسي، من فريق الانفصاليين، هو دانيا بيزونسون، بث تغريدة تضمنت فيديو قال فيه إنه «يكشف كيف يزوّر الأوكرانيون الحكوميون الأخبار»، بحسب زعمه.
وأورد بيزونسون داخل التغريدة فيديو عن انفجار قال إنه مفبرك ويعود تاريخه إلى 2017.
وأوضحت الصحيفة خطورة ما قالت إنه تزوير للحقائق من شخص المفروض أنه مدقق لها، في ظل أن الفيديو المشار إليه حصد مليون مشاهدة على تطبيق «تليغرام» وعشرات الآلاف من إعادة التغريدة على «تويتر»، كما بثه التلفزيون الروسي ووضعته الحكومة الروسية على «تويتر» و«فيس بوك».
ويتزامن الفيديو المشار إليه مع موجات من الأخبار، والأخبار المضادة، التي ضاعت معها الحقيقة؛ منها فيديو لضابط أوكراني يسقط ست طائرات روسية، بحسب زعم ناشريه، وتطلق عليه صفحات أوكرانية اسم «شبح كييف»، لترد الرواية الروسية بأن هذا محض هراء، وأن القصة عبارة عن لعبة كمبيوتر يتسلى بها الأطفال، وليتمسك أوكرانيون آخرون برواية ثالثة للقصة، كما تروي مواقع وفضائيات مناصرة للحكومة الأوكرانية عن قتل الروس لـ13 ضابطاً أوكرانياً في دورية على البحر الأسود، لتعود مواقع أخرى بعد أيام لتقول إن الضباط أسروا ولم يقتلوا، بينما تصمت روسيا في الحالتين.
يُصاب القارئ المحايد بالدوار وسط هذه الشلالات من المعلومات والتكذيبات المفترضة، خصوصاً أن الحرب الجارية عكست واقع الزخم المعلوماتي الذي نعيشه، سواء على مستوى صور الأقمار الاصطناعية، أو موجات الخرائط التفاعلية التي لا تتوقف، وتلك المتعلقة بمواقع القوات المتحاربة، أو المدن الأوكرانية، أو الجغرافيا البشرية، أو بممرات اللاجئين، أو الخطوط اللوجستية المفترضة.
كانت مواقع تدقيق الأخبار بدرجة نسبية، وحتى اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، هي خط الأمان الذي تحصن به الإعلام عالمياً، متصوراً أنه اخترع «المضاد الحيوي» الذي يمكن أن يفسد به التضليل الإعلامي في عالم «بات فيه الإنسان كذوباً»، وقد تبارت المؤسسات الصحافية والحقوقية، بعد ظهور هذه المواقع في تنمية قدراتها وتطوير منهجيتها، لكن الحرب خربت هذا الخط، واضعة العالم أمام مقولة أبوسفيان الثوري «من يصلح الملح إذا الملح فسد».
الخطير في الأمر أن هذا التجاذب، وصل إلى مساحة «الحرب البيولوجية» ذاتها، محطة لا يمكن إلا أن يقف العالم أمامها مذهولاً بأن الجد أصبح مكان الهزل إلى هذا الحد.