المريض يتحمل نحو 90% من النفقات الفعلية للعلاج

اللبنانيون يستسلمون للألم خوفاً من تكاليف المستشفى

صورة

يقول محمد عزالدين: «علمتُ أن التوجه إلى غرفة الطوارئ كان ضرورياً عندما لاحظت التغير السريع في لون إصبع قدمي، لكنني أدركت أيضاً أن الذهاب إلى المستشفى لن يكلفني أقل من مليوني ليرة لبنانية. وأنا لا أستطيع تحمل هكذا مبلغ، في الوقت الذي لا أملك فيه أي مصدر للدخل. يكسب ابني أقل من 50 ألف ليرة لبنانية يومياً، ونحتاج إلى هذه النقود لشراء الطعام وتأمين السكن».

زار (محمد)، ذات يوم، عيادة عرسال في سهل البقاع في لبنان، وهو رجل لبناني يبلغ من العمر 74 عاماً ويعاني مرض السكري. التوى في مشيته قليلاً ثم توقف ليلتقط أنفاسه، متكئاً على الحائط وماسحاً العرق عن شعره الأبيض، ووجهه المتعب.

تدير منظمة «أطباء بلا حدود» العيادة التي يقصدها (محمد) منذ ثلاث سنوات. وعلى مدى هذه السنوات، لم يتمكن من تحمل تكاليف اتباع النظام الصحي المخصص لمرضى السكري، ما أسهم في تدهور وضعه بصورة إضافية، وأدى إلى بتر قدمه اليسرى في ما بعد.

يوم غريب

ويقول الطبيب المعالج ربيع كبار، «يزور (محمد) عيادتنا منذ فترة طويلة، ونعرفه جيداً. فلم تمنعه الصعوبات الجسدية التي يعانيها يومياً عن نشر الضحكات بمزاحه وحكاياته. أما هذا اليوم، فقد بان التعب بشكل واضح عليه، وبدا وكأنه يحمل هموم الدنيا على كتفيه».

أثناء المعاينة، لاحظ الدكتور كبار أن أحد أصابع قدم محمد قد أسود لونه. وكان من الضروري بتر هذا الإصبع فوراً لتفادي تفشي العدوى إلى بقية جسمه. ثم جهّز ما يلزم لإحالة (محمد) إلى مستشفى قريب على وجه السرعة. والجدير ذكره هو أن (محمد) لاحظ تغير لون إصبعه قبل زيارته للعيادة بأسبوعين، لكنه غض الطرف ولم يخبر أحداً عن ذلك لمعرفته أنّه لن يستطيع تحمّل تكاليف تلقي الرعاية اللازمة في المستشفى.

تكاليف الرعاية الاستشفائية

شُخّصت إصابة (محمد) بالسكري وارتفاع ضغط الدم منذ 10 سنوات. واستطاع تغطية تكاليف علاجه في السابق بفضل الأعمال التي أداها هنا وهناك. إلا أنّ الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان منذ ثلاث سنوات أثرّت في مصدر رزقه، وبالتالي في قدرته على تحمّل تكاليف الرعاية والدواء اللذين يحتاج لهما. ونتيجة لذلك، قصد (محمد) عيادة «أطباء بلا حدود» في عرسال.

وعلى مدى السنوات العشر الماضية، أمّنت فرق أطباء المنظمة الصحية في عيادة عرسال العلاج للمصابين بأمراض مزمنة، وقدمت الرعاية الطبية للأطفال والرعاية الصحية الإنجابية واستشارات الصحة النفسية لتسد الفجوة القائمة في الخدمات الصحية الأساسية في سهل البقاع. وشهدت فرق المنظمة، أخيراً، في العيادة ارتفاعاً ملحوظاً في عدد الأشخاص الذين يعانون حالات حرجة ويحتاجون إلى رعاية استشفائية.

تزايد أعداد المراجعين

ويقول الممرض المسؤول عن الإحالة في البقاع، ميثم جاري: «أمسى الناس يقصدون العيادة وقد تفاقمت حالاتهم إلى ما لا يمكن إدارته بالطرق الاعتيادية، آملين العثور على طرق بديلة للتعامل مع مرضهم، وذلك لكي يتجنبوا الذهاب إلى المستشفيات وتكبّد تكاليف الرعاية فيها».

وحالت الأزمة الاقتصادية المستمرة في لبنان دون تمكن أشخاص كثيرين من تحمل تكاليف الرعاية في المستشفيات، وبات الناس يؤجلون تلقيهم للعلاج الطبي اللازم في الوقت المناسب. وفي ظل انخفاض قيمة العملة المحلية بنسبة 90%، ونظراً للتضخم الآخذ بالتفاقم، ارتفعت أسعار السلع الأساسية بشكل كبير، بما فيها الأدوية والمعدات الطبية، رافعةً معها تكاليف الاستشفاء. وفي الوقت نفسه، فقدت رواتب الناس جزءاً كبيراً من قيمتها، ما يزيد من صعوبة تحمل تكاليف الرعاية أو اللجوء إلى تأمين خاص يغطي هذه التكاليف.

هبوط حاد في القيمة الفعلية لمساهمات الدولة

غطى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، إلى جانب وزارة الصحة العامة، رسوم المستشفيات في لبنان إلى حد كبير، وذلك بحسب الوضع الوظيفي للمريض والمعايير الطبية. في الغالب، غطت هذه المساهمات بين 85 و90% من التكاليف، بينما دفع المريض النسبة المتبقية. ولكن في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية، لا يغطي الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ووزارة الصحة العامة، الآن، سوى جزء بسيط من التكاليف الفعلية.

وفي هذا السياق، تقول نائب المنسق الطبي في المنظمة، فرح ناصر: «ألقت الأزمة بظلالها على الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ووزارة الصحة العامة، فأمسيا يعانيان بدورهما على المستوى المادي، ما حال دون تمكنهما من المساعدة بصورة أكبر. ففي الوقت الجاري، تُحدد رسوم المستشفى بحسب القيمة الحالية للعملة المحلية في السوق، في حين مازال الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ووزارة الصحة العامة يقدمان المساعدة بحسب قيمة العملة قبل الأزمة، فيضطر المريض إلى تحمل نحو 90% من النفقات الفعلية».

هجرة العاملين في المجال الصحي تهدد جودة الرعاية

حتى لو تمكن المرضى من دفع رسوم المستشفى، فإن العاملين الصحيين المتمرّسين يغادرون لبنان بأعداد كبيرة، تاركين المستشفيات من دون عدد كافٍ من الموظفين. وبعدما هاجر أكثر من 30% من العاملين في المجال الصحي، اضطر العديد من المستشفيات إلى تقليص خدماتها، ما أثر في جودة الرعاية التي توفرها.

ويضيف ميثم «في الشهر الماضي، احتاج رضيع في مركز الولادة إلى جراحة أعصاب. فأمضينا أسابيع في محاولةٍ للعثور على جراح أعصاب يمكنه إجراء العملية الجراحية، لكننا لم نجد إلا طبيبين يعملان في هذا المجال في البلد بأكمله».

يواجه الناس في لبنان تراجعاً حاداً في قدرتهم على الحصول على رعاية ذات جودة في المستشفيات.


بعدما هاجر أكثر من 30% من العاملين الصحيين، اضطر العديد من المستشفيات إلى تقليص خدماتها، ما أثر في جودة الرعاية التي توفرها.

 الناس يقصدون العيادات الخيرية، وقد تفاقمت حالاتهم إلى ما لا يمكن إدارته بالطرق الاعتيادية، آملين العثور على طرق بديلة للتعامل مع مرضهم، وذلك لكي يتجنبوا الذهاب إلى المستشفيات وتكبّد تكاليف الرعاية فيها.
في ظل انخفاض قيمة العملة المحلية بنسبة 90%، ونظراً للتضخم الآخذ بالتفاقم، ارتفعت أسعار السلع الأساسية بشكل كبير، بما فيها الأدوية والمعدات الطبية، رافعةً معها تكاليف الاستشفاء.

 

تويتر