«قبقاب غوار» يزاحم أزقة نابلس وحيداً
«خضير» مهجّر فلسطيني يحمي مهنة والده من الاندثار
بين أحضان جبل النار وسط مدينة نابلس شمال الضفة الغربية، وبين أزقتها العتيقة الضيقة، يمكن للوافد أن يعيش عن قرب تفاصيل مشاهد مسلسل «عودة غوار» السوري، والتي برز فيها ارتداء الفنان السوري دريد لحام الحذاء الخشبي «القبقاب»، إلى جانب استخدامه في مقاطع مضحكة متعددة في جميع أعماله المسرحية والدرامية.
في منطقة باب البوابة، داخل حارة «القيسارية»، إحدى حارات البلدة القديمة وسط محافظة نابلس، وبين أركان ورشته الصغيرة العتيقة، يداوم الحاج السبعيني وليد خضير منذ 50 عاماً، على صناعة «القبقاب» التراثي، بشكل منفرد في جميع الأراضي الفلسطينية، في محاولة منه لإحياء الموروث الفلسطيني الحضاري، على مر الأعوام المتعاقبة، ولدى جميع الأجيال المتلاحقة.
وعلى الرغم من حالة تطور الصناعات، إلا أن مشغولات أبوخالد خضير اليدوية تشهد إقبالاً كثيفاً من سكان نابلس، والمدن الفلسطينية على حد سواء، لاقتناء «قبقاب غوار» من داخل ورشة التراث القديمة.
ذكريات القبقاب
حجزت «الإمارات اليوم» موعداً مع التراث بلقاء صاحب العقود السبعة من عمره، داخل ورشة العتيقة التي مازالت على حالها، كما ورثها عن والده في العام 1972، إذ يروي كل ركن فيها حكاية تراث المهجرين، على مدار السنين.
وبدأت حكاية أبوخالد، وهو أب لثلاثة أبناء وأربع بنات، مع «القبقاب» قبل عصر النكبة عام 1948، فقد هُجر والده قسراً من مدينة اللد شمال فلسطين، ولجأ إلى مدينة نابلس، ليفتتح بعد أشهر قليلة ورشة للنجارة، كالتي كانت في اللد قبل اللجوء، وسمّاها «منجرة اللداوي». وفي نابلس، أكمل الوالد المُهجر مجدداً مشواره في مجال المنتجات الخشبية، وصناعة القبقاب، ليصبح ابنه وليد منذ 50 عاماً إلى يومنا هذا، حلقة الوصل بين تراث الآباء والأجداد، والأجيال الفلسطينية المتعاقبة.
يقول أبوخالد لـ«الإمارات اليوم»، بلهجة أهل اللد التراثية القديمة التي مازال يحتفظ بها، رغم مضي 74 عاماً على نكبة اللجوء الفلسطينية، «رافقت والدي منذ الصغر بين الآلات والأدوات اليدوية، وشاهدت عن قرب إتقانه صناعة المنتجات الخشبية، وأبرزها الحذاء، وبعد سنوات قليلة أتقنت المهنة، تماماً، كما كان والدي».
ويضيف، «بعد أن رحل والدي رحمه الله عن الدنيا إلى جوار ربه، أكملت مشواره حتى اليوم، من دون كلل أو ملل، حتى أصبحت أنا الوحيد الذي ينتج القبقاب في الأراضي الفلسطينية قاطبة». ويواصل خضير حديثه قائلاً، «في قديم الزمان كان القبقاب يشهد رواجاً كبيراً لدى معظم السكان، فلا يخلو منزل فلسطيني منه على الإطلاق، فرب البيت الواحد كان يقتني ست أحذية خشبية في المرة الواحدة. ويبين الحاج السبعيني أن القبقاب كان يستخدم قديماً للاستحمام في بيت الخلاء، وفي مراحيض المساجد، كما كانت ومازالت حمامات البخار العتيقة في المدن الفلسطينية تقتنيه باستمرار.
مراحل الإنتاج
صناعة القبقاب لا تعد بالأمر الهين الذي لا يتطلب من الحاج أبوخالد جهداً ووقتاً كبيرين، فهي تمر بعدة مراحل، أولها قص أخشاب شجرة الصنوبر، كونه النوع المناسب لهذا المنتح التراثي، إلى قطع متوسطة الحجم تسمى «قرطات»، لتبدأ مرحلة تشريحها إلى قطع طولية. وبعد أن تكون أخشاب الصنوبر جاهزة، يتم الانتقال إلى مراحل جديدة من الإنتاج، إذ يمسك أبوخالد قطع الخشب، لتحديد الرسم الخاص بالقبقاب، ليغرس كل قطعة بمفردها داخل المنشار المعدني، حتى يحصل على شكل الحذاء الخشبي.
وبكلتا يديه اللتين عاصرتا خشونة اللجوء والتهجير، وقسوة الحياة تحت الاحتلال، يمسك خضير بلوح من «البرداخ»، لتنعيم القطع الخشبية بعد تشكيلها وقصها، حتى يحصل على سطح أملس، ليصل إلى مرحلة الإنتاج الأخيرة، وهي تثبيت قطع من الجلد ملونة أو سوداء على الحذاء، بواسطة مسامير معدنية، ليحصل في نهاية المطاف على شكل القبقاب، ويصبح جاهزاً للعرض والاقتناء.
خشية الاندثار
ويفتخر الحاج السبعيني في جميع ما ينتجه من صناعات تراثية ونادرة، والتي يصفها بالجهد الوطني، للحفاظ على هوية تراث الشعب الفلسطيني، وعاداتهم القديمة، وهذا ما جعل القبقاب الذي يصنعه يكسب رواجاً كبيراً في الوقت الحالي، لدى الكثير من المواطنين، والمساجد، وكذلك حمامات البخار التركية والشامية، داخل الأراضي الفلسطينية. إلى جانب ذلك، يبذل أبوخالد جهداً كبيراً لحماية هذا النوع من الصناعات من الاندثار، وهذا أكثر ما يخشاه آخر حرفي يصنع القبقاب في فلسطين.
ويقول الحاج خضير، «إنه نتيجة للمشوار الذي خضته طويلاً، يقبل على منتجاتي زبائن محليون من الضفة الغربية وفلسطين المحتلة عام 1948، والمدينة المقدسة، وكذلك من قطاع غزة في حال فتح المعابر، كما تتوافد إلى ورشة والدي وفود جمة، لتعيش عن قرب لحظات من الحقب الزمنية المنقضية، من بينها الجامعة الأميركية في مدينة جنين شمال الضفة الغربية».
ومن الجدير ذكره، أن مهنة أبوخالد التي أمضى أكثر من نصف عمره يزاولها داخل ورشة والده، تنتج مشغولات يدوية جمة، تحاكي تراث الشعب الفلسطيني القديم، فإلى جانب صناعة القبقاب الخشبي، ينتج مشغولات أخرى، ومنها طاحونة القمح «الدراس»، وكراسي القش، وأسرّة الأطفال، إلى جانب السلالم، ومحراث الأراضي الزراعية.
بين أركان ورشته الصغيرة العتيقة، يداوم السبعيني وليد خضير منذ 50 عاماً، على صناعة «القبقاب» التراثي.
على الرغم من حالة تطور الصناعات، إلا أن مشغولات خضير اليدوية تشهد إقبالاً كثيفاً من سكان نابلس والمدن الفلسطينية على حد سواء لاقتناء «قبقاب غوار».
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news