دلالات «صفقة الحبوب» بين روسيا وأوكرانيا بوساطة تركية وأممية
وقّعت أوكرانيا وروسيا وتركيا والأمم المتحدة اتفاقاً في إسطنبول، في 22 يوليو الماضي، لاستئناف صادرات الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود. ومن شأن الاتفاق أن يتيح الإفراج عن الحبوب الأوكرانية العالقة بسبب ظروف الحرب، كما أعلن الاتحاد الأوروبي، بالتزامن، تخفيف القيود عن تصدير الحبوب والأسمدة الروسية. ورحبت الولايات المتحدة بالاتفاق، إذ قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، نيد برايس: «نرحب بإعلان هذا الاتفاق من حيث المبدأ، ولكن ما يهمنا الآن هو تحميل روسيا مسؤولية تنفيذ هذا الاتفاق، والسماح للحبوب الأوكرانية ببلوغ الأسواق العالمية».
وتتمثل أهم بنود الاتفاق الذي تم التوصل إليه برعاية تركية وأممية في التالي:
أولاً: الإفراج عن الحبوب الأوكرانية، إذ يسمح الاتفاق بتصدير ما بين 20 و25 مليون طن من الحبوب المحاصرة في أوكرانيا. وسيكون الاتفاق صالحاً للتطبيق لمدة «120 يوماً»، وهي المدة اللازمة لإخراج نحو 25 مليون طن من الحبوب المكدسة في الصوامع الأوكرانية، بينما يقترب موعد موسم الحصاد الجديد. والجدير بالذكر أن روسيا وأوكرانيا توفران معاً نحو 30% من صادرات القمح العالمية.
ثانياً: إنشاء ممرات آمنة، وينص الاتفاق على إقامة «ممرات آمنة» يمكنها السماح بعبور السفن التجارية في البحر الأسود، وتعهدت موسكو وكييف بـ«عدم مهاجمتها». وتخلى المفاوضون عن إزالة الألغام التي زرعها الأوكران لحماية سواحلهم في البحر الأسود، وذلك على أساس أن عملية إزالتها ستستغرق وقتاً طويلاً، كما سيقوم «طيارون أوكرانيون» بفتح الطريق أمام سفن الشحن في المياه الإقليمية.
ثالثاً: تفتيش السفن الأوكرانية، وتم الاتفاق على أن تتم في إسطنبول عمليات تفتيش السفن المغادرة من أوكرانيا، أو المتوجهة إليها، بهدف الاستجابة للمطالب الروسية، التي تريد ضمانات بأن سفن الشحن لن تجلب أسلحة إلى الأوكرانيين.
رابعاً: إعفاء صادرات روسية من العقوبات، وأعلن الاتحاد الأوروبي، في 22 يوليو، أي في يوم توقيع الاتفاق نفسه أنه قرر إعفاء المعاملات التجارية الخاصة بالمنتجات الزراعية ونقل النفط، التي تتم بين دول من طرف ثالث وبعض الكيانات المملوكة لروسيا، من العقوبات، وذلك بهدف تجنب أي عواقب سلبية محتملة على الغذاء وأمن الطاقة في أنحاء العالم، وهو ما يمثل تراجعاً عن العقوبات الغربية السابقة، ويعد جزءاً مكملاً لاتفاق الحبوب الذي تم توقيعه مع أوكرانيا.
وتعطلت حركة السفن الروسية بسبب حذر شركات التأمين الأوروبية من تقديم خدماتها للشركات الروسية، وهو ما يعني تسهيل الإجراءات الأوروبية الجديدة تصدير واردات الحبوب الغذائية، والأسمدة الزراعية من الموانئ الروسية. كما ألغى الاتحاد الأوروبي العقوبات المفروضة على بعض البنوك الروسية من القيود الخاصة بمعاملات تصدير الغذاء، مثل: «سوفكوم بنك» و«نوفيكوم بنك»، و«أوتكريتي»، و«في إي بي»، و«برومسفياز بنك»، و«بنك روسيا» و«سبير بانك».
تراجع الغرب
يلاحظ أن الدول الغربية قد خففت بعض العقوبات عن روسيا للإفراج عن الحبوب الأوكرانية، كما سبقت الإشارة، وهو ما يمكن أن يعود إلى أسباب عدة. أولاً: انهيار البدائل الأميركية، إذ سعت الولايات المتحدة لإخراج القمح الأوكراني براً عبر رومانيا وبولندا، على أن يتم نقلهما من خلال موانئ بولندا، أو رومانيا إلى دول العالم المختلفة، غير أنها واجهت مشكلات في هذا الإطار، إذ إن الكميات التي يمكن تصديرها براً كانت محدودة، فالسكك الحديدية الأوكرانية غير مؤهلة لنقل كميات كبيرة من القمح.
كما أن خطوط السكك الحديدية في أوكرانيا تختلف عن نظيرتها الأوروبية، وهو ما جعل من الصعب عملياً تصدير القمح براً. من جهة أخرى، فإنه مع اقتراب موسم حصد الحبوب في أوكرانيا، فإن الإنتاج الجديد من الحبوب لم يكن ليجد مكاناً جديداً لتخزينه، خصوصاً إذا لم يتم تصدير الحبوب المخزنة في المستودعات الأوكرانية للخارج.
ومن جهة أخرى، أعلن الرئيس الأميركي، جو بايدن، في منتصف يونيو، أن الغرب يعتزم بناء صوامع على الحدود الأوكرانية لتسهيل تصدير الحبوب العالقة في موانئ البحر الأسود، غير أن هذا الحل كان سيستغرق وقتاً، ولن يمكن أوكرانيا من تخزين محصولها الجديد في الصوامع، التي كانت ممتلئة بشكل شبه كامل، إذ كانت تحتوي على 20 مليون طن من القمح.
ثانياً: تجنب انهيار الهيمنة الغربية، ويلاحظ أن روسيا سعت لاستغلال أزمة الغذاء العالمية، بالإضافة إلى ارتفاع درجات الحرارة، وتضرر الإنتاج الزراعي هذا الموسم في عدد من البلدان، وسعت لتصدير الحبوب إلى الدول الصديقة من خلال نظام جديد للمعاملات المالية يقوم على العملات المحلية، وذلك بهدف تجنب عقوبات الطرف الثالث التي فرضتها الدول الغربية.
ونظراً لإخفاق الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في توفير بدائل للحبوب من روسيا وأوكرانيا، فضلاً عن إخفاق خططها في إخراج الحبوب الأوكرانية من دون التوصل لاتفاق مع روسيا، فإنه لم يكن أمام الدول المختلفة سوى التجاوب مع روسيا لاعتماد نظام ثنائي للتبادل التجاري بعيداً عن استخدام نظام التحويلات البنكية (السويفت)، وهو ما كان يعني انهيار هيمنة الغرب على النظام المالي العالمي، ومن ثم تراجع فاعلية العقوبات الغربية.
ولذلك، فإن التراجع الغربي عن بعض العقوبات المفروضة على روسيا كان يهدف لتجنب خطر أكبر، وهو اتجاه الدول المختلفة للتعامل بشكل مباشر مع روسيا، بما يطرح بدائل للنظام المالي العالمي المهيمن عليه من الغرب.
ومن جهة أخرى، فإن عقوبات الطرف الثالث الغربية قد واجهت تحديات، خصوصاً مع اتجاه كل من الصين والهند لزيادة صادراتهما من النفط والغاز من موسكو، على الرغم من التحذيرات الغربية بفرض عقوبات ضد الأطراف الثلاثة التي تدخل في معاملات مالية مع موسكو لتقويض العقوبات الغربية عليها.
ثالثاً: فشل الهجوم الإعلامي الغربي. ووجهت الدول الغربية اتهامات لموسكو بالمسؤولية عن أزمة الغذاء العالمية، وهي الاتهامات التي رفضتها روسيا، مؤكدة أن الدول الغربية مسؤولة عن الأزمة الحالية، فقد أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن العقوبات التي يفرضها الغرب على موسكو فاقمت أزمات الغذاء العالمية، واستغرب عدم معرفتهم بأن العقوبات على الغاز، أحد أهم مدخلات صناعة الأسمدة الزراعية، ستؤثر في واردات الغذاء.
ومن جهة أخرى، حمّلت روسيا الولايات المتحدة مسؤولية التضخم العالمي، إذ أكدت أن واشنطن قامت بطباعة النقود المستخدمة في الاحتياطات العالمية، ما زاد من التضخم العالمي، وفاقم من أسعار الغذاء، أي أن الغرب، وليس حرب روسيا هو المسؤول عن الأزمة العالمية.
وفي حقيقة الأمر، فإن دول العالم لا تبالي كثيراً بتحميل روسيا أو الغرب مسؤولية أزمة الغذاء، بل كانت حريصة على إيجاد بدائل بأسعار معقولة، كما أنه نظراً لارتباط أغلب دول العالم بمصالح مع روسيا، أو الدول الغربية، فإن واشنطن والدول الأوروبية لم تنجح في دفعها لتبني مواقف حادة ضد روسيا، أو التماهي مع العقوبات الغربية ضد روسيا.
مجالات أخرى
يلاحظ أن مراجعة العقوبات الغربية ضد روسيا لن تقتصر على الغذاء فقط، ولكنها ستمتد إلى مجالات أخرى. فقد طرح مسؤولون من دول مجموعة السبع فكرة وضع تسعيرة خاصة لمبيعات النفط الروسي، وهو ما يمثل تراجعاً عن المحاولات الغربية لإخراج النفط الروسي من الأسواق، وذلك إدراكاً منها لغياب البدائل، التي يمكن أن تعوض الإنتاج الروسي الضخم.
ولكن على الجانب الآخر، فإن هذه السياسة لا تتسم بالمعقولية، إذ إن روسيا قد تتجه لخفض كميات النفط المصدرة رداً على محاولة دول أخرى تسعير نفطها، بما يتسبب في ارتفاع أكبر لأسعار النفط دولياً، ومن ثم ستزيد موسكو من عائدات صادرات الطاقة.
ووفقاً لمركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف، حققت إيرادات موسكو من الطاقة خلال الـ100 يوم الأولى من الحرب نمواً بنسبة 60% على أساس سنوي لتصل إلى نحو 97 مليار دولار، ويأتي ذلك وسط تجاوز أسعار خام برنت أكثر من 100 دولار للبرميل منذ أواخر فبراير الماضي.
إضافة إلى ذلك، مددت واشنطن إعفاء المعاملات المالية المرتبطة بمشتريات الطاقة الروسية مع «سبير بنك»، وبنك «في تي بي»، و«ألفا بنك»، بالإضافة إلى كيانات روسية أخرى من العقوبات حتى 5 ديسمبر المقبل، وهو ما يعني إدراك الولايات المتحدة للخسائر التي طالتها بسبب العقوبات الغربية ضد موسكو.
وفي الختام، يمكن القول إن العقوبات الغربية ضد روسيا قد تشهد تراجعاً خلال الفترة المقبلة، وذلك بسبب تداعياتها الكارثية على الاقتصاد العالمي، وغياب البدائل حتى الآن، فضلاً عن إخفاق الغرب في تطبيق عقوبات ضد الطرف الثالث، ومخاوف واشنطن من إيجاد روسيا بدائل لتسوية المعاملات المالية مع دول العالم، بما يتجاوز النظام المالي الغربي، ويقوّض من الهيمنة الأميركية على النظام المالي العالمي.
مع اقتراب موسم حصد الحبوب في أوكرانيا، فإن الإنتاج الجديد من الحبوب لم يكن ليجد مكاناً جديداً لتخزينه، خصوصاً إذا لم يتم تصدير الحبوب المخزنة في المستودعات الأوكرانية للخارج.
bمن صادرات القمح العالمية توفرها روسيا وأوكرانيا.