ما وراء التصعيد الأميركي المنضبط ضد الصين
خلال العقود الأخيرة، كانت الصين قضية أمن قومي أميركي ترتبط بالسياسة الخارجية والدفاعية، لكنها تحولت أيضاً إلى قضية داخلية أميركية ترتبط بالمواسم الانتخابية، وتتحدد على أساسها مواقف المرشحين وحظوظهم في الفوز بأصوات الناخبين.
وقد ارتفعت أسهم التيار الذي يتبنى مواقف متشددة ضد بكين، وأصبح توجه الأغلبية من الأميركيين.
فوفقاً لاستطلاع رأي أجراه «معهد غالوب» في مارس من العام الماضي، فإن 67% من الأميركيين لديهم آراء سلبية تجاه الصين، وذلك ارتفاعاً من 46% في عام 2018.
كما أن نسبة الأميركيين الذين ينظرون إلى الصين باعتبارها أكبر عدو للولايات المتحدة قد تضاعفت من 22% إلى 45%.
وهذا التحول في توجهات الرأي العام الأميركي نحو الصين، له العديد من الأسباب؛ منها أن إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، تبنت بشكل رسمي سياسة «التوجه نحو آسيا»، والذي صاحبه جدل داخلي كبير حول خطورة الصعود الصيني وتهديده للأمن الأميركي، وبرّر قيام الولايات المتحدة بتوجيه الجانب الأكبر من اهتمامها ومواردها في مجال الأمن القومي إلى القارة الآسيوية.
وازداد التصعيد اللفظي ضد بكين في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، وتضمنت استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي صدرت في عهده، عودة العالم لسياسة «تنافس القوى الكبرى»، وأن الصين هي المنافس الأساسي للولايات المتحدة. ثم جاءت جائحة كورونا وترددت الاتهامات الأميركية بأن الصين كانت وراء تفشّي هذا الفيروس، ما أدى إلى زيادة تشويه صورتها لدى الرأي العام الأميركي.
والواقع أن ثمة توافقاً بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري على اعتبار الصين المنافس الأكبر للولايات المتحدة، وفي حين يُركز الجمهوريون على التهديدات الاقتصادية والتكنولوجية المرتبطة بالصين، فإن الديمقراطيين يضيفون إلى ذلك قضايا القيم، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وفي إطار ما سبق، يمكن توضيح أبرز الأسباب المُرتبطة بالتصعيد الأميركي الأخير تجاه الصين من خلال بوابة تايوان، وذلك على النحو التالي:
الاستعداد لانتخابات التجديد النصفي للكونغرس
يتعرض الديمقراطيون لهجوم من الجمهوريين مفاده أنهم متساهلون تجاه الصين، وفي ظل الاحتمالات الكبيرة لخسارة الحزب الديمقراطي للأغلبية التي يتمتع بها في مجلسي النواب والشيوخ، أو أحد المجلسين على الأقل، ومن المُرجح أن يكون مجلس النواب، في انتخابات نوفمبر المقبل؛ يسعى الديمقراطيون للتصعيد ضد بكين، سواء من خلال البيت الأبيض أو قيادات الكونغرس، وذلك من أجل التأكيد لدى الناخب الأميركي أن الديمقراطيين يتبنون أيضاً مواقف متشددة تجاه الصين.
وفي هذا الإطار، كانت زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، لتايوان، في الثاني من أغسطس الجاري، والتي اعتبرتها الصين «تصعيداً خطيراً ولعباً بالنار».
والواقع أن أحد دوافع هذه الزيارة يرتبط بالاعتبارات الانتخابية السابقة، خصوصاً أن بيلوسي قد تتعرض لفقدان موقعها القيادي في الكونغرس إذا خسر الديمقراطيون أغلبيتهم في مجلس النواب، بل إنها قد تضطر للتقاعد عن العمل السياسي، حيث سيتم تحميلها جانباً من المسؤولية في حالة خسارة الأغلبية الديمقراطية. وقد حققت بيلوسي عدداً من النتائج المحدودة من تلك الزيارة، حيث أرسل نحو 26 من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين رسالة تدعم رحلتها إلى تايوان.
المساعدة في تمرير الأجندة التشريعية لبايدن
استغلت إدارة الرئيس جو بايدن تصاعد موجة العداء للصين، خصوصاً بعد انقطاع سلاسل الإمداد القادمة منها نتيجة جائحة كورونا، وتقدمت بمشروع قانون وافق عليه الكونغرس في أواخر يوليو الماضي بأغلبية كبيرة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وتضمّن حزمة بقيمة 280 مليار دولار من إعانات وتمويل لتعزيز القدرة التنافسية للولايات المتحدة في الإنتاج المحلي للرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات، والذي يراه البيت الأبيض وقادة الكونغرس من الحزبين، أمراً بالغ الأهمية للأمن القومي، ولمواجهة التهديد التنافسي الذي تُشكله الصين في هذه الصناعة، وكذلك تهديدها المُستمر لتايوان التي تُعتبر المُنتج الأكبر في العالم لهذه الرقائق التي تُستخدم في العديد من المُنتجات المدنية والعسكرية.
وقد أظهر التصويت على هذا القانون توافقاً حزبياً كبيراً بين الديمقراطيين والجمهوريين؛ بسبب ربطه بالصين (في مجلس الشيوخ بأغلبية 64 عضواً ضد 33، مع انضمام 17 جمهورياً للديمقراطيين. وفي مجلس النواب بأغلبية 243 عضواً ضد 187، وانضمام 24 جمهورياً للديمقراطيين)، وهو ما عكس أيضاً القلق المُتزايد في كلا الحزبين من أن الواردات التكنولوجية الاستراتيجية من الرقائق الإلكترونية، وغيرها، قد تتعرض للانقطاع في المستقبل نتيجة للتهديدات الصينية.
وقد عبّر زعيم الأغلبية بمجلس الشيوخ، تشاك شومر (ديمقراطي)، عن هذا الهدف بقوله: «في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، كان بإمكان شركاتنا أن تعمل بشكل جيد بمفردها، ولكن في القرن الـ21، مع دول مثل الصين تستثمر بكثافة، يمكننا أن نجلس على الهامش، ومن سيخسر؟ العمال الأميركيون والهيمنة الاقتصادية الأميركية وأمننا القومي».
وأشار عضو مجلس النواب عن الحزب الجمهوري، توم كول، إلى أن ذلك القانون يُعد خطوة في الاتجاه الصحيح نحو إبقاء الصين في مأزق، وحماية المصالح الاقتصادية والأمنية للولايات المتحدة، قائلاً: «في الوقت الذي أصبحت فيه الصين عدوانية بشكل مُتزايد، وتحاول بشكل خطير السيطرة على النظام العالمي، فإن القانون يُعزز القدرة التنافسية العالمية للولايات المتحدة من خلال الاستثمار في صناعة أشباه الموصلات، وتشجيع تصنيع هذه القطع التكنولوجية المُهمة محلياً، حيث يجب علينا تأمين صناعاتنا من الخصوم الأجانب».
ردع الصين لعدم تكرار تجربة أوكرانيا في تايوان
عندما تحدّث الرئيس الأميركي، جو بايدن، مع نظيره الصيني، شي جين بينغ، في 18 مارس الماضي، بعد نحو ثلاثة أسابيع من حرب روسيا في أوكرانيا، تركز جانب كبير من المحادثة على تايوان؛ في ظل تخوّف أميركي من أن ما يحدث في أوكرانيا يمكن أن يؤثر في توجه الصين تجاه تايوان.
ووفقاً لتحليلات أميركية، كان هناك تباين في وجهات النظر حول ما إذا كانت تداعيات الحرب الأوكرانية تزيد أو تقلل من احتمالات هجوم صيني على تايوان؟ فهناك من يرى أن التحالف الغربي المُتحد بشأن العقوبات ضد روسيا، وفاعلية المقاومة الأوكرانية، وتكبّد موسكو حجماً كبيراً من الخسائر في الأرواح والمُعدات؛ يمكن أن يمنع الصين من القيام بتدخل عسكري مُحتمل في تايوان.
فيما كانت وجهة النظر الأخرى ترى أن النجاح الروسي في تحقيق مكاسب على الأرض، وعدم تقديم الولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلسي (الناتو) دعماً عسكرياً لأوكرانيا بشكل كافٍ، يُمكن أن يشجع بكين على مهاجمة تايوان، في ظل تركيز العالم على أوروبا.
كما طرح عدد من الخبراء احتمال عدم قيام الصين بتدخل عسكري شامل في تايوان، مع تبنّي خيارات أخرى، مثل السيطرة على الجزر التايوانية البعيدة، أو فرض حصار على تايوان من خلال سيطرة الحكومة الصينية بشكل فعّال على الحدود الجوية والبحرية لها، وحظر وصول أي مساعدات عسكرية أميركية إلى تايوان، أو مصادرتها باعتبارها انتهاكاً للسيادة الصينية. وقد يكون على الولايات المتحدة وقتها التفكير في خيار استخدام القوة والدخول في حرب مُحتملة مع الصين لإنهاء هذا الحصار.
وهذه الخيارات دفعت واشنطن إلى التصعيد السياسي مع بكين، لتأكيد رفضها أي عمل عسكري صيني مُحتمل ضد تايوان، واستعدادها للدفاع عن الأخيرة، وهو ما جاء على لسان الرئيس بايدن في مؤتمر صحافي بطوكيو في 23 مايو الماضي، عندما سأله أحد الصحافيين: «هل أنت على استعداد للتدخل عسكرياً للدفاع عن تايوان إذا تعلق الأمر بذلك؟» فأجاب الرئيس الأميركي بشكل واضح «نعم.. هذا هو الالتزام الذي قطعناه». ويُمثل هذا التصريح تحولاً عما عُرف بسياسة «الغموض الاستراتيجي» الأميركية، التي لم تؤكد فيها الولايات المتحدة صراحةً ما إذا كانت ستُدافع عن تايوان أم لا، أو تحت أي ظروف. ولكن الولايات المتحدة عادت وتعاملت بشكل هادئ مع المناورات العسكرية التي قامت بها الصين في محيط تايوان عقب زيارة بيلوسي.
وقال الرئيس بايدن للصحافيين يوم الثامن من أغسطس الجاري: «أشعر بالقلق من أنهم يتحركون بقدر ما يتحركون، لكنني لا أعتقد أنهم سيفعلون أي شيء أكثر ممّا يفعلون». بينما أكد أحد مسؤولي وزارة الدفاع الأميركية أن «الجيش الأميركي سيواصل عبور مضيق تايوان في الأسابيع المقبلة، وسيواصل عمليات حرية الملاحة في أماكن أخرى من المنطقة، وسيواصل الوقوف إلى جانب حلفائنا وشركائنا».
تصعيد منضبط
يمكن القول إن التصعيد الأميركي الحالي ضد الصين هو «تصعيد مُنضبط»، لا يهدف إلى الوصول لـ«حافة الهاوية» أو التورط في حرب مع الصين؛ ولكن يهدف إلى تحقيق أهداف تخدم الديمقراطيين في الساحة السياسية الخارجية، وتُسهم في ردع الصين لعدم القيام بمغامرة عسكرية في تايوان.
ازداد التصعيد اللفظي ضد بكين في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، وتضمنت استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي صدرت في عهده، عودة العالم لسياسة «تنافس القوى الكبرى»، وأن الصين هي المنافس الأساسي للولايات المتحدة.
عندما تحدّث الرئيس الأميركي، جو بايدن، مع نظيره الصيني، شي جين بينغ، في 18 مارس الماضي، بعد نحو ثلاثة أسابيع من حرب روسيا في أوكرانيا، تركز جانب كبير من المحادثة على تايوان؛ في ظل تخوّف أميركي من أن ما يحدث في أوكرانيا يمكن أن يؤثر في توجّه الصين تجاه تايوان.
الدكتور محمد كمال ■ أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة