فسّرته واشنطن وبكين كلٌ بطريقته الخاصة
أصداء زيارة بيلوسي لتايوان والتلاعب بالألفاظ تمخض عنهما رد فعل غاضب من الطرفين
ليس هناك شك في أن أصداء زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، لتايوان، أوائل أغسطس الماضي، ستستمر لبعض الوقت، حيث تتكشف ديناميكية تفاعلية بين بكين وواشنطن وتايبيه، ولكل طرف تفسيره الخاص لما يجري، وما اضطر لفعله كرد فعل. وعقب الزيارة، شرعت بكين في سلسلة، غير مسبوقة، من المناورات العسكرية حول الجزيرة، وأكدت أن واشنطن وتايبيه انتهكتا الخط الأحمر الخاص بها، باختراق تفاهمات سابقة لإطار «صين واحدة».
ويقول الزميل البارز بمركز «ناشيونال إنتريست»، بول هير، وهو الزميل غير المقيم بمجلس شيكاغو للشؤون العالمية، في تقرير نشرته مجلة «ناشيونال إنتريست» الأميركية، إن واشنطن رأت في تحركات الصين رد فعل غير مبرر، ويزعزع الاستقرار، وتعهدت بالحفاظ على موقفها العسكري في مضيق تايوان، لردع بكين عن أي استخدام فعلي للقوة. وأعلنت تايبيه أنها ستزيد الإنفاق الدفاعي لتعزيز الاستعدادات في مواجهة أي هجوم صيني محتمل.
ويرى هير، وهو أيضاً مسؤول سابق للاستخبارات الوطنية لمنطقة شرق آسيا (2007 - 2015)، أن هذا كله يعكس ميل الأطراف الثلاثة إلى رؤية المأزق في المضيق كمشكلة عسكرية، بل ويعزز ذلك، ليصبح الأمر أكثر صعوبة مما كان عليه بالفعل لاتباع مسار دبلوماسي لوقف التصعيد. ورغم ذلك، يحول الانشغال بالتدريبات العسكرية في خليج تايوان الانتباه عن اللعب المعقد بالكلمات من قبل الأطراف الثلاثة لتبرير مواقفها وأفعالها. ويقول هير إن الرواية السائدة الآن هي أن بكين صنعت «موقفاً راهناً جديداً» أو «وضعاً طبيعياً جديداً» عبر ترتيب وضع عسكري معزز حول الجزيرة.
غير أن ذلك يغفل، أو يحجب، التغييرات التي حدثت للوضع الراهن، التي يتردد أن واشنطن وتايبيه قامتا بها. ويقول هير إن متخصصي السياسة الصينية غالباً ما يستدعون أنه في عام 2004 أكد مساعد وزير الخارجية الأميركية آنذاك، جيمس كيلي، في إفادة أمام «الكونغرس»، أن أميركا لا تؤيد «تحركات أحادية الجانب (بشأن تايوان) من شأنها تغيير الوضع الراهن، كما نحدده»، ولكن كيلي لم يحدد «الوضع الراهن»، ولم يفعلها أي من المسؤولين الأميركيين أخيراً، وهم يؤكدون معارضة واشنطن لأي «تغيرات أحادية للموقف الراهن». وفي جميع الأحوال، من الواضح أن «الوضع الراهن» حالياً هو أنه يمكن لرئيسة مجلس النواب زيارة تايوان كأمر روتيني يتسق مع «سياسة صين واحدة»، رغم التقارير التي أفادت بأن إدارة بايدن لم تحبذ زيارة بيلوسي، ولم ترد لها أن تحدث.
كما أحجمت تايبيه عن تحديد «الوضع الراهن»، ولكن تردد أنها، تراجعت على نحو تدريجي عن إطار «صين واحدة». من جانبها، تحدد بكين بشكل أساسي «الوضع الراهن» من منظار «مبدأ صين واحدة»، وجود صين واحدة، تايوان جزء منها، وبكين هي الحكومة الشرعية الوحيدة والممثل الدولي لها. ويخلص هير من ذلك إلى أن العنصر الرئيس هو أنه لا معنى للحديث عن «الوضع الراهن» في مضيق تايوان دون الإقرار بعدم وجود اتفاق متبادل بين الأطراف المعنية حول تعريفه، أو توصيفه. وإضافة إلى ذلك، فإن «الوضع الراهن» في المضيق لم يكن ثابتاً مطلقاً. وأشار إلى تلاعب آخر بالألفاظ، يركز على الاختلاف بين «مبدأ صين واحدة» الذي تتبناه بكين، و«سياسة صين واحدة» التي تتبناها واشنطن. وانتقدت معظم التعليقات خلال الأسابيع الأخيرة ادعاء بكين المستمر بأن أميركا تلتزم منذ أمد بعيد بـ«مبدأ صين واحدة»، رغم أن واشنطن «تقر» فقط، بعبارة «تايوان جزء من الصين»، دون قبولها أو تأييدها، بما يشمل أن أميركا كانت تعتبر تايوان جزءاً من الصين حتى اندلاع الحرب الكورية في عام 1950. ثم تبنت واشنطن لاحقاً موقفاً يعتبر الوضع القانوني لتايوان «غير محدد»، وهو موقف نوقش كثيراً، وانتهكه المسؤولون الأميركيون أحياناً في خطابهم. وعلاوة على ذلك، ترى بكين «تفريغاً» لـ«سياسة صين واحدة» التي تتبناها واشنطن، على وجه التحديد، بعدما أعلن أن زيارة بيلوسي لا تمثل انتهاكاً أو تغييراً لهذه السياسة، وما إذا كان بوسع إدارة بايدن تبني موقف يفيد بأن زيارة بيلوسي مقبولة في ظل السياسة الأميركية - رغم معارضتها لها - فكيف يتسنى لبكين معرفة حدود تلك التصرفات؟
وإضافة إلى ذلك، يتضمن التلاعب بالكلمات أيضاً ما يتردد من تأكيدات من قبل مسؤولين أميركيين بأن بكين بالغت في رد فعلها على زيارة بيلوسي لتايوان، واتخذتها «ذريعة» لتنفيذ خطط مقررة سلفاً لإجراء مناورات عسكرية غير مسبوقة في المنطقة المحيطة بتايوان. ويقول هير إنه في كل الظروف، ستخسر بكين كثيراً، وستجني القليل، من وراء قعقعة السيوف حول تايوان، دون وجود استفزاز واضح، خصوصاً في ظل المخاطر التي يواجهها الرئيس الصيني شي جين بينغ من إشعال فتيل أزمة دولية قبل أسابيع من مسعاه للفوز بولاية ثالثة، والهيمنة على جدول أعمال المؤتمر العام الـ20 للحزب الشيوعي الصين، المقرر منتصف أكتوبر.
كما ثار نقاش مرتبط بدلالات الألفاظ، حول ما إذا كانت زيارة بيلوسي قد أطلقت شرارة «أزمة» جديدة في مضيق تايوان، ولكن يبدو أن بعض علماء السياسة لا يريدون تصنيف الأمر على أنه أزمة، استناداً إلى تقييم بوجود احتمال ضئيل لاندلاع صراع عسكري فعلي. ومن المفترض أن إدارة بايدن لا تريد وصف الوضع بأنه أزمة، حيث إن إظهار تنبيه من شأنه أن يقود إلى إعادة النظر في سياسات أميركا، هو ما تسعى إليه بكين.
ومن الصعب إنكار أن زيارة بيلوسي لتايوان قد نجم عنها تشدد في مواقف جميع الأطراف، وتصعيد في التوتر بين أميركا والصين، وتبادل للاتهامات يبدو أنه سيتصاعد، خصوصاً إذا ما واصلت هذه الأطراف التركيز على إبداء ردود الفعل العسكرية للموقف.
وتظل تايوان أسيرة شرك تاريخي نسجته واشنطن وبكين قبل أكثر من أربعة عقود، وهو يتمثل في البيانات الثلاثة، وهي مجموعة من ثلاثة تصريحات مشتركة بين حكومتي أميركا والصين، لعبت دوراً مصيرياً في تطبيع العلاقات بين البلدين، وتظل عنصراً أساسياً في الحوار بينهما. وهذا أمر غير مقيول من سكان تايوان، ولكن هذه هي الظروف التي يتعين مواجهتها بدلاً من إنكارها أو تحاشيها. وفي ختام التحليل، يقول الكاتب هير إن زيارة بيلوسي للجزيرة كشفت عن المأزق الخفي في سياسة الولايات المتحدة نحو تايوان، ووضعتها في الصدارة على نحو مزعج.
• واشنطن رأت في تحركات الصين رد فعل غير مبرر، ويزعزع الاستقرار، وتعهدت بالحفاظ على موقفها العسكري في مضيق تايوان، لردع بكين عن أي استخدام فعلي للقوة.
• التصعيد في التوتر بين أميركا والصين، وتبادل للاتهامات يبدو أنه سيتصاعد، خصوصاً إذا ما واصلت هذه الأطراف التركيز على إبداء ردود الفعل العسكرية للموقف.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news