النظام العالمي يعيش حقبة الفوضى وفشل الهيمنة الغربية
في ظل تغيّر المشهد الأمني العالمي على ضوء تطوّرات فرضت نفسها في الآونة الأخيرة، وآخرها الحرب في أوكرانيا، برزت تكتلات أمنية في مناطق مرشحة للصراعات لتكون حائط صد في حال حدوث أي تصعيد جديد.
وضمن تلك التكتلات تأتي الاتفاقية الأمنية الثلاثية بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة (أوكوس)، التي ستساعد الدول الثلاث على تطوير ونشر غواصات تعمل بالطاقة النووية، إضافة إلى تعزيز الوجود العسكري الغربي في منطقة المحيط الهادئ.
المحلل في مؤسسة كلية الدفاع التابعة لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، جيسون باك، والزميلة المشاركة في جمعية هنري جاكسون، دارين سبينك، يقولان في تقرير نشرته مجلة «ناشيونال إنتريست» الأميركية إنه في الشهر الماضي، أصبحت الحرب في أوكرانيا وصراع القوى العظمى للسيطرة على بحر الصين الجنوبي مرتبطين إلى الأبد.
وأثارت زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، إلى تايبيه في بداية أغسطس الماضي منافسة متوترة بالفعل بين واشنطن وبكين على النفوذ في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وكجزء من دعم أوكرانيا والدفاع عن نظام دولي قائم على القواعد، أشارت الولايات المتحدة إلى التزامها بالدفاع عن تايوان، من خلال إرسال طرادات صواريخ عبر مضيق تايوان الأسبوع الماضي. وكانت ردود فعل الصين مثالاً آخر على نهج الحزب الشيوعي الصيني القوي لحل النزاعات الإقليمية، فبعد أيام فقط من مغادرة بيلوسي ووفدها تايوان، أطلقت الصين صواريخ فوق تايوان باتجاه المنطقة الاقتصادية الخالصة لليابان.
ولم يثر إطلاق الصاروخ هذا في المياه اليابانية أي رد ذات مغزى من الولايات المتحدة، على الرغم من أن اليابان حليف في معاهدة مع ضمانات أمنية. ولاتزال استراتيجية واشنطن لمواجهة طموحات الهيمنة الصينية غامضة، نظراً إلى انشغال أميركا المبرر بالحرب الروسية في أوكرانيا. وتلخص هذه السلسلة من الأحداث مدى تعرض النظام العالمي أحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة لتهديد وجودي.
ويرى الخبيران أن العالم يعيش حقبة من الفوضى الدائمة التي اتسمت بفشل آليات ومؤسسات الهيمنة الغربية في إدارة وتخفيف نقاط الاحتكاك في النظام الدولي. ويسعى الحلفاء المتشابهون في التفكير بجدية إلى إنشاء آليات عمل جماعي فاعلة لردع المنافسين وحماية مصالحهم. وسواء كانت تركيا تهدّد بـ«تجميد» محاولات فنلندا والسويد للانضمام إلى «الناتو»، أو تصادم المجر والاتحاد الأوروبي حول خلافات حول سيادة القانون، أو عرقلة روسيا إجراءات مجلس الأمن الدولي بشأن أوكرانيا، فإن العالم يعاني فراغاً في السلطة.
إن قرار بيلوسي بتجاهل تحذيرات البيت الأبيض ووزارة الدفاع الأميركية (بنتاغون) يدل على فشل التنسيق بين مراكز القوى المتعددة، حيث يتم باستمرار تجاوز الأنظمة المعمول بها لتجنّب الصراع العالمي وتجاهلها من قبل أولئك الذين يدّعون أنهم يدعمونها.
ومع ذلك، فإن زيارة بيلوسي والاحتكاك الذي أعقب ذلك مع الصين يمكن أن يؤدي أيضاً بالغرب وشركائه ذوي التفكير المماثل إلى تبني سياسة متماسكة لمكافحة هذه الحقبة المضطربة من الشؤون الدولية، وتحقيق التوازن بين الهيمنة الصينية في المنطقة. وقد اتُخذت بالفعل خطوة أولى رئيسة في شكل «أوكوس». وفي حين أن البعض، بما في ذلك الصين، قد وصفوا «أوكوس» بأنها أكثر قليلاً من مجرد «صفقة أسلحة» خطيرة وعدائية، فإن «أوكوس» هي أكثر من ذلك بكثير.
و«أوكوس» هي اتفاقية أمنية ثلاثية الأطراف، مع إمكانية أن تكون بمثابة «موازن حجر الزاوية»، والتي يمكن أن تواجه طموحات الهيمنة الصينية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وبدلا من أن تكون «أوكوس» تحالفاً قائماً على القيم، فهي اتفاقية تكنوقراطية تركز على إنشاء نظام قائم على القواعد في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، من شأنها أن تكبح جماح إجراءات الإكراه الصينية، من خلال حماية أمنية بحرية قوية. وهي أيضاً شبكة من التكنولوجيات المشتركة التي تستند إلى الترتيبات الثنائية القائمة. وفي ظل «أوكوس»، وضعت واشنطن الأساس لصياغة تحالف ردع قوي.
ويقول الخبيران إن «أوكوس» تمثل شكلاً جديداً من أشكال العمل الجماعي، الذي ظهر في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. إنها مشاركة جانبية مصغرة واجهت تحديات منذ إنشائها، ولكن يبدو الآن أنها تتطوّر لتصبح اتفاقاً أمنياً فاعلاً. وفي الواقع، قد تكون «أوكوس» الخطوة الأكثر أهمية نحو إعادة تأكيد التعاون «الأنجلوسفير» (مجموعة من الدول الناطقة باللغة الإنجليزية والمتشابهة التراث الثقافي)، الذي يمكن أن يكون بمثابة نموذج لكيفية مواجهة المشكلات المشتركة والدول المعادية.
كما تعزز «أوكوس» قبول لندن وكانبيرا لدور واشنطن الأسمى كضامن أمني لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ. وعملت حكومة رئيس الوزراء الأسترالي، أنتوني ألبانيز، الجديدة بجد لإصلاح العلاقات مع الشركاء الذين أزعجهم سلفه، من خلال تخفيف حدة التوترات مع فرنسا، وتقديم ضمانات للشركاء الإقليميين، مثل إندونيسيا، بأن «أوكوس» ليست تهديداً.
وعلى الرغم من أن التفويض الأساسي لـ«أوكوس» يشمل تزويد أستراليا بغواصات تعمل بالطاقة النووية مسلحة تقليدياً، إضافة إلى قدرات دفاعية وأمنية متقدمة، وهناك إمكانات قوية للاتفاقية لتكون بمثابة منصّة ردع على مستوى المنطقة.
ومن شأن توسيع نطاق وحدات «أوكوس» لتشمل اليابان، وربما حتى الهند، أن يحسن قابلية التشغيل البيني الإقليمي، ويعزز التدريبات المشتركة، ويضع الأصول العسكرية الرئيسة في الأمام. ويمكن لأستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة أيضاً أن تشير إلى تصميم الاتفاقية على الحفاظ على منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة، من خلال الاستمرار في نشر الأصول البحرية في بحر الصين الجنوبي وجدولة عبور حرية الملاحة عبر مضيق تايوان.
كما يجب على أعضاء «أوكوس» إعطاء الأولوية بشكل عاجل لزيادة الطاقة الإنتاجية الدفاعية الإجمالية. واتضح أن حاجة الحلفاء الناطقين باللغة الإنجليزية إلى زيادة الذخيرة والقدرة على بناء السفن حقيقية للغاية. في الوقت الحاضر، لا يمكن لأميركا أن تكون ترسانة كاملة الخدمات للديمقراطية مجهزة لتوريد الأسلحة لحرب على جبهتين. وأدت الحرب في أوكرانيا إلى استنزاف مخزونات ذخيرة المدفعية الأميركية، وزادت من قدرة بناء الغواصات إلى أقصى حد، ما ترك حلفاء مثل أستراليا وتايوان يعانون نقصاً في الإمدادات، إذا تصاعدت الأعمال العدائية مع الصين على المدى القصير إلى المتوسط.
ويختم الخبيران تقريرهما بأن العالم يعيش عصراً من الفوضى الدائمة المليء بتحديات العمل الجماعي وتكاثر مراكز القوى. ومع ذلك، هذا لا يعني أن الحلفاء ذوي التفكير المماثل لا يمكنهم اتخاذ خطوات مبتكرة لصياغة أشكال جديدة من النظام وردع المعتدين المحتملين.
يرى الخبيران أن العالم يعيش حقبة من الفوضى الدائمة، التي اتسمت بفشل آليات ومؤسسات الهيمنة الغربية في إدارة وتخفيف نقاط الاحتكاك في النظام الدولي.
ويسعى الحلفاء المتشابهون في التفكير بجدية إلى إنشاء آليات عمل جماعي فاعلة لردع المنافسين وحماية مصالحهم. تجاهل بيلوسي تحذيرات البيت الأبيض ووزارة الدفاع الأميركية (بنتاغون) يدل على فشل التنسيق بين مراكز القوى المتعددة، حيث يتم باستمرار تجاوز الأنظمة المعمول بها لتجنّب الصراع العالمي وتجاهلها من قبل أولئك الذين يدّعون أنهم يدعمونها.