بريطانيا تشهد حكومات منقسمة تكرّس معظم طاقتها لمنع الانهيار
لا تختلف رئيسة الحكومة البريطانية ليز تراس عن منافسها على المنصب ريشي سوناك كثيراً في ما يتعلق بالقضايا الحاسمة، مثل العلاقات مع الاتحاد الأوروبي والحرب في أوكرانيا، حيث حاول كلاهما توجيه الاتهامات لبعضهما بعضاً، وتظاهرا بأننا رجعنا إلى فترة السبعينات. وبالنظر إلى أنه من المستحيل معرفة كيفية إيجاد توافق مع تحيزات أعضاء حزب المحافظين المسنين، فإن وجهات نظر تراس الحقيقية تظل مبهمة.
وحتى قبل أن تصبح تراس رئيسة للحكومة، فمن الممكن وصف المشهد السياسي الذي ستعمل به. وعلى الرغم من كل نفوذ رئيس الحكومة السابق بوريس جونسون، فإن الدولة البريطانية أقل قوة ونفوذاً عما كانت عليه قبل عقد من الزمن. وخلال السنوات الست الماضية حكم بريطانيا أربعة رؤساء حكومات، وهو نوع التغيير الذي كان مرتبطاً سابقاً بعدم الاستقرار في إيطاليا.
ولم تعد تشكل المداخل والمخارج السريعة للقادة السياسيين المشكلة الوحيدة. وكما هي الحال في إيطاليا، يمضي رؤساء حكومة بريطانيا معظم أوقاتهم في السلطة لصد المنافسين والنضال من أجل حياتهم السياسية. ومنذ عام 2016، أصبحت بريطانيا منغلقة على أزمة سياسية متواصلة تشتد أحياناً وتخف أحياناً أخرى، ولكنها لا تنتهي. وتصبح الأحزاب منقسمة أحياناً ولكنها لا تؤمّن الدعم المضمون للقادة.
ويشير الفشل المحتوم «للبريكست» (خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي)، حيث انسحبت بريطانيا من أكبر منطقة تجارة حرة في العالم، في وفاء حكومة المحافظين بوعودها من أجل سيطرة أكبر على الدولة وتحسين ظروف الحياة؛ إلى أن الوعاء السياسي البريطاني في حالة فوران مستمر، لأن أنصار «البريكست» يدّعون أن التغيرات الجذرية ضرورية للغاية. وبدلاً من وقف التدهور السياسي والاقتصادي مقارنة ببعض الدول أسهم البريكست بتسريع عملية التدهور.
الهند أقوى من بريطانيا
وثمة مثال صارخ على ذلك جاء في الأيام القليلة الماضية عندما أظهرت صحيفة «بلومبيرغ» أن ترتيب بريطانيا كأكبر خامس قوة اقتصادية في العالم قد أصبح بعد الهند، التي حلت مكانها في تصنيف أكبر القوى الاقتصادية في العالم. وعلى الرغم من أن بريطانيا لاتزال في مكان محترم في هذا التصنيف، فإن الأجور الحقيقية أصبحت أقل مما كانت عليه في عام 2007، وتوقفت الاستثمارات الأجنبية منذ عام 2016.
ويعود الركود الاقتصادي إلى فترة التقشف إبان حكومة، ديفيد كاميرون وجورج أوزبورن. وكان أحد الجوانب المحبطة للجدل السياسي في بريطانيا هو انعزالها. ويوصف بوريس جونسون من قبل أصدقائه وأعدائه بأنه ظاهرة بريطانية فريدة، لأن البريطانيين يحبون «أمثاله»، رغم أن الخسائر المدوية لحزب المحافظين لمقاعد كانت مضمونة له في الانتخابات الفرعية؛ تظهر أن العكس هو الصحيح. وفي الحقيقة تبدو شخصية وسياسة جونسون شبيهة تماماً بشخصية رئيس الحكومة الإيطالي السابق سيلفيو برلسكوني وسياسته، والذي هيمن على السياسة الإيطالية في الفترة ما بين 1994 و2011.
الكذب أساسي للشعبوية
ولطالما اتُهم جونسون بالكذب، وكذلك برلسكوني والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وجهت إليهما التهمة نفسها. والكذب ليس فشلاً سيئاً بالنسبة للسياسيين الشعبويين والمتعصبين قومياً، إذ يعتبر الكذب أساسياً لهذا النوع من القادة لأن الصفة المشتركة التي تجمعهم هي الوعود الكاذبة التي يقدمونها لجماعات من المؤيدين ذوي المصالح المتناقضة، ولتحقيق الهدف ذاته يحتاجون إلى كل مهاراتهم الخطابية المضللة لنشر الخوف والمبالغة بالتهديدات والادعاء بقيامهم بتحقيق إنجازات هي غير موجودة أصلاً. وعلى سبيل المثال تفاخر كل من برلسكوني وجونسون بأنهما سيُنشئان جسرين: الأول بين جزيرة صقلية وإيطاليا، والثاني بين أسكتلندا وأيرلندا، ولكن هذين الجسرين مجرد سراب غير موجود لا في إيطاليا ولا في المملكة المتحدة.
أمل مبالغ به
وثمة شعاع قوي من الأمل في الواقع السياسي الجاري والمظلم، يبدو مبالغاً فيه لسبب بسيط مفاده أن تراس هي سياسية محترفة من الدرجة الثانية، ولكنها ليست بوريس جونسون، ولن تكون قادرة على مجاراة جونسون في احتقاره لشرعية البرلمان، إضافة إلى تساهله مع الفساد. ومن الصعب الاعتقاد بأنه سيكون لها قوة جونسون في تمسكه بالسلطة.
واحتفظ جونسون بدعم أقطاب الصحف والمانحين لحزب المحافظين، ولكن ذلك لم يكن كافياً لإنقاذه، وربما تكون تراس من الجناح اليميني في حزب المحافظين، ولكن هزيمة جونسون تظهر أن استراتيجية الشعبويين لا تنجح دائماً، ولا يعني ذلك أن التهديد بالشعبوية اختفى تماماً، فقد حوّل حزب المحافظين نفسه إلى حزب قومي إنجليزي، وسيحاول الحفاظ على تحالف أنصار «البريكست» الذي ساعده في الفوز بانتخابات عام 2019. وتبدو الخلافات مع الاتحاد الأوروبي وفرنسا متأصلة ومفيدة سياسياً بحيث لا يمكن التخلي عنها، وأصبحت العلاقة الشائكة مع بقية الأجزاء الأخرى للجزر البريطانية مثل أسكتلندا، وويلز، وأيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا، هي القاعدة.
والمشكلة أن «البريكست» حوَّل توازن القوى ضد المملكة المتحدة في علاقاتها مع الدول الأخرى، ولكن هذا لن يكون مقبولاً من العامة دون أن يضع جدوى مشروع البريكست برمته موضع الشك، ولكن العدوانية النظرية نحو الغرباء ستجعل المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي بشأن بروتوكول أيرندا، أو مع فرنسا بشأن طالبي اللجوء الذين يعبرون قنال المانش، صعبة للغاية. ومن المفترض أن تواصل تراس اللجوء إلى عناوين الصحف الرئيسة وغير السياسية مثل طرد المهاجرين إلى روندا.
منع الانهيار
وستشهد بريطانيا باستمرار حكومات ضعيفة ومنقسمة تكرّس معظم طاقتها السياسية لمنع الانهيار، وينطبق ذلك على رئيسة الحكومة السابقة تيريزا ماي، وجونسون، وربما سينطبق على تراس. ويمكن أن تثبت هذه الحكومات المتعثرة أنها خطرة لأنها يمكن أن تقنع نفسها بأن الانخراط في الصراعات الخارجية مثل أوكرانيا، يمكن أن يمنحها الدفع المطلوب من أجل مصداقيتها الوطنية.
ولكن التغير السريع لرؤساء الحكومات البريطانية يؤدي حتماً إلى تآكل سلطاتهم ويحولهم إلى سخرية وطنية. وبينما كنت أسير في عطلة نهاية الأسبوع في سوق الخضار سمعت أحد الباعة ينادي على بضاعته ويقول: «تتغير بسرعة مثل رؤساء حكومات بريطانيا»، وكان يشير إلى كميات من التفاح والأجاص، ولكن أحداً من الزبائن لم يقترب منه.
• يوصف بوريس جونسون من قبل أصدقائه وأعدائه بأنه ظاهرة بريطانية فريدة، لأن البريطانيين يحبون «أمثاله»، رغم أن الخسائر المدوية لحزب المحافظين لمقاعد كانت مضمونة له في الانتخابات الفرعية؛ تظهر أن العكس هو الصحيح.
• التغير السريع لرؤساء الحكومات البريطانية يؤدي حتماً إلى تآكل سلطاتهم، ويحوّلهم إلى سخرية وطنية.
• الكذب ليس فشلاً سيئاً بالنسبة للسياسيين الشعبويين والمتعصبين قومياً، إذ يعتبر الكذب أساسياً لهذا النوع من القادة؛ لأن الصفة المشتركة التي تجمعهم هي الوعود الكاذبة التي يقدمونها لجماعات من المؤيدين ذوي المصالح المتناقضة.
باتريك كوكبيرن ■ صحافي بريطاني