أوروبا مطالبة بعدم إلقاء اللوم على الآخرين والاعتماد على نفسها
لا تنظر النخبة السياسية أو الإعلام السائد في الاتحاد الأوروبي إلى الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، باعتباره أيديولوجياً يمينياً أو محباً للحروب. بل ينظر إليه بمنظور مختلف، ولكن من وجهة نظر غير الأوروبيين لا يمكن لأحد أن يخطئ في توصيفه، نظراً لسبب وحيد، تجسّد في تعليقات بوريل التي قال فيها «أوروبا حديقة»، وإن «بقية العالم غابة»، والذي لقي التنديد من أطراف عدة من السياسيين حول العالم، واعتُبر «عنصرياً»، خصوصاً في الجزء الجنوبي من العالم. ويجب النظر إلى تعليقات بوريل باعتبارها تعبيراً عن الفوقية، ليس من قبل بوريل شخصياً، وإنما الطبقات الحاكمة جميعها في أوروبا بصورة شاملة.
والأمر المثير للجدل بصورة خاصة في كلمات زعيم الدبلوماسية الأوروبية هي هذه التصورات غير الحقيقية لأوروبا، وعلاقتها مع بقية العالم، فهو يقول: «لقد أنشأنا حديقة، وكل شيء فيها حقق النجاح. ولكن الغابة يمكن أن تغزو هذه الحديقة».
ومن دون الولوج عميقاً في ما يمكن اعتباره عقدة الفوقية المتأصلة في هذا الرجل، يدافع بوريل عما يعرف بـ«نظرية الاستبدال العظيم»، وهي نظرية عنصرية يدافع عنها الغرب، خصوصاً أوروبا، والمفكرين اليمينيين، الذين يرون اللاجئين والمهاجرين، وغير الأوروبيين، عبارة عن طفيليات تهدف إلى تدمير التركيبة السكانية والدينية والاجتماعية المتناسقة، على نحو مثالي للقارة الأوروبية.
البعد التاريخي
إذا رجعنا إلى البعد التاريخي، يشعر المرء بأنه مجبر على تذكير قيادة الاتحاد الأوروبي بالدور المركزي الذي قام به الاستعمار الأوروبي، من خلال الاستغلال الاقتصادي، والتدخل السياسي، والتدخلات العسكرية المباشرة التي لعبت دوراً رئيساً في تحويل معظم دول العالم إلى «الغابة» المفترضة، وفق بوريل.
وبصرف النظر عن «الغابة» المتخيلة، فإن ماضي أوروبا وواقعها الحاضر ينفيان بقوة وجهة نظر بوريل التي تركز على العرق. والأمر المحزن أن أوروبا هي مهد العديد من أبشع صفحات التاريخ التي عرفها العالم من الاستعمار إلى العبودية، وحركات التطرف القومي، والعنصرية، والعدمية التي تحدد معظم القرون الثلاثة الماضية.
وعلى الرغم من المحاولات اليائسة الرامية إلى إعادة كتابة التاريخ، أو تجاهله لصالح رواية أفضل تركز على الروائع العظيمة والفتوحات التكنولوجية والانتصارات الحضارية، تستمر الطبيعة الحقيقية لأوروبا مشتعلة تحت الرماد، ويمكن أن تظهر على السطح، كلما اتخذت العوامل الجيوسياسية أو الاقتصادية الاجتماعية منحى خاطئاً. وتعتبر أزمة اللاجئين السوريين، وجائحة كورونا، وأخيراً الحرب في أوكرانيا، أمثلة صارخة على الدور الأوروبي الخاطئ الذي يضرب به المثل.
وفي الواقع، فإن كلمات بوريل، التي هدفت إلى طمأنة أوروبا بتفوقها الأخلاقي، ليست سوى جهد متهور يقصد به إخفاء واحدة من أكثر الأزمات الدراماتيكية التي تعانيها أوروبا منذ نحو قرن. ولا يمكن المبالغة في تأثير هذه الأزمة على جميع جوانب الحياة الأوروبية.
أزمات متلاحقة
ووصف السياسي البلجيكي، هانس برويننكس، في افتتاحية كتبها في موقع «يوربيان انفايرونمت آجنسي»، في سبتمبر الماضي، «حالة الأزمات المتعددة الجارية» التي تميز القارة الأوروبية في الوقت الحالي، وقال: «يبدو أننا نعيش من خلال أزمة تلو الأخرى، فقد كانت جائحة كورونا، ثم تلتها موجات الحر الشديد، ومن ثم الجفاف نتيجة تغير المناخ، ومن ثم التضخم، فالحرب، وأخيراً أزمة الطاقة».
وبدلاً من تحمّل المسؤولية لمواجهة هذه الكارثة الوشيكة اختارت النخبة الحاكمة في أوروبا أمراً مختلفاً، رغم أنه يمكن توقعه، ألا وهو إلقاء اللوم على الآخرين، خصوصاً السكان من غير الأصول الأوروبية، أي «الغابة».
وبالطبع، فإن السكان العاديين الذين يعيشون في أنحاء أوروبا والذين يعيشون هذا الواقع الرهيب، لن يشعروا بالاطمئنان نتيجة ادعاء بوريل بأن «كل شيء يعمل على نحو طبيعي».
الحركات اليمينية المتطرفة
ويبدو أن خطر تجدد ظهور الحركات اليمينية المتطرفة في أوروبا بات الآن احتمالاً واقعياً وحقيقياً. ولكن هذا الخطر أصبح أقل حدة بعد الانتكاسة التي مُني بها حزب «البديل لألمانيا» المتطرف والنصر الذي حققه الحزب الاجتماعي الديمقراطي في انتخابات العام الماضي. ولكن ألمانيا ليست استثناءً بالنظر إلى عودة اتحاد اليمين المتشدد الأوروبي، عملياً في شتى أنحاء القارة.
وفي فرنسا حققت السياسية اليمينية المتطرفة مارين لوبان 41% من أصوات الناخبين في أبريل الماضي. وعلى الرغم من أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، تمكن من إيقاف تقدم حزب لوبان المعروف باسم «التجمع الوطني»، لكن ائتلافه الحاكم فقد الأغلبية المطلقة في البرلمان الفرنسي، وأصبحت قيادته ضعيفة إلى حد كبير. وتتعرض الدولة حالياً لهزات نتيجة تظاهرات وإضرابات كبيرة احتجاجاً على ارتفاع الأسعار والتضخم الكبير.
وتمثل السويد أيضاً مثالاً آخر على تقدم اليمين المتطرف، حيث تمكن ائتلاف يميني من الفوز بالانتخابات البرلمانية التي جرت في سبتمبر الماضي، والحكومة التي جرت في 8 أكتوبر الماضي، إذ تم انتخاب رئيس حكومة جديد، يوف كريسترسون، الذي أصبحت حكومته ممكنة نتيجة دعم حزب الديمقراطيين السويديين، وهو حزب له جذور نازية وأجندة قاسية ضد المهاجرين. ولعب حزب السويديين الديمقراطيين دوراً حاسماً في انتصار الائتلاف، وهو الآن في وضع مناسب يسمح له بلعب دور صانع الملوك في القرارات الحاسمة.
وفي إيطاليا أيضاً يبدو المشهد مرعباً، حيث جاءت جيورجيا ميلوني زعيمة حزب أخوة إيطاليا، وهو حزب متجذر في تقاليد ما بعد الفاشية للحركة الاجتماعية الإيطالية التي تشكلت في أعقاب الحرب العالمية الثانية من قبل السياسيين الفاشيين، بعد أن تم حظر حزبهم بموجب الدستور التقدمي الذي تم تشكيله عام 1948.
تغيّر الأرضية السياسية
وفي الحقيقة فإن تغير الأرضية السياسية في كل من ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والسويد، ليس له علاقة تذكر بـ«الغابة»، في حين أن كل أسباب ذلك لها علاقة «بالحديقة» الوهمية. ويعتبر التطرف الأوروبي نتيجة ثانوية للتجارب التاريخية، والأيديولوجيات والصراع الطبقي الأوروبي حصراً. ولهذا فإن إلقاء اللوم على الآسيويين والعرب والأفارقة، واعتبارهم سبباً «لأزمات أوروبا المتعددة» ليس خداعاً للذات فقط، بل يعيق أي عملية صحية للتغيير.
وفي الواقع فإن أوروبا لا تستطيع حل أزماتها عن طريق إلقاء اللوم على الآخرين، كما أن «الحديقة» الأوروبية، إذا كانت موجودة أصلاً، يتم تدميرها فعلاً من قبل النخب الحاكمة في أوروبا، وكذلك النخب الغنية وغير النزيهة بالمطلق.
رمزي بارود صحافي أميركي
يجب النظر إلى تعليقات بوريل باعتبارها تعبيراً عن الفوقية، ليس من قبل بوريل شخصياً، وإنما الطبقات الحاكمة جميعها في أوروبا بصورة شاملة.
تعتبر أزمة اللاجئين السوريين، وجائحة كورونا، وأخيراً الحرب في أوكرانيا، أمثلة صارخة على الدور الأوروبي الخاطئ الذي يُضرب به المثل.
إلقاء اللوم على الآسيويين والعرب والأفارقة، واعتبارهم سبباً «لأزمات أوروبا المتعددة» ليس خداعاً للذات فقط، بل يعيق أي عملية صحية للتغيير.