أوكرانيا شكّلت «الجائزة الكبرى» في كل الحروب المعاصرة
قد يتساءل البعض عن سبب أهمية أوكرانيا بالنسبة لروسيا والغرب، وسط كل التضحيات والخسائر التي يبذلها الجانبان ويتحمّل تداعياتها العالم.
يقول المحلل الاستراتيجي الأميركي، هال براندز، وهو أستاذ «كرسي هنري كيسنجر» للشؤون العامة في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز الأميركية، في مقال رأي نشرته وكالة «بلومبرغ»، إن «الحرب في أوكرانيا كانت أكبر قصة لعام 2022، حيث وضعت ذلك البلد على الخطوط الأمامية للنضال الكبير في هذا القرن، الذي يتمثل في المنافسة بين الديمقراطية والاستبداد. ولكن إذا كانت الحرب قد فاجأت العديد من المراقبين، فإن الموقف الذي تجد أوكرانيا نفسها فيه مألوف بشكل ملحوظ».
ويضيف براندز: «بمبالغة متواضعة فقط، يمكننا أن نطلق على السنوات الـ100 الماضية، أو نحو ذلك القرن الأوكراني، لأن ذلك البلد برز بشكل مركزي في كل صدام عالمي كبير في العصر الحديث».
جائزة استراتيجية
ويرى براندز أن «أوكرانيا تشكل جائزة استراتيجية بسبب الموارد والجغرافيا. وهي تشغل بعض أغنى الأراضي الزراعية في أي مكان، وتنتج حصصاً كبيرة من القمح والذرة والشعير في العالم. وأوكرانيا هي ثاني أكبر دولة في أوروبا من حيث الحجم الجغرافي، وتطل على البحر الأسود، الذي يربط الجزء الأوروبي من روسيا بالعالم».
والأمر الأكثر أهمية هو أن «أوكرانيا هي المفصل الذي يربط ما أطلق عليه المفكر الجيوسياسي العظيم، هالفورد ماكيندر، قلب أوراسيا، بأراضيها الهائلة وثرواتها الزراعية وموارد الطاقة، بدول أوروبا المتقدمة اقتصادياً».
ويضيف براندز أن «أي إمبراطورية أوروبية تسعى إلى التوسع شرقاً يجب أن تمر عبر أوكرانيا. ويجب على أي قوة أوراسية تسعى إلى بسط نفوذها في أوروبا أن تفعل الشيء نفسه». كان ماكيندر يفكر في أوكرانيا (وبولندا) عندما قال في عام 1919 إن «من يحكم أوروبا الشرقية يقود هارتلاند (Heartlamd). ومن يحكم هارتلاند يقود جزيرة العالم. من يحكم جزيرة العالم يقود العالم»، وربما تكون مبالغة، لكنها صيغة تساعد في تفسير سبب ظهور أوكرانيا بشكل مأساوي في العديد من الصراعات الرهيبة.
وكتب الباحث دومينيك ليفين: «أكثر من أي شيء، تحولت الحرب العالمية الأولى على مصير أوكرانيا». وكان غزو المنطقة، التي كانت آنذاك جزءاً من الإمبراطورية الروسية، أمراً أساسياً لخطط ألمانيا لإنشاء ميتيلوروبا الغنية بالموارد من بحر الشمال إلى القوقاز. وعندما انتزعت القوات الألمانية أوكرانيا من روسيا ما بعد الثورة في عام 1918، حققت برلين لفترة وجيزة رؤيتها الأوراسية، التي انهارت عندما خسرت ألمانيا الحرب على الجبهة الغربية، وبالتالي التراجع عن معاركها الشرقية، والسماح لرئيس الاتحاد السوفييتي، فلاديمير لينين، بإنشاء إمبراطوريته الأوراسية الخاصة تحت الحكم الشيوعي.
أعداء بحجم قارة
وكانت أوكرانيا مرة أخرى تلوح في الأفق بشكل كبير في أحلام أدولف هتلر بالهيمنة. وكانت تمتلك «مساحة المعيشة» والمواد الغذائية التي يمكن أن تجعل ألمانيا منيعة ضد أعداء بحجم قارة (الإمبراطورية البريطانية وأميركا)، حيث خطط هتلر في النهاية للقتال من أجل التفوق العالمي.
وتصورت «خطة الجوع» النازية للإبادة الجماعية نهب القمح والذرة والمنتجات الزراعية الأوكرانية، وترك ما يصل إلى 30 مليون مواطن هناك، وأماكن أخرى في الاتحاد السوفييتي يتضورون جوعاً. وفي الواقع، كان ذلك تكراراً لـ«المجاعة الحمراء»، التي ألحقها جوزيف ستالين بأوكرانيا في ثلاثينات القرن الماضي، كوسيلة لتعزيز حكم موسكو هناك. وتم خوض بعض أكثر المعارك يأساً في الحرب العالمية الثانية على الأراضي الأوكرانية، حيث اصطدمت الجيوش العملاقة في هذه المنطقة الحيوية.
وضمن انتصار الحلفاء فقط بقاء أوكرانيا خاضعة لإمبراطورية سوفييتية شمولية. ومع بداية الحرب الباردة، سعت الولايات المتحدة إلى استغلال الاستياء الناتج عن ذلك، من خلال إنزال القوات شبه العسكرية الأوكرانية بالمظلات في البلاد لتأجيج المقاومة العنيفة.
فشل دموي
وكانت تلك المبادرة فشلاً دموياً، لكن المنطق الجيوسياسي وراءها لم يكن خاطئاً تماماً. فعندما بدأ الاتحاد السوفييتي في التفكك بعد عقود لاحقة، كان قرار أوكرانيا بالانشقاق بإعلان الاستقلال، ورفض المشاركة في مخططات للحفاظ على اتحاد أكثر مرونة، هو الذي ساعد في حسم مصير النظام.
وقال مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، زبيجنيو بريجنسكي، في عام 1994 إنه «من دون أوكرانيا، تتوقف روسيا عن أن تكون إمبراطورية، ولكن مع إغراء أوكرانيا ثم إخضاعها، تصبح روسيا تلقائياً إمبراطورية».
وهذا دليل جيد لفهم سبب إطلاق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مشروعه لاستعادة سيادة موسكو، بدءاً من تدخل روسيا في الانتخابات الأوكرانية في عام 2004، وبلغت ذروة ذلك بالحرب الكاملة في فبراير.
واستهدف بوتين أوكرانيا على أمل إخضاع جزء مهم من مشهد ما بعد الاتحاد السوفييتي، وبالتالي جلب الآخرين، من بيلاروسيا إلى كازاخستان، إلى الصف. ومن شأن النصر الروسي السريع أن يكون شهادة على قوة الأنظمة الاستبدادية في العالم، ودهائها الاستراتيجي. ومن شأنه أن يغير الوضع الاستراتيجي في أوروبا بشكل جذري، من خلال مد انعدام الأمن المنتشر من البحر الأسود إلى بحر البلطيق، وترك الشراكة الصينية - الروسية النشطة حديثاً مهيمنة بشكل واضح داخل أوراسيا.
توتر في الشراكة
ولم يتحقق الكثير وفقاً للخطة، ومن شأن النصر الأوكراني أن يجلب عواقب مختلفة تماماً. وهذا من شأنه أن يجعل بوتين يبدو مثيراً للشفقة وليس بارزاً. ويمكن أن يخلق توتراً في شراكة روسيا مع الصين، من خلال إجبار بوتين الضعيف على التسول للحصول على المساعدة التي ستكون بكين متردّدة في تقديمها. ومن شأن ذلك أن ينتج مجتمعاً غربياً متجدداً يتمتع بموقع قيادي ضد روسيا الخطيرة ولكن المتدهورة. مرة أخرى، ستشكل الحرب التي تشارك فيها أوكرانيا ملامح النظام العالمي.
وفي ختام مقاله يقول براندز: «إن الحرب أيضاً تذكير بكيفية بقاء السمات الأساسية للجغرافيا السياسية كما هي، حتى مع تغيّر الكثير في العالم. الجغرافيا لاتزال مهمة. لايزال الطغاة المتعطشون للأرض يسعون إلى السيطرة على محيطهم من خلال الغزو والقتل. وفي كل جيل، يأمل المتفائلون أن يكون العالم قد ترك هذه الحقائق القبيحة وراءه».
• استهدف بوتين أوكرانيا على أمل إخضاع جزء مهم من مشهد ما بعد الاتحاد السوفييتي، وبالتالي جلب الآخرين، من بيلاروسيا إلى كازاخستان، إلى الصف.