«زلزال فبراير».. أطلال وأوجاع تسكن القلوب
القلب يفرح ويحزن.. غريزة بشرية لا جدال فيها، وفي حالات الكوارث والمآسي تتمخض حكايات ترتجف لها القلوب وتحفر على جدران الأفئدة مشاهد لا تُنسى لذكريات الألم، وأحياناً الأمل، وهكذا كان الحال في «زلزال فبراير 2023»، الذي لم تهتز على إثره الأرض في تركيا وسورية فحسب، وإنما اهتزت لحكاياته قلوب الملايين من البشر حول العالم.
صحيح أن الصورة بألف كلمة، لكن هناك من الصور ما تقف أمامها الأعين حائرة، والألسنة مُلجمة لا تقدر على الحراك، والصوت يبقى عاجزاً حتى عن الهمس.. وهذا ما نثرته مشاهد الزلزال في نفوس كل من رآها، ناهيك عما سللته تلك المشاهد إلى الأنفس البشرية من إرهاصات عشق الحياة ورهاب الموت.
في السادس من فبراير 2023 ضرب الزلزال تركيا وسورية محوّلاً مئات المباني إلى أطلال، واختفت عائلات بأكملها من الوجود بأفراحها وأحزانها وأحلامها، لن تتجمع تلك العائلات على مائدة واحدة بعد الآن، وإنما استقرت في مقابر جماعية تتآنس فيها الأرواح دون أن تنكأها جراح الحياة.
ارتجفت القلوب والأنفس تزامناً مع اهتزاز الأرض، حزناً على أوجاع الرحيل والقصص المأساوية، وكذا ارتجفت فرحاً للناجين، وكانت أشهر حكايات الألم والأمل في «زلزال فبراير» ثلاثية خالدة بطلاتها ثلاث من الإناث، اثنتان رحلتا عن عالمنا وصارتا ذكريات، والثالثة شاءت إرادة الله أن تبصر الحياة وهي في بطن أمها المتوفاة تحت الأنقاض.
«آية».. السر الإلهي
غداة فاجعة «زلزال فبراير» كان الصقيع يلاطم الوجوه في بلدة «جنديرس» شمال سورية، والناس مشغولون كخلية نحل، ينبشون بين الأنقاض بحثاً عن ضحايا مطمورين أو أنفس مازالت تدب فيها الحياة، وكان النبش يتم بأدوات بسيطة أحياناً وبأيديهم في أغلب الأوقات، نظراً لضعف الإمكانات لديهم جراء الأوضاع السياسية والاقتصادية التي شهدتها سورية منذ عام 2011.
كانت قطرات الندى قد تناثرت على أطلال المباني المنهارة في «جنديرس» بفعل الطقس قاسي البرودة، وحولت تلك القطرات الأطلال إلى ما يشبه القبور بعد الدفن حين ينثر عليها المشيّعون التراب المخلوط بالماء لإغلاق القبر، وبينما يلتحف المشاركون في الإنقاذ بأغطية تدفئ أجسادهم سمع أحدهم صوتاً يخرج من تحت التراب، وبسرعة قاموا بالنبش وكان هول المفاجأة، مولودة تتدلى مع حبل الصرة بينما كانت أمها متوفاة.. ربما هناك ندرة من الأطفال ولدوا يتامى الأم في المستشفيات، لكن قد تكون هذه أول طفلة في العالم تولد يتيمة تحت التراب.. ربما ساعدت الأم نفسها على الولادة قبل أن تموت، وربما هناك سر إلهي في هذه الآية سيبقى خافياً إلى الأبد.
.. لكن لماذا نقول (آية).. ليس هذا توصيفاً افتراضياً، بل كان هذا هو الاسم الذي أطلقه عليها الأطباء وطاقم التمريض في مستشفى جيهان بمدينة عفرين، والذي تم نقل الطفلة اليتيمة إليه دون والدها عبدالله المليحان أو والدتها عفراء ولا أشقائها الأربعة، ولا حتى عمتها التي كانت تقطن معهم في الدار ذاتها، فقد رحلوا جميعاً وبقيت (آية) التي أبصرت الحياة وحيدة بعد وفاتهم.
كان مشهد إخراج الطفلة من تحت الأنقاض مهيباً، قطع أحد المنقذين حبل الصرة بآلة حادة، ووفقاً لفيديو متداول على وسائل التواصل الاجتماعي كان الرجل الذي يمسك بها خائفاً مرتعداً ومرتجفاً وغير مصدّق ما يحمله بين يديه.. الغبار كان يغطي جسد الطفلة، والكدمات ترسم عليها معالم المأساة، وبالتأكيد كانت الرضيعة تصرخ.. ولكن هل كانت تتألم وتبكي من أوجاعها أم ليُتمها.. لا تنتظر إجابة فلا ولن يعرف أحد منا السبب.
تسابقت وكالات الأنباء إلى المستشفى تلتقط الصور لهذه «الآية المعجزة».. الكثير من الصور كانت مؤلمة مع جراح تملأ جسدها الهزيل، وكدمات في جبينها تؤلم من يراها، لكن في الوقت ذاته كانت عيناها السوداوان تزخران بالأمل، وبكاؤها تقطعه أحياناً ابتسامات حانية تجعل الناظرين إليها يسرحون في عظمة الملكوت تارة، وفي الواقع بحلاوته ومرارته تارة أخرى.
في حاضنة الأطفال الاصطناعية كانت الطفلة تتجرع آلاماً جديدة من الحقن الوريدية التي سارع الأطباء إلى منحها إياها لإبقائها على قيد الحياة، لكن الآلام التي تذوقتها (آية) لن تتوقف على ما كابدته من مشقة أثناء وبعد ولادتها، حيث تنتظرها قساوة الحرمان من حضن الأم ودفء الأب ومحبة الأشقاء.
أزمة إنسانية وسياسية
ربما لو كانت الأوضاع في سورية غير تلك القائمة، لكانت (آية) وأسرتها الراحلة في حال غير الحال.. في الأساس كانت الأسرة من دير الزور ونزحت إلى الشمال السوري، ولولا ظروف الحرب لكانت هذه الأسرة وبقية السوريين يعيشون في حالٍ أفضل بدلاً من نكبة ما قبل وبعد الزلزال.
في بلدة «جنديرس» كان هناك مشهد آخر لطفلة يبدو وكأنها خرجت تواً من تحت الأنقاض، لم يكن هناك أحد يساعدها.. كانت تتوجع وتبكي وغير قادرة على تحريك يدها اليسرى.. الدموع ملأت عينيها، والألم الذي تكابده كان بمثابة صرخة تجسد المعاناة التي يكابدها الشعب السوري جراء العقوبات التي تفرضها بعض الدول الغربية على دمشق، خصوصاً الولايات المتحدة التي ترفض التعامل المباشر مع الحكومة السورية، ورغم إعلان واشنطن تعليق بعض تلك العقوبات للسماح بإدخال المساعدات الإغاثية والإنسانية، لكن ذلك التعليق كان محدداً بمدة 180 يوماً فقط.
«إيرماك».. أنامل الوجع
من سورية نرتحل إلى تركيا المجاورة.. غداة الزلزال كان الأب مسعود هانسر يجلس دانياً من أطلال منزله، وهو يمسك بأنامل تبدو لفتاة صغيرة وعلى وجهه ملامح الوجوم والصدمة والحزن، وعيناه تحدقان إلى الأمام وتنظران إلى المجهول.
لم يقدر هذا الأب المكلوم أن يوجه بصره إلى الأنامل التي يمسكها، كانت أنامل رقيقة تخرج من أطلال منزله، وصدمته التي يكابدها أن هذه أنامل ابنته (إيرماك).. كانت زهرة ذات خمسة عشر ربيعاً، وأضحت جثة هامدة بين الأنقاض وخالية من الروح، في انتظار من يخرجها من الأطلال إلى القبر.
أوجعت تلك الصورة كل من رآها، لكن ما بال الأب المكلوم.. فيما كان يفكر في تلك اللحظات التي تهتز لها القلوب.. لم تهتز الأرض فقط جراء «زلزال فبراير» وإنما اهتزت القلوب في جميع أنحاء العالم، وأبكت تلك الصورة وغيرها الملايين من البشر على اختلاف جنسياتهم.
ربما كان (مسعود) يحلم قبل الزلزال باليوم الذي تتخرج فيه (إيرماك) في المدرسة الثانوية، وبيوم التحاقها بالجامعة، وبيوم تخرّجها، وبيومٍ يضحك فيه معها على عريسها وهو يتذوق القهوة المرة وقت تقدمه لخطبتها كعادة بقية الأتراك، وبيوم زفافها ثم إنجابها، وغيرها الكثير من الأيام الحلوة المفترضة.. لكن كل هذا لن يحدث، وأقصى آماله في هذه اللحظة كانت إخراج جثة ابنته من بين الأطلال ليدفنها ويدفن معها كل أحلامه، ويبقى بعدها يحيا وحيداً مع الذكريات.
كان حال (مسعود) يلخص حجم الفاجعة، ففرق الإنقاذ تشتتت جهودها نظراً لكثرة المباني المنهارة التي يوجد بها أشخاص مازالوا على قيد الحياة يستغيثون لإنقاذهم من تحت الأنقاض، وغيرهم آلاف العالقين حينها في مبانٍ مدمرة بشكل جزئي ينتظرون طوق النجاة.. ليس هذا فحسب وإنما رجال الإنقاذ كانوا يتحدون أيضاً الطقس البارد والهزات الارتدادية، ما زاد من صعوبة عمليات البحث عن ناجين، واستخراج الجثث من تحت الأنقاض، وهذا ما أبقى (مسعود) دانياً من أطلال منزله وممسكاً بأنامل ابنته الراحلة في يده لساعات عدة، حتى تلقى المساعدة.
حضن الأب يهزّ العالم
رغم قساوة حال الأب (مسعود) الغارق في أحزانه، كان هناك أب تركي آخر في منطقة كهرمان مرعش، يعاني قساوة مشابهة، لم تذكر وسائل الإعلام اسمه ظناً منها أنه مثل الكثيرين الذين فقدوا أبناءهم في الزلزال، لكن صورته استوقفتني بشدة حين كان يحتضن جثمان ابنته المتوفاة والملفوف بوشاح ثقيل ذي لون أخضر داكن، ووجهها مغطى بالوشاح ذاته.
في بعض الصور كان هذا الأب يسترق النظر إلى الجثمان بعينين يملأهما الحزن والأسى والحنين، أما القساوة التي عاناها فقد ارتسمت أيضاً في كيفية حمله لابنته وهي منسدلة على قدميه، ربما كان حينها يريد أن يتذكر للمرة الأخيرة حمله لها وهي صغيرة بالجلسة ذاتها، وربما كان رافضاً أن يُسجّى جثمان ابنته على الأرض، وربما ما كابده هذا الأب كان أعمق بكثير ممّا قد نتخيله، فقد بدا من احتضانه الجثمان أنه يدفئ جسد ابنته المتوفاة في ظل طقس شديد البرودة، وأية تدفئة هذه.. إنه الحضن الأبوي العظيم الذي زلزل قلوب كل من رآه.
لكن هل كانت الفتاة المتوفاة تشعر بدفء حضن أبيها؟.. إذا أجابت الرضيعة السورية (آية) عن سر ولادتها حية تحت الأنقاض قد نعرف حال هذه الفتاة، وستبقى مثل تلك الأسئلة بلا إجابة إلى الأبد.
أشهر حكايات الألم والأمل في «زلزال فبراير» كانت ثلاثية خالدة بطلاتها ثلاث من الإناث، اثنتان رحلتا عن عالمنا وصارتا ذكريات، والثالثة شاءت إرادة الله أن تبصر الحياة وهي في بطن أمها المتوفاة تحت الأنقاض.