تعيش في بيت وحيد بين بؤر استيطانية متحدية مخططات للاستيلاء عليه

55 متراً بجوار «الأقصى».. حكاية سيدة مقدسية تحمي منزل والديها منذ 50 عاماً

صورة

داخل أسوار البلدة القديمة في مدينة القدس الشريف، وأثناء المرور عبر أزقتها الضيقة، وصولاً إلى المسجد الأقصى المبارك، تترامى مئات المنازل المقدسية يميناً ويساراً، داخل الحارات الخمس العتيقة، فيما تحاصر الأغلبية منها بؤر استيطانية عدة متوغلة داخل أحياء القدس.

منزل الحاجة المقدسية نورة صب لبن (أم أحمد - 67 عاماً)، في حي «عقبة الخالدية» داخل بلدة القدس القديمة، أحد هذه المنازل، والتي سطرت من خلاله حكاية تحد وصمود بطولية، ممتدة على مدار 50 عاماً متواصلة، أمام المحاولات المستمرة للاستيلاء عليه، وذر الرماد في وجه أطماع المستوطنين، لتحافظ على إرث والديها داخل مساحة لا تتجاوز 55 متراً مربعاً، بجوار أولى القبلتين.

فصول حكاية التاريخ

في سبيل الوصول إلى منزل المقدسية صب لبن، لتقص رواية تاريخ طويل، شقت «الإمارات اليوم» طريقاً متعرجاً طويلاً، انطلاقاً من باب العامود أحد أبواب أسوار البلدة القديمة التاريخية، مروراً بالأزقة الضيقة، والحارات العتيقة، وصولاً إلى مدرجات عريضة تفضي مباشرة إلى حي «عقبة الخالدية»، القريب من باب «القطانين»، أحد أبرز أبواب المسجد الأقصى المفتوحة.

وبعد تجاوز أمتار عدة، وصولاً إلى «عقبة السرايا» الممتدة على طول أزقة «عقبة الخالدية»، يقع منزل عائلة «صب لبن»، المكون من طابقين، الأول نهبه المستوطنون، إلى جانب أجزاء أخرى من الطابق الأرضي للمنزل ذاته، أما الطابق الثاني تعيش فيه (الحاجة نورة)، برفقة زوجها مصطفي صب لبن (73 عاماً)، والذي تطل نوافذه من الداخل على مشاهد تاريخية تأسر القلوب، أبرزها مسجد قبة الصخرة المشرفة، ذهبية اللون.

بابتسامة عريضة، أخفت أوجاع سنوات طويلة، تسرد الحاجة (أم أحمد) تفاصيل حكايتها وتقول: «في عام 1953 استأجر والدي المنزل بموجب عقد إيجار محمي من الحكومة الأردنية، عندما كانت مدينة القدس خاضعة لوصاية حكم المملكة الأردنية الهاشمية، فولدت ونشأت وكبرت، وقضيت جميع أيام حياتي بجوار المسجد الأقصى المبارك».

وتضيف: «واأنا في سن الـ13 عاماً أصبحت يتيمة بعد وفاة والدي، لأصبح الأم والأب لأشقائي وشقيقاتي، إذ واصلت مشوار والدي في الحفاظ على المنزل من أطماع المستوطنين».

وتواصل (أم أحمد) حديثها: «إن استمرار وجودنا في منزلنا لم يرق للاحتلال، ليضعه بعد احتلال القدس عام 1967، تحت إدارة ما يسمى (حارس أملاك الغائبين)، رغم امتلاكنا ما يؤكد حقنا، من وثائق ومستندات ورثتها عن والدي».

خطة الاستيلاء على المنزل

ومنذ ذلك الوقت أعدت إسرائيل خطتها للاستيلاء على المنزل، الذي يقف عائقاً منيعاً أمام تمدد مشروعات التهويد والاستيطان، والتي كانت باكورتها في بداية السبعينات، عندما بدأ الاحتلال أولى محاولاته لطرد عائلة «صب لبن» من بيتها التاريخي.

وتشير (الحاجة نورة) إلى أنها تزوجت في عام 1979 في منزل والديها، وأنجبت ثلاثة أبناء وبنتين، داخل المنزل ذاته.

صراع المنزل الأخير

تقف (أم أحمد) في فناء منزلها الصغير، لسقاية ما تزرعه من أوراق خضراء بين أركانه، وكذلك على نوافذه، كالريحان، والنعناع، وبينما هي كذلك، تشير بكلتا يديها تجاه الجدران، قائلة: «إن هذا المنزل الذي يبلغ عمره أكثر من سبعة عقود، ويحتضن ذكريات والدي وأشقائي، يتعرض لهجمة شرسة من الاحتلال ومحاكمه، حتى يصبح المنزل المقدسي الأخير الذي يُصادر لمصلحة قائمة البؤر الاستيطانية في المنطقة الممتدة بين عقبة السرايا وحي عقبة الخالدية».

وتنوّه الحاجة المقدسية إلى أن صراعها مع الاحتلال لسلب منزلها، انتقل إلى أروقة المحاكم الإسرائيلية، وهو ما تسرد تفاصيله قائلة: «إنه في عام 1985 أصيب منزلي بتشققات كثيرة، طالت كل أركانه وجدرانه، لأمنع من ترميمه بقرار من بلدية الاحتلال في القدس، والتي أخرجتنا منه عنوة». وتضيف: «إن معركتنا القانونية لاسترجاع منزلنا تواصلت حتى منتصف عام 1999، ذلك الوقت الذي أصدرت فيه المحكمة الإسرائيلية العليا أمراً قضائياً يقرّ بعودتنا إلى جوار الأقصى المبارك مجدداً في عام 2001».

لم تدم فرحة عائلة «صب لبن» طويلاً، ليستولي الاحتلال بعد شهور عدة على عقار فلسطيني يلاصق منزلها، بعد طرد أصحابه الأصليين منه، فيما نقلت السلطات الإسرائيلية الوصاية على منزل (الحاجة نورة) من دائرة الأملاك العامة، إلى جمعية عطيرت كوهنيم الاستيطانية في عام 2010.

وبالرجوع إلى الفترة الممتدة ما بين العامين 2010 و2016، خاضت الحاجة المقدسية معركة قضائية جديدة، داخل المحاكم الإسرائيلية، التي حرمتها من عملية ترميم منزلها وجدرانه المتصدعة منذ عام 2001 حتى اللحظة، كما منعت وجود أولادها داخل منزلها، لحرمانهم من المطالب بحق الحماية كجيل ثالث، الأمر الذي شتت أوصال العائلة الواحدة، في أحياء متفرقة داخل المدينة الواحدة، منها بلدة شعفاط التي تقع خارج البلدة القديمة التي تسكنها منذ سبعة عقود مضت. وبالانتقال إلى عام 2019، أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية أمراً قضائياً جديداً، يقضي بإخلاء عائلة «صب لبن» حتى منتصف مارس الجاري، والذي صادقته محكمة الاحتلال المركزية نهاية العام المنصرم، لتسارع العائلة باستئناف ذلك القرار، إلا أنها حتى اللحظة لم تستلم رداً يحدد مصيرها المجهول بالقرب من ثالث الحرمين الشريفين، وذلك بحسب الحاجة أم أحمد.

وفي تاريخ 13 مارس الجاري، زار منزل «صب لبن» وفد دبلوماسي أوروبي، ضم القنصلية الفرنسية العامة في القدس، إلى جانب العديد من سفارات الدول الأوروبية في المدينة المقدسة، منها، المملكة المتحدة، وبولندا، والسويد، والدنمارك، واليونان، وقبرص، تضامنا مع الحاجة المقدسية، رافضين سياسة الاحتلال لتهجيرها من منزل والديها.

قضم استيطاني

تتنقل «الحاجة نورة» بين فناء بيتها، وحجرتها التي تطل إحدى نوافذها على البؤرة الاستيطانية (بيت شارون)، وهي عبارة عن عمارة سكنية فلسطينية، بها محال تجارية، على مقربة من المسجد الأقصى المبارك، تعرّضت للاستيلاء الاستيطاني سابقاً.

المشهد الذي توثقه نافذة المنزل المقدسي، يدل على أن الصراع مع الاحتلال ومحاكمه، اتخذ شكلاً آخر، إذ تحاول الجمعيات الاستيطانية الاستيلاء عليه بشتى الطرق، أبرزها «عطيرت ليوشناه»، و«عطيرت كوهنيم»، لطرد العائلة المقدسية الوحيدة، التي تسكن في منطقة تشهد وجوداً كثيفاً للبؤر الاستيطانية. تغلق (أم أحمد) نافذتها، فتقول بامتعاض شديد: «إن منزلي يتوسط عدة بؤر استيطانية، فيما يحيطه المستوطنون من أربع اتجاهات، والذين يشنون ضدنا اعتداءات قاسية على مدار الوقت، لا يقدر على تحمّلها أي إنسان». وتسترسل الحاجة نورة: «إنه قبل ما يقارب خمس سنوات، نصب المستوطنون كاميرات مراقبة عند مدخل المنزل، وأمام بابه مباشرة، فيما نهبوا بقوة السلاح سطح حمام المنزل، وإحدى حجراته، ومخزن كان يستخدمه والدي». وتضيف: «إن المستوطنين استولوا كذلك على مقهى والدي في الطابق الأول، والذي كان يوفر لنا لقمة العيش منذ وفاته، لتستوطن أربع عائلات من المستوطنين داخل هذه المواقع كاملة، بعد ضمها إلى بؤر صغيرة». وتختتم المقدسية (صب لبن) حديثها: «إنني ورثت عن والدي قصة تاريخ متجذر، وفي سبيل الحفاظ على ذلك، لن أغادر هذه المساحة المجاورة للحرم القدسي، مهما كان الثمن، لأورث حكاية بيتنا التاريخية لأبنائي وبناتي، وأحفادي التسعة».


نورة صب لبن:

• «استمرار وجودنا في منزلنا لم يرق للاحتلال، ليضعه بعد احتلال القدس عام 1967، تحت إدارة ما يسمى (حارس أملاك الغائبين)، رغم امتلاكنا ما يؤكد حقنا، من وثائق ومستندات ورثتها عن والدي».

• «منزلي يتوسط بؤر استيطانية عدة، فيما يحيطه المستوطنون من أربع اتجاهات، والذين يشنون ضدنا اعتداءات قاسية على مدار الوقت، لا يقدر على تحمّلها أي إنسان».

تويتر