لأنهم بدأوا يشعرون بالضجر من أعمال القتل والكوارث

السلام في إيرلندا الشمالية نجح لأنه كان مدفوعاً من قبل الناس

صورة

قبل 25 عاماً، وقع رئيسا الحكومتين البريطانية توني بلير، والإيرلندية بيرتي أهيرن، ما سمي بـ«اتفاق الجمعة العظيمة»، الذي أسفر عن تحقيق السلام في إيرلندا الشمالية بعد ثلاثة عقود من العنف الطائفي، المعروف باسم الاضطرابات التي أودت بنحو 3500 نفس. وكان اتفاق 10 أبريل 1998، الذي وافق عليه 71% من الناخبين في إيرلندا الشمالية و94% من جمهورية إيرلندا، نتاج سنوات من المفاوضات العصيبة بين الأحزاب، التي طالما ناصبت العداء لبعضها البعض، نتيجة التفجيرات، وأعمال الانتقام، والتمييز في العمل والحياة الاجتماعية، والقلق والمخاوف المتواصلة، كل ذلك خلف غمامة سوداء معلقة على مستقبل أطفالهم جميعاً. وللمرة الأولى، ستعمل الأحزاب الاتحادية ذات الغالبية البروتستانتية، والأحزاب القومية ذات الغالبية الكاثوليكية، على نبذ العنف، وتتشارك في السلطة وتقرر مستقبلها معاً.

قليل من الاندماج

ولكن بعد مرور نحو جيل من الزمن يبدو الوضع في إيرلندا الشمالية بعيداً كثيراً عما هو مأمول. إذ إنه لم يتحقق سوى القليل للغاية من التقدم في مجال الاندماج الحقيقي بين المجتمعين البروتستانتي والكاثوليكي. ولاتزال المجتمعات المنقسمة كما هي، وكذلك انعدام المساواة الاقتصادية، والترقب القلق فيما يتعلق بالبريكست، الذي صوتت ضده إيرلندا الشمالية، والذي أدى إلى شلل سياسي وترك الدولة بدون حكومة لنحو عام على الأقل.

ولكن مقابل كل هذه التناقضات، فقد استمر السلام ولم تفقد الديمقراطية قبضتها على حكم البلد. ويقدم إطار عمل «ويندسور»، الذي تم الاتفاق عليه في وقت مبكر من العام الجاري من قبل بريطانيا والاتحاد الأوروبي، الفرصة للحفاظ على اقتصاد إيرلندا الشمالية في حالة نمو. وهو يقبل وعد اتفاق الجمعة العظيمة المتمثل في أن تعزيز السلام سيكون نتيجة علاقات مميزة بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا، في حين ستحتفظ إيرلندا الشمالية بمكانتها في المملكة المتحدة.

أسباب استمرار السلام

ولكن لماذا استمر السلام في إيرلندا الشمالية، في حين لاتزال المشكلات الأخرى حول العالم بعيدة عن الحل؟ أعتقد أن الجواب يكمن بالطريقة التي تم من خلالها تحقيق السلام.

أولا، كانت عملية السلام مدفوعة من قبل الناس. فقد بدأوا يشعرون بالضجر من أعمال القتل والكوارث العشوائية للعنف السياسي، والضجر من الحرمان الاقتصادي الناجم عن الانقسام.

وكان من الواضح في وجوه الناس الذين التقيت بهم خلال زياراتي إلى هناك، من جميع الخلفيات، أنهم كانوا مصممين على أنه حان الوقت لوقف الصراع. وكما أكدت زوجتي هيلاري (كلينتون)، فإن الناس، وخاصة النساء، كانوا يخرجون ويواجهون السياسيين لأنهم أرادوا أن يكبر أطفالهم وأحفادهم خارج دائرة العنف والكراهية.

جيل جديد

وكانت مفاوضات اتفاقية الجمعة الطيبة مدفوعة ومتواصلة من خلال المطالبة المتواصلة بالسلام. وأدت إلى إنتاج جيل كامل في إيرلندا الشمالية ترعرع بعيداً عن رعب العنف الطائفي، حراً في التركيز على حل المشكلات واقتناص الفرص.

وثانيا، أظهر القادة السياسيون من جميع الأطراف شجاعة في تقديم التضحيات والتنازلات مع خصومهم، مدركين تماماً أنهم يخاطرون بمستقبلهم السياسي. وتم بناء الثقة على نحو بطيء ولكن بالتأكيد من خلال سنوات عدة من إجراءات بناء الثقة، مثل إطلاق سراح السجناء، ووقف حالات إطلاق النار.

ويرجع الفضل الحقيقي للقادة أمثال بيرتي أهيرن، وتوني بلير، وقبلهم رئيس الحكومة البريطاني السابق جون ميجور، وزعامات من الأحزاب الإيرلندية أمثال ألبيرت رينولدز، وجون بروتون، وجون هيومن، وديفيد تريمبل، وجيري أدامز، وآخرون كثر. وفي الحال انضم زعيم حزب الاتحاد إيان بيسلي، الذي لم يشارك في مفاوضات السلام، إلى حكومة فاعلة مع زعيم حزب شين فين في حينه، مارتن ماكغينيس.

وثالثاً، نجحت عملية السلام لأن الولايات المتحدة كانت منخرطة بعمق في هذه العملية على نحو جعل جميع الأطراف يشعرون بأنها إيجابية. واعتقدت أن أميركا تستطيع، ويجب عليها أن تلعب دوراً في عملية إيرلندا الشمالية، ليس رغماً عن الجميع، وإنما بسبب «علاقتنا الخاصة» مع المملكة المتحدة، وبسبب المجتمع الكبير من الأميركيين الإيرلنديين الذين يهتمون بعمق بموطن أسلافهم.

تأشيرة دخول لزعيم الشين فين

وبناء على دعوة من الجالية الإيرلندية في نيويورك، عندما رشحت نفسي لانتخابات الرئاسة عام 1992، قلت في تجمع للجالية إنه إذا تم انتخابي في منصب الرئاسة، سأقوم بدور فعال في إنهاء الصراع، بدءاً من تعيين المبعوث الخاص. وحذر بعض المستشارين أنه سيكون الأمر صعباً، وبالفعل كان كذلك في البداية، نتيجة الانقسامات بين الكونغرس وإدارتي. وكانت البداية بمنح تأشيرة دخول للولايات المتحدة لمدة يومين لزعيم الشين فين، في حينه، جيري أدامز سمحت له بإلقاء خطاب على مجموعة من الأميركيين الإيرلنديين، ولكن دون أن يجمع التبرعات، ورسخت الولايات المتحدة نفسها باعتبارها الوسيط النزيه، الذي ساعد الأطراف الذين يعانون من انعدام الثقة فيما بينهم، إلى التواصل مع بعضهم البعض.

وفي النهاية، استمر السلام لأن إطار اتفاق الجمعة العظيمة أثبت أنه عادل لجميع الأطراف وأفضل من أي اتفاق آخر مطروح لهم. وعكست التفاصيل التي تم التوصل إليها تحت نظر المبعوث الخاص والذكي والصبور، ولكن الحازم جورج ميتشل، وجهات النظر المعقدة لكلا المجتمعين، ومكنتهم من الثقة والاتفاق لحماية مصالحهما.

الأغلبية مع الحفاظ على حقوق الأقلية

وساعد الاتفاق جميع الأطراف للالتزام بحكم الأغلبية مع الحفاظ على حقوق الأقلية، واحترام حقوق الفرد، والحقوق المدنية، وحكم القانون، وحظر العنف، ونزع الأسلحة، وتفكيك الجماعات المسلحة. وأنشأ نظاماً يهدف إلى صنع القرارات على نحو مشترك، والتشارك في المنافع الاقتصادية، والعلاقات الخاصة مع جمهورية إيرلندا والمملكة المتحدة.

وعلى الرغم من أن الاتفاق على تشارك السلطة كان محبطاً في ذلك الوقت، وحتى أنه وصل إلى طريق مسدود، في حينه، إلا أنه منح الفرصة لكل طرف كي تكون مخاوفه مسموعة، والعمل نحو التوصل إلى إجماع في الآراء.

وحتى الآن، ونظراً إلى أن البرلمان متوقف، يبقى السؤال المطروح متى ستعود الحكومة إلى العمل، وليس هل ستعود إليه فعلاً؟ لأنه حتى أكثر أنظمة الديمقراطية سوءاً أفضل من العودة إلى العنف.

فرصة من أجل الأمل

لقد كانت الأحداث التي أدت إلى السلام في إيرلندا الشمالية فرصة سعيدة من أجل الأمل، ولكن مثل هذه الإنجازات لاتزال نادرة. وتتوق شعوب مناطق العالم التي تعصف بها الصراعات، والانقسامات السياسية العميقة، إلى أيام أفضل، وأكثر أماناً وشمولية. ويبقى التحدي الأكبر الذي يعوق تحقيق ذلك هو العثور على القادة الذين يتسمون بالشجاعة المناسبة للاتفاق على الخيارات الصعبة الضرورية لتحقيق السلام ضمن أطر عمل يمكن أن تمنح لكل شخص صوتاً.

وفي هذه المناسبة، يمتلك شعب إيرلندا الشمالية وأصدقاؤه حول العالم الكثير الذي يحتفلون من أجله. وأتمنى أن تسمح هذه اللحظة من الذكريات المشتركة لهم، مواصلة صنع السلام وإلهام الآخرين كيفية إيجاد طريقهم لتحقيق ما يطمحون إليه.

بيل كلينتون الرئيس الـ42 للولايات المتحدة


بعد مرور نحو جيل من الزمن يبدو الوضع في إيرلندا الشمالية بعيداً كثيراً عما هو مأمول.

كانت الأحداث التي أدت إلى السلام في إيرلندا الشمالية فرصة سعيدة من أجل الأمل.

يقدم إطار عمل «ويندسور»، الذي تم الاتفاق عليه في وقت مبكر من العام الجاري من قبل بريطانيا والاتحاد الأوروبي، الفرصة للحفاظ على اقتصاد إيرلندا الشمالية في حالة نمو.

تويتر