أميركا بين «معضلة التسريب» والحفاظ على «أمنها القومي»
اعترف مدير وكالة الاستخبارات المركزية، بيل بيرنز، في أول تصريحات علنية له منذ تسريب وثائق عسكرية سرية، بأن القضية تمثل مشكلة ملحّة للولايات المتحدة لا تقل «شدة عن أي شيء آخر» في اللحظة الحالية.
وشدد بيرنز على أهمية الموازنة بين القضايا قصيرة المدى وطويلة الأجل، وأشار إلى التسريب باعتباره مشكلة ملحّة تتعامل معها وكالات الاستخبارات الأميركية.
وأشار مدير وكالة المخابرات المركزية إلى أن وزارة العدل تحقق حالياً في التسريب، ورفض الخوض في مزيد من التفاصيل حول فهمه للقضية.
وكانت قد شهدت الأيام الماضية تسريب عدد من الملفات السرية من وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) يتعلق بعضها بسياسة أميركا مع أعدائها وحلفائها، ما أثار موجة من القلق داخل الولايات المتحدة الأميركية وخارجها.
راجعت «رويترز» أكثر من 50 وثيقة.. لكنها لم تتحقق بشكل مستقل من صحتها
التسريبات الأميركية الأخيرة تكشف عن إشكالية بين «الحاجة إلى المعرفة» و«الحاجة للمشاركة»
كشف التسريب المخابراتي الأميركي الأخير عن إشكالية في عمل المخابرات، فحماية المعلومات السرية تتطلب الحد من مشاركتها، إلا أن التحسب لأخطار على غرار هجمات 11 سبتمبر 2001 يتطلب مشاركتها.
ويمثل حفظ التوازن بين المطلبين تحدياً محورياً للرئيس الأميركي، جو بايدن، إذ تسعى إدارته إلى منع التسريبات، وفي الوقت نفسه حماية أمن الولايات المتحدة، وضمان أن يستمر الحلفاء الذين يخشون من التعرّض للمخاطر في تبادل المعلومات المخابراتية.
عودة المعضلة
وقد عادت المعضلة للواجهة من جديد في أعقاب اعتقال مكتب التحقيقات الاتحادي الأميركي، الخميس الماضي، جاك تيشيرا، وهو موظف في الحرس الوطني التابع للقوات الجوية الأميركية، يبلغ من العمر 21 عاماً، على خلفية تسريب عبر الإنترنت لعشرات الوثائق الأميركية شديدة السرية، التي يُقال إنها تكشف تفاصيل حساسة تراوح بين كشف نقاط الضعف العسكرية لدى جيش أوكرانيا، ومعلومات عن حلفاء الولايات المتحدة.
وراجعت «رويترز» أكثر من 50 وثيقة، لكنها لم تتحقق بشكل مستقل من صحتها.
وقال مسؤولون سابقون إن «من المرجح أن يدفع هذا الخرق بقوة باتجاه وضع قيود على تدفق المعلومات، وربما يجعل من الصعب على مسؤولي الأمن ربط الأمور ببعضها، وتجنب مخاطر مثل هجمات 2001 على نيويورك وواشنطن».
وقال مايكل آلين، وهو مسؤول كبير سابق في مجلس الأمن القومي والكونغرس: «فكرة أن بمقدور طيار يبلغ من العمر 21 عاماً الوصول إلى كل هذه (الوثائق)، تظهر أننا أفرطنا في مشاركة المعلومات، في ظل التركيز بعد 11 سبتمبر على مشاركة المعلومات حتى نتمكن من ربط الأمور بعضها بعضاً».
وتابع: «وستفرط (الحكومة الأميركية) في رد فعلها في هذه الحالة. وسيقيدون بشدة توزيع هذه الأنواع من الوثائق، ولن يتمكن الأشخاص الذين يحتاجون إليها بالفعل من الوصول إليها بعد الآن. وأود أن أحثهم على اتباع نهج انتقائي بصورة أكبر».
ولم توضح وزارة العدل التهم التي سيواجهها تيشيرا، إلا أنها ستشمل على الأرجح تهماً جنائية تتعلق بتعمد الاحتفاظ بمعلومات عن الدفاع الوطني ونقلها.
ولم يرد البيت الأبيض أو وزارة الدفاع على الفور على طلب من «رويترز» للتعليق.
وقالت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، الخميس الماضي، إنها «تعمل على مراجعة قوائم توزيع الوثائق السرية وتحديثها».
الحاجة إلى المشاركة
بعد هجمات 2001 التي شنها مسلحو تنظيم «القاعدة»، سهلت الولايات المتحدة تبادل المعلومات المخابراتية بين الوكالات الحكومية.
ودعا تقرير لجنة 11 سبتمبر لعام 2004 إلى مزيد من تبادل المعلومات، وألقى باللوم على وكالات الأمن الأميركية بسبب دعمها لثقافة «(الحاجة إلى المعرفة) لحماية المعلومات بدلاً من الترويج لثقافة (الحاجة إلى المشاركة) التكاملية».
وهذا يعني، بطبيعة الحال، أن مزيداً من الأشخاص صار بإمكانهم الاطلاع على معلومات سرية.
وقال مسؤول أميركي إن «بعض الوثائق التي اتُّهم تيشيرا بنشرها على الإنترنت، كان من المحتمل أنها تكون متاحة للآلاف بتصاريح أمنية من الولايات المتحدة وحكومات حليفة، على الرغم من كونها شديدة الحساسية».
المشاركة
وقال مايكل أتكينسون، وهو مسؤول سابق في مجال المخابرات: «من بين الأشياء التي تعلمناها من 11 سبتمبر، أننا نحتاج حقاً إلى مشاركة المعلومات، لسوء الحظ يمكن أن تضرّ التسريبات بهذا النمط المفيد من مشاركة المعلومات».
واتخذت الحكومة خطوات في عام 2013 لتقييد الوصول إلى المعلومات بعد نشر ما يقرب من 750 ألف وثيقة دبلوماسية وعسكرية أميركية، سرية وغير سرية، على منصّة «ويكيليكس» المعنية بكشف المخالفات.
ولاتزال التسريبات التي كشفت عنها تشيلسي مانينغ، التي كانت في ذلك الوقت محلل استخبارات بالجيش الأميركي اسمه، برادلي مانينغ، قبل أن تتحول إلى امرأة، هي أكبر تسريب معروف لمواد حساسة تابعة للحكومة الأميركية.
ورداً على ذلك، أنشأت إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، برنامج «إنسايدر ثريت»، الذي يلزم الأجهزة الأميركية بتعزيز تدابير الحماية من عمليات الكشف غير المصرح بها، بما في ذلك المراقبة والتدقيق الروتيني لشبكات الكمبيوتر السرية «لاكتشاف ومراقبة وتحليل أي سلوك غير طبيعي للمستخدمين، ورصد مؤشرات سوء الاستخدام».
نوع مختلف من التهديد
في حين أن هذه التغييرات يحتمل أن تكون قد وفرت قدراً إضافياً من الأمان، يقول محللون إن «برامج الأمن الحكومية مصممة لمنع التسريبات من جانب أولئك المدفوعين بأيديولوجية، أو رغبة في الحصول على مكافأة مالية، على عكس دوافع أخرى مثل المطلعين الذين ينشرون الأسرار بهدف الشهرة».
ويلزم برنامج «إنسايدر ثريت» موظفي الحكومة بالإبلاغ عن سوء التعامل مع المواد السرية وإزالتها من المنشآت الآمنة، وسفر زملائهم غير المعلن إلى الخارج، ودائرة معارفهم، وأي زيادة في الثروة غير واضحة المصدر. لكن لا يمكنهم تتبع أنشطة زملائهم في العمل الخاصة على الإنترنت، مثل نشر معلومات سرية لإثارة إعجاب الآخرين.
وقال ستيفن أفترجود، وهو خبير بشأن السرية الحكومية الأميركية في اتحاد العلماء الأميركيين، إن «برنامج إدارة أوباما فشل في الكشف عن أحدث التسريبات، لكنه أشار إلى أنه مصمم لمواجهة تهديد مختلف».
وأضاف: «تم تصميم برنامج (إنسايدر ثريت) رداً على (ما فعله) برادلي مانينغ في ذلك الوقت، وسيناريو (ويكيليكس)، إذ كانت التسريبات غير المصرح بها ذات دوافع أيديولوجية أو سياسية.. لقد كانت رداً على ظلم مزعوم، أو تهدف لانتقاد سياسة الولايات المتحدة».
وعُرف تيشيرا لأول مرة من خلال صحيفة «نيويورك تايمز» التي وصفته بأنه مدير لمجموعة دردشة عبر الإنترنت شارك عبرها الوثائق السرية مع نحو 20 إلى 30 معظمهم من الشبان الذين يتجاذبون أطراف الحديث بخصوص حبهم للأسلحة النارية ويتبادلون صوراً طريفة (ميمز) وألعاب فيديو عنصرية.
وقال أفترجود: «كان برنامج (إنسايدر ثريت) يبحث عن أشباه لبرادلي مانينغ.. لكن هذه المجموعة الأحدث من التسريبات لم يرتكبها مثيل لبرادلي مانينغ. إنها ظاهرة من نوع جديد يكون فيها التسريب، إما استعراضاً أمام الأصدقاء، أو يكون حياداً في ما يتعلق بمضمون التسريبات».
يمثل حفظ التوازن بين المطلبين تحدياً محورياً للرئيس الأميركي، جو بايدن، إذ تسعى إدارته إلى منع التسريبات، وفي الوقت نفسه حماية أمن الولايات المتحدة، وضمان أن يستمر الحلفاء الذين يخشون من التعرّض للمخاطر في تبادل المعلومات المخابراتية.
قال مسؤولون سابقون إن «من المرجح أن يدفع هذا الخرق بقوة باتجاه وضع قيود على تدفق المعلومات، وربما يجعل من الصعب على مسؤولي الأمن ربط الأمور ببعضها، وتجنب مخاطر مثل هجمات 2001 على نيويورك وواشنطن».