الأشجار كانت تحميها من العواصف القوية.. وبعد قطعها ذهبت أدراج الرياح
رمال الصحراء تبتلع بلدات ساحلية فــي الصومال
مؤسسة بيل وميليندا غيتس
يواصل الصومالي حسين كارش سيره جيئة وذهاباً في ضواحي بلدة هوبيو الساحلية في الصومال في مكان تغطيه مسطحات الرمال، حيث يقع تحت كثبان هذه الرمال البيضاء الناعمة بقايا بيت مؤلف من غرفتين، كان بناه لعائلته في عام 1993. وثمة قطع خشبية مدفونة تحت الرمال، تمثل الأثر الوحيد على وجود المنزل الذي ولد فيه ستة أطفال. وعاش كارش هناك لنحو عقدين من الزمن، حيث كان يعتاش هو وعائلته من بيع الماعز.
في عام 2011، غطت عواصف رملية قوية الأراضي المحيطة بالمنزل، وخلال السنة التالية تجمعت الرمال، وبدأت بالزحف نحو الجدران الخارجية للمنزل، ثم تدفقت إلى داخل الغرف. في البداية، حاول كارش نقل الرمل بعيداً عن المنزل، إما بواسطة يديه أو بالمجرفة، ولكن جهوده ذهبت أدراج الرياح.
وبعد أن أدرك كارش أنه عاجز عن منع تدفق الرمال، لم يكن بمقدوره سوى النظر إليها وهي تتراكم داخل الغرف، وعندها قرر كارش بناء منزل جديد بالقرب من القديم، على أمل أن تضعف العواصف التي كانت تهب بصورة منتظمة في هذه المنطقة من ساحل المحيط الهندي، وكان أيضاً يأمل في أن السلطات المحلية ربما تقدم بعض المساعدة للمتضررين من العواصف الرملية، ولكن لم يحدث أي من الأمرين. وبعد ثلاث سنوات، أحاطت الرمال بالبيت الجديد، واضطرت العائلة لتركه.
في هذه الأيام، يعيش كارش (70 عاماً)، والذي كان يعمل فنياً في القوات الجوية الصومالية، مع زوجته وبناته في خيمتين مصنوعتين من القماش، والكرتون، وعجلات السيارات، وغيرها من الخردة. ويقود كارش قطيعه من الماعز كل صباح إلى مناطق بعيدة عن الساحل، بحثاً عن المرعى. وعندما يحدث القحط والجفاف لسنوات متكررة، فإن ذلك يعني أنه يجب عليه أن يرحل لمدة يومين بحثاً عن الأراضي الخصبة.
وانتقل كارش إلى ميناء هوبيو قادماً من العاصمة الصومالية مقديشو، بعد انهيار الحكومة المركزية عام 1991، على أمل أن تكون هذه البلدة في منطقة مودوغ في وسط الصومال ملاذاً أكثر أمناً من الحرب الأهلية التي مزقت معظم البلاد وقسمتها. ولم يكن يتوقع أن أزمة المناخ ستعمل على ترحيل عائلته مرة ثانية. ويقول كارش مشيراً إلى الرمال التي وصلت إلى ركبته تقريباً، وفي حين كان السقف المعدني يصدر صريراً عالياً، نتيجة الرياح «كما ترون، فإن منزلي الثاني استسلم هو الآخر للرمال، وهذا كل ما كسبته بعد ثلاثة عقود في هوبيو، لقد خسرت كل شيء، وكل ما بقي فهو ذكريات».
وتم تأسيس بلدة هوبيو في القرن الـ13 إبان امبراطورية آجوران، وأصبحت مركزاً للقرصنة، هذا النشاط الذي وصل إلى ذروته في الفترة ما بين 2009-2010. ومنذ انحسار نشاط القرصنة، تحولت المحنة من النشاط الإجرامي على طول الساحل إلى التدهور البيئي في المنطقة. وتعتبر عائلة كارش واحدة من 600 عائلة، أي ما يعادل 3000 شخص تقريباً، نزحوا من بيوتهم بسبب هجوم الرمال في الفترة ما بين 2011-2023، وفق مدير الشؤون الاجتماعية في هوبيو، شريف شوري، الذي قال «منزلي أحاطت به الرمال من كل جانب عام 2010 تقريباً».
وقالت منى عبدي أحمد (36 عاماً)، وهي أرملة، وأم لستة أطفال «حاولت بناء منزل لأطفالي على الأرض التي ورثناها من المرحوم زوجي، على أمل أن يؤمن ذلك لأطفالي مكاناً ملائماً كمنزل، والحفاظ على ذكرى والدهم. وقمت ببيع كل المواشي التي أملكها، وبدأت ببناء المنزل، ولكن العمل توقف على نحو مفاجئ عام 2021، بسبب ارتفاع كثبان الرمال. والآن نعيش المعاناة أنا وأطفالي في خيمة، أما المنزل الذي حاولت بناءه لأطفالي، فلم يعد أكثر من كومة من الأنقاض وسط الرمال».
ويبدو أن هوبيو ليست المكان الوحيد الذي يواجه هذا المصير، فهناك بلدات في جنوب ووسط الصومال، بما فيها دينودا، ووارشيخ، وكادالي، وماساغاوا، وهودلي، وهارادهير، جميعها تتعرض للدفن بالرمال على نحو بطيء. وقال محمد محمود «خسرت كادالي المدرسة الثانوية الوحيدة الموجودة فيها، حيث تزحف الرمال لتغطي المدينة. وكنت هناك قبل شهر، وتحدثت مع زميل لي في باراوي، وقال إن لديهم السيناريو ذاته الموجود في البلدات الأخرى».
وفي دينودا التي تبعد 150 كيلومتراً شمال هوبيو، نزحت 800 عائلة، بعد أن دفنت الرمال منازلها في فبراير 2021. وأحاطت الرمال بالمساجد، والمدارس، والمنشآت الصحية جميعاً.
وفي مارس الماضي، أغلقت كثبان الرمال الطرق، ومنع ذلك سيارات الشحن من نقل الطعام والبضائع الأخرى الحيوية إلى دينودا من ميناء بوساسو. وبدلاً من ثلاث شحنات في الشهر، أصبحت تصل شحنة واحدة، ما أدى إلى تضاعف أسعار المواد الغذائية، وإغلاق الآبار، أو تلويث المياه بالرمال، ونجم عن ذلك نقص كبير في مياه الشرب. وقال المحاضر في قسم علوم البيئة في جامعة الصومال الوطنية، عبداللطيف حسين عمر «شاهدت ما حدث في دينودا، ولم يفعل أحد أي شيء إزاء ذلك. وقدم المجتمع بعض المساهمات، ولكن الحكومة لم تفعل أي شيء. والأمر ذاته يحدث الآن في هوبيو، وإذا لم تتخذ الحكومة أية خطوات ملموسة، ستدفن الرمال بلدة هوبيو». وأضاف عمر، وهو أيضاً مدير منظمة التحرك من أجل الحفاظ على البيئة «تغير المناخ هو السبب الرئيس لما يحدث، وعندما ترتفع درجة حرارة العالم، سيكون هناك الكثير من التغيرات المناخية، مثل الجفاف، وإذا هطل في المناطق الساحلية مزيد من المطر، فسيحدث انجراف التربة، وسيعاني الناس في هذه المناطق الساحلية بشكل أكبر».
وقال محمد محمود من منظمة «غرينواتش تراست» الصومالية للحفاظ على الطبيعة «ليس هناك بنية تحتية ذكية للمناخ في هذه المناطق الساحلية، وليس هناك تخطيط، ولا تنظيم، وبناءً عليه فإن جميع هذه العوامل ستدفع سكان هذه المناطق إلى خسارة منازلهم، ومراكز الرعاية الصحية والتعليم».
ويعتبر قطع الأشجار عاملاً يسهم في تغير المناخ، إذ يتم قطع الشجر لاستخدام خشبه من أجل بناء المنازل، والحصول على الفحم من أجل الطبخ، ما يؤدي إلى انجراف التربة، وإزالة الحاجز الذي كان يحمي البلدة من العواصف، وفق ما يقوله شريف علي (44 عاماً)، الذي يعيش في هوبيو، والذي أضاف «عندما كانت حكومة الرئيس سياد بري في السلطة، كان قطع الشجر منظماً، ويمتلك أشخاص محددون رخصة من الحكومة للقيام بقطع الشجر، ولكن بعد انهيار الحكومة المركزية في عام 1991، وانعدام النظام وحكم القانون، مهّد ذلك الطريق أمام مستويات كبيرة للغاية من قطع الأشجار فيها، التي استمرت حتى يومنا الحالي، ويتم قطع الأشجار في منطقة تدعى ديمبال، تبعد 35 كيلومتراً عن هوبيو، حيث تم قطع جميع الأشجار فيها تقريباً، ونجم عن ذلك حدوث قحط بصورة متكررة، ما عرض المنطقة للمعاناة».
ويقف محمد محمود خارج منزله المبني من الطوب، وينظر إلى كثبان الرمل أمامه، ويقول «في هذه المنطقة كان يعيش ذات يوم جيراننا، إلا أنه لا يوجد أي شيء الآن، لقد ابتلعت الرمال كل شيء، وإذا لم تتغير الأمور، فإن المصير ذاته ينتظرنا، وسنهرب نحن أيضاً من المنطقة».
مؤسسة خيرية أسسها بيل وميليندا غيتس
الرمال تدفن مستشفى
على الرغم من أن الصومال لا تسهم بأكثر من 08% من الانبعاثات الغازية العالمية، إلا أنها واحدة من أكثر دول العالم تأثراً بالأزمة المناخية. ويعتبر القحط، والرياح العاتية، وانجراف التربة، مجرد أسباب بسيطة من تلك التي أدت إلى تدهور البيئة في العقدين الماضيين، في الوقت الذي ساءت فيه أزمة المناخ، ما سبب معاناة شديدة، بما فيها وصول الدولة إلى ظروف قريبة للغاية من المجاعة، وهجرة جماعية للسكان.
ويقول السكان الذين يعيشون في المناطق الساحلية إنهم يتأثرون من العواصف الرملية أكثر من أي وقت مضى، حيث تعمل على دفن البيوت، والمتاجر، والمدارس، والمشافي. وفي هوبيو دفنت الرمال حتى الآن مساكن نحو 11 ألف أسرة، إضافة إلى مستشفى موله شخص محلي هو الشيخ حسن حسين، حيث دفن المستشفى بعد عام واحد من بنائه عام 2018.
وثمة مخاوف من أن المستشفى الرئيس في البلدة، حيث بلغ ارتفاع الرمل نحو متر تقريباً حول بعض جدرانها الخارجية، ستدفنه الرمال إذا لم يتم اتخاذ تدابير عاجلة. ويقول محمد محمود من منظمة «غرينواتش تراست» الصومالية للحفاظ على الطبيعة «الرياح هي واحدة من العوامل التي تأثرت بتغير المناخ. وإذا سألت سكان المناطق الساحلية، فسيقولون إن الرياح أقوى مما كانت عليه في أي وقت مضى، مقارنة بالسنوات الـ30 الماضية. وقالوا الرياح القوية موجودة من قبل، ولكنها الآن أكثر سرعة بكثير».
هوبيو تختفي أمام أعين سكانها
تقول وزيرة البيئة وتغير المناخ في الصومال، خديجة المخزومي، إن الوزارة تعرف المخاوف التي يثيرها خبراء البيئة. وأضافت «لمعالجة هذه القضايا، تخطط الحكومة لتنفيذ إجراءات تهدف إلى منع مزيد من انجراف التربة وتفاقم وضع الشريط الساحلي».
وتقول المخزومي إنه سيتم زرع نحو 30 ألف شجرة بحلول ديسمبر 2024. وأضافت «بدأت الحكومة مبادرة تدعى (الصومال الخضراء)، ويتضمن قانون البيئة الذي وافقت عليه الحكومة، والصادر عن البرلمان في مارس من العام الجاري، حظراً على تصدير الفحم».
وفي هذه الأثناء، يبدو أن بلدة هوبيو تختفي أمام أعين سكانها. وقالت مريم محمود (44 عاماً)، وهي أم لثمانية أطفال، وعاشت في هوبيو لنحو ثماني سنوات «لا نستطيع حتى المشي خلال أحيائنا بسهولة، بسبب الرمل، وحتى السيارات تواجه متاعب من المرور عبر الرمل. وعندما وصلت إلى هوبيو للمرة الأولى كشخص نازح من بلدة هارادهير، عام 2015، مع أطفالي وبعض الجيران، بدأت بجرف الرمال بيديّ العاريتين، ولكن بات من الصعب جداً القيام بذلك الآن، ونحن نستسلم الآن. إننا نعيش تحت رحمة الرمال».
• يعتبر قطع الأشجار عاملاً يسهم في تغير المناخ، إذ يتم قطع الشجر لاستخدام خشبه من أجل بناء المنازل، والحصول على الفحم من أجل الطبخ، ما يؤدي إلى انجراف التربة وإزالة الحاجز الذي كان يحمي البلدة من العواصف.
• في مارس الماضي، أغلقت كثبان الرمال الطرق، ومنع ذلك سيارات الشحن من نقل الطعام والبضائع الأخرى الحيوية إلى دينودا من ميناء بوساسو. وبدلاً من ثلاث شحنات في الشهر، أصبحت تصل شحنة
واحدة، ما أدى إلى تضاعف أسعار المواد الغذائية، وإغلاق الآبار، أو تلويث المياه بالرمال، ونجم عن ذلك نقص كبير في مياه الشرب.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news