كوريا الشمالية تغير تكتيكاتها بإغلاق سفاراتها حول العالم
مَعلم «أغوستينو نيتو» - وهو نصب عملاق متعدد الجوانب وأطول من تمثال الحرية في نيويورك - يلوح في الأفق بالعاصمة الأنغولية لواندا. ويُعد هذا النصب الخرساني الضخم الذي بنته شركة إنشاءات كورية شمالية، بمثابة تذكير بالعلاقات التاريخية بين البلدين. وقاتل نحو ثلاثة آلاف جندي كوري شمالي في الحرب الأهلية التي اجتاحت أنغولا في السبعينات والثمانينات. وفي نسخة كوريا الشمالية من التاريخ، تعلّم نيتو، أول رئيس لأنغولا، طرق النضال ضد الاستعمار من زعيم كوريا الشمالية، كيم إيل سونغ.
ومع ذلك، وفي 27 أكتوبر، أغلقت بيونغ يانغ سفارتها في لواندا، كما تم إغلاق مقار بعثاتها في أوغندا وإسبانيا وهونغ كونغ. ووفقاً لصحيفة «يوميوري شيمبون» اليابانية، فإن أكثر من 12 سفارة كورية شمالية (أي نحو ربع إجمالي السفارات)، قد تغلق قريباً. وتقول وزارة الخارجية الكورية إن هذا يدخل ضمن إعادة توزيع روتينية للموارد المصممة لتعزيز «المصالح الوطنية» لكوريا الشمالية في عالم متغير. ومع ذلك، تشير عمليات الإغلاق إلى تحوّلين كبيرين: الأول اقتصادي، إذ لعبت السفارات منذ فترة طويلة دوراً مهماً في تجارة كوريا الشمالية غير المشروعة بالأسلحة والمواد الممنوعة.
إذاً يتعيّن على الدبلوماسيين الكوريين الشماليين أن يدعموا أنفسهم (قليلون هم الذين يفهمون أيديولوجية الاعتماد على الذات التي تتبنّاها البلاد أكثر منهم)، وأن يقدّموا الأموال لرؤسائهم في بيونغ يانغ. وقبل فرض جولة عقابية من عقوبات الأمم المتحدة في عام 2016، تشير التقديرات إلى أن سفارات كوريا الشمالية تُدرّ ما بين 50 و100 مليون دولار سنوياً.
وتُسلط عمليات الإغلاق، الضوء على تحول في استراتيجية بيونغ يانغ الدبلوماسية التي جعلتها تقترب من روسيا والصين.
ويمكن للامتيازات الدبلوماسية أن توفر كثيراً من الفرص، فقد قام الكوريون الشماليون المتمركزون في الخارج بشراء سلع غير مشروعة لنظامهم، بدءاً من الذهب وقرون وحيد القرن للنخبة المدللة، إلى التكنولوجيا العسكرية ذات الاستخدام المزدوج لبرامج الأسلحة. وفي بعض الأحيان يتم اعتماد تجار الأسلحة الكوريين الشماليين كدبلوماسيين. ومع ذلك، يبدو أن شيئاً ما قد انحرف عن هذا النموذج.
وتشير عمليات الإغلاق إلى أن السفارات المعنية لم تعد قادرة على تغطية تكاليفها، وأن النظام لم يكن راغباً في تعويض الفارق، كما يقول تاي يونغ هو، وهو دبلوماسي كوري شمالي سابق، عمل في الدنمارك والسويد وبريطانيا. وقد حدث إغلاق جماعي مماثل في التسعينات، بعد أن أدى انهيار الاتحاد السوفييتي إلى فقدان الدعم للاقتصاد الكوري الشمالي وانهياره لاحقاً.
ويشير الدبلوماسي السابق إلى أن عمليات الإغلاق، هي دليل على أن «عقوبات الأمم المتحدة تعمل بفاعلية».
وقد يبدو أن حقيقة قيام أنغولا وأوغندا بطرد دبلوماسيين كوريين شماليين في عام 2017، بسبب انتهاكات طفيفة للعقوبات، تدعم ذلك. ومع ذلك، فإن إغلاق السفارات لا يعني بالضرورة أن الأنشطة المراوغة التي سهّلتها ستنتهي، كما يقول دانييل سالزبوري، من المعهد الملكي للخدمات المتحدة، وهو مركز أبحاث في لندن. وقد يجد بعض منتهكي العقوبات في كوريا الشمالية، أنه من الأسهل العمل بعيداً عن التدقيق الذي تجتذبه السفارات. وعلاوة على ذلك، فإن المصادر الجديدة للإيرادات غير المشروعة للمملكة المنعزلة، بما في ذلك سرقة العملات المشفرة، وصفقات بيع الأسلحة الكبيرة الأخيرة لروسيا، ربما جعلت مصادر دخلها التقليدية أقل أهمية.
وهذا يشير إلى التحول الآخر، وهو التحول الجيوسياسي. وكان انفصال الصين وروسيا عن الغرب سبباً في زيادة فائدة كوريا الشمالية بالنسبة لهما. والصين التي دعمت لفترة طويلة نظام كيم جونغ أون، أصبحت الآن أكثر ميلاً إلى النظر إليها باعتبارها منطقة عازلة مسلحة نووياً ضد القوات الأميركية في كوريا الجنوبية. وفي الوقت نفسه، أصبحت علاقات رئيس كوريا الشمالية الحالي، جيدة مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، وهذا يعني أن كوريا الشمالية يمكنها إنفاق قدر أقل من الطاقة والعملة الصعبة في التعامل مع دول أصغر مثل أنغولا.
وفي نهاية المطاف، حتى لو كانت سفارات كوريا الشمالية قادرة على تغطية تكاليفها، فإنها تمثّل التزامات. وقد انشق دبلوماسيون كوريون شماليون أخيراً عن سفارتيهما في إيطاليا والكويت، وهرب تاي يونغ هو، من سفارة بلاده في بريطانيا إلى كوريا الجنوبية عام 2016. وباعتبارهم من المطلعين على النظام، يميل هؤلاء الدبلوماسيون إلى الحصول على معلومات أكثر خطورة من معظم المنشقين الكوريين الشماليين. وإذا كان النظام يستطيع الحصول على المال والدعم من أماكن أخرى، فلماذا يهتم بهم؟
• كان انفصال الصين وروسيا عن الغرب سبباً في زيادة فائدة كوريا الشمالية بالنسبة لهما.
• 12 سفارة كورية شمالية قد تغلق قريباً.
• 3000 جندي كوري شمالي قاتلوا خلال الحرب الأهلية في أنغولا.
دولة ذات سيادة
تقول كوريا الشمالية إنها تمارس حق أي «دولة ذات سيادة»، في إعادة تقييم أولوياتها الدبلوماسية. وقال مسؤول لم يذكر اسمه، على الموقع الإلكتروني لوزارة الخارجية الكورية الشمالية، إن عمليات إغلاق السفارات كانت «جزءاً من الإجراءات العادية، الهادفة إلى تعزيز المصالح الوطنية في العلاقات الخارجية»، متابعاً: «تماشياً مع التغيرات في البيئة الدولية، والسياسة الخارجية للدولة، فإننا إما أن نغلق أو نفتح بعثات دبلوماسية جديدة في بلدان أخرى. لقد اتخذنا أيضاً مثل هذه الإجراءات في مناسبات عدة في الماضي»، لكن تشو هان بوم - وهو زميل أبحاث في المعهد الكوري للوحدة الوطنية - قال إن إغلاق السفارة دليل على أن الاقتصاد الكوري الشمالي يمر بأزمة. وأوضح تشو: «إن القرصنة الإلكترونية ليست كافية لإدارة اقتصادهم، ويبدو أن الصعوبات الاقتصادية واستنفاد العملة الأجنبية، هما أكبر الأسباب لإغلاق السفارات في الخارج».
وتعزز بيونغ يانغ ما يسمى دبلوماسية الحرب الباردة الجديدة، من خلال الحفاظ على قواعدها أو تعزيزها مع دول مهمة مثل الصين وروسيا وسورية وإيران وكوبا، مع التخلص من تلك التي يصعب الحفاظ عليها والمرهقة، وهي تدير سفارتها في المملكة المتحدة من منزل شبه منفصل في إيلينغ غرب لندن. ولا يُعتقد أن هذا مدرج في قائمة عمليات الإغلاق المقترحة. وكانت سفارات كوريا الشمالية في بعض الأحيان في قلب الأحداث التي أحرجت النظام.
وفي عام 2016، انشق نائب السفير لدى بريطانيا، آنذاك، ثاي يونغ هو، إلى كوريا الجنوبية، معلناً أنه «سئم وتعب» من نظام كيم. وتم انتخابه لعضوية الجمعية الوطنية الكورية الجنوبية عن حزب قوة الشعب الحاكم. وقال ثاي، أخيراً: «هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها غلق مثل هذا العدد الكبير من السفارات، منذ المسيرة الشاقة في التسعينات»، في إشارة إلى المجاعة المدمرة التي أودت بحياة مئات الآلاف، وربما الملايين.
وقال ثاي إن عمليات الإغلاق «تُظهر أن عقوبات الأمم المتحدة ضد كوريا الشمالية تعمل بشكل جيد في جميع أنحاء العالم». وسيفاجأ الكثيرون بقرار إغلاق السفارة في لواندا. وأقامت كوريا الشمالية وأنغولا علاقات دبلوماسية في عام 1975، وقام الرئيس الأنغولي السابق، خوسيه إدواردو دوس سانتوس، بثلاث زيارات إلى بيونغ يانغ، وأُرسل العمال الكوريون الشماليون إلى أنغولا لكسب الأموال التي يحتاجها النظام بشدة.