«البريغاديستاس».. متطوعون أرجنتينيون لحماية مدنهم المجاورة للغابات من الحرائق
توجّهت قافلة من الشاحنات ذات النوافذ المعتمة في طريق غير معبدة، فوق بلدة أسكوشينغا الصغيرة الواقعة على جانب الطريق 53، في سلسلة جبال سيراس تشيكاس، وهذه الجبال ذات المناظر الخلابة تحيط بالجانب الغربي من مقاطعة كوردوبا الواقعة في وسط الأرجنتين.
لم يكن الأشخاص البالغ تعدادهم 75 شخصاً والموجودون في المحمية الطبيعية، قبل الفجر، يعرفون بعضهم بعضاً من قبل. وجاء أفراد هذه المجموعات الثماني من بلدات صغيرة منتشرة عبر أراضي المقاطعة، ويطلقون على أنفسهم «البريغاديستاس»، وهي كلمة شائعة تعني فرق الإطفاء، لكن في كوردوبا فإن «البريغاديستاس» الموجودين ليسوا عمال إطفاء رسميين، بل متطوعون.
إنهم جيران الأشخاص الذين تطوعوا لمكافحة النيران منذ موسم الحرائق عام 2020 الذي لم تشهده البلاد مثله من قبل، والذي أدى إلى تدمير نحو مليون فدان (أي ما يعادل 405 آلاف هكتار). ويتدبّر هؤلاء المتطوعون أمرهم عن طريق أدوات مصنوعة يدوياً، أو بمعدات حصلوا عليها عن طريق التبرع، وبالتالي يستطيعون استخدامها لمكافحة النيران، ويرسمون هدفاً واحداً أمامهم يتمثّل في حماية الغابات من الحرائق والتدمير، كما يقول والتر زاراتي، وهو أحد سكان أسوكوتشينغا، وعضو في فريق الميرادور الذي تَشكّل حديثاً لمكافحة الحرائق. وبالنظر إلى أن النار تهدّد الأحياء المجاورة لهم عاماً بعد عام، يشعر زاراتي، وأقرانه من أعضاء الفريق، بأنه لم تتبق لهم أي خيارات سوى مكافحة الحرائق قبل أن تصل إليهم. ويضيف: «في الواقع لا نستطيع الوقوف مكتوفي الأيدي، في ظل هذا الخطر الداهم الذي نراه أمامنا وهو يتزايد يوماً بعد يوم».
وتشتهر هذه المنطقة من جبال سييرا تشيكاس، بالنيران سريعة الحركة، حيث تأتي من الغرب، وتدمّر المساحات الطبيعية للغابات. وكانت المجموعة تعمل على إحداث فجوة في الغطاء النباتي بطول ثلاثة أمتار، الأمر الذي من شأنه - من الناحية النظرية - أن يمنح الفرق العاملة في إطفاء الحرائق وقتاً كافياً لمنع انتشارها إلى المحمية الطبيعية الواقعة إلى الجهة الشرقية من المكان.
وتعد كوردوبا واحدة من المراكز النباتية الرئيسة في البلاد، وهي مسؤولة عن نحو ربع إنتاج الدولة من فول الصويا، السلعة التي تُعد الأرجنتين ثالث أكبر منتج لها في العالم، إلا أن كوردوبا تتعرض الآن لجفاف مستمر، فبعد ثلاث سنوات متعاقبة من القحط وانعدام الأمطار، كان صيف 2022-2023، هو الأسوأ من حيث الجفاف والقحط، وفق السجلات منذ عام 1929، ما دفع المنطقة إلى إعلان حالة الطوارئ نتيجة الجفاف الزراعي، وسط حرارة مرتفعة على نحو قياسي غير معهود في شتى أنحاء أميركا الجنوبية. وعادة يأتي الجفاف مصحوباً بالحرائق المدمّرة التي لا تبقي ولا تذر.
ولطالما اعتبرت كوردوبا على نطاق واسع أنها المنطقة التي تمتلك أفضل معدات مكافحة الحرائق، لكن ذلك لم يوقف الحرائق التي تحدث بصورة سنوية وتكتسح المناطق القاحلة والجافة، حيث احترق خلال هذا العام نحو 20 ألف فدان (8000 هكتار) في ثلاثة أشهر فقط، ما أدى إلى تدمير سبل كسب العيش وزيادة الأضرار، وانحسار مساحة غابات كوردوبا الطبيعية المتبقية. ويزداد تدمير الحرائق للغابات كل بضع سنوات إلى معدل أكبر. ففي عام 2020، شهدت المقاطعة أسوأ حريق على الإطلاق. ويقول رئيس محطة فيلا دوسوتو للإطفاء، غوستاف بوريليس، الذي كان يقود عمليات الإطفاء عام 2020: «كان لدينا العديد من الموارد، لكن النيران تجاوزت التوقعات لما يمكن أن تكون عليه الحرائق».
ويعزو القادة المحليون ارتفاع مخاطر الحرائق في المقاطعة إلى الجفاف، وإزالة الغابات، والتوسّع الحضري، والتوسع في إنتاج فول الصويا، ونقص التثقيف حول مخاطر حرائق الغابات. وعلى الرغم من أن حرق الغابات، من أجل الزراعة غير قانوني في معظم أنحاء المقاطعة، فإن تطبيق القانون ضعيف، ومايزال الحرق المتعمد، سواء لتجديد المراعي أو لتطهير الأراضي من أجل التنمية، أمراً شائعاً.
وبدأت المقاطعة في اتخاذ الإجراءات، حيث تم تشكيل أول فريق مدفوع الأجر في الأرجنتين بنحو 700 رجل لمكافحة الحرائق في الأماكن البرية، وبناء نظام الإنذار المبكر، والبدء في تنفيذ بعض استراتيجيات الوقاية من الحرائق، مثل قطع الكهرباء خلال الأيام العاصفة بشكل خاص، والتوعية بالحرائق في المدارس المحلية.
ولكن مع ذلك لا يمكن لرجال الإطفاء أن يوجدوا في كل مكان، كما أن المتطوعين لا يمكنهم الوصول إلى قمم الجبال. وبدلاً من ذلك، اتجهت الحكومة إلى إنفاق الموارد من أجل إنقاذ حياة الناس ومنازلهم. وفي عام 2020، كادت النيران تؤدي إلى تدمير موقع تراثي يرجع تاريخه إلى القرن السابع عشر، ومسجل في منظمة «اليونيسكو» باعتباره تراثاً إنسانياً، عندما اندلعت النيران في كنيسة قديمة، ومجتمع زراعي في بلدة لاكانديلاريا.
وتقول غابريلا هيريديا التي تعيش في الكنيسة، وتعمل معلمة فيها: «عندما اتصلنا برجال الإطفاء من المقاطعة وحدثناهم عن الخطر، قالوا لنا: لا تخافوا لأن الحريق لن يصل إلى كانديلاريا».
وشيئاً فشيئاً بات «البريغاديستاس» أكثر حرفية في التعامل مع النيران، وأكثر قدرة على سد الثغرات التي تتركها الحكومة في تعاملها مع الحرائق، حيث تضحي بالغابات من أجل حماية الملكيات الخاصة. وبات العديد منهم يتلقون التدريبات من فريق «ديفنسا فيردي فورستري» المحترف، وأصبحت هذه المجموعات أكثر تواصلاً مع المسؤولين المحليين، وباتوا يعملون هذا العام على نحو وثيق أكثر من الماضي، مع رجال الإطفاء والشرطة.
ولكنهم لا يلتزمون بالقواعد بصورة صارمة في عملهم، إذ إن «البريغاديستاس» يعملون خارج الإطار القانوني الحالي لمكافحة الحرائق في المقاطعة، لذا فحتى أولئك الذين يتمتّعون بأفضل سمعة على النطاق المحلي يفتقرون إلى الاعتراف من كبار المسؤولين، ويمكن استبعادهم عن الملكيات الخاصة، إضافة إلى احتمال أن تطلب منهم الشرطة المغادرة في أوقات أخرى.
ويمكن أن يكون عملهم غير آمن تماماً في بعض الأحيان، فخلال عام 2020 توفي شخصان وهما يحاولان مكافحة الحرائق. وفي عام 2022، توفيت عاملة الإطفاء، لوانا لودينا، منتحرة بعد ظهور مزاعم بأنها تعرضت لاعتداء جنسي من قِبل مدير سابق للدفاع المدني، ما دفع مجموعة من النساء إلى تنظيم مسيرة في العاصمة وتشكيل مجموعة دعم، لمناقشة العنف الجنسي في البلاد خلال مكافحة الحرائق.
ومع ذلك فإنهم غير خائفين، ويدرك «البريغاديستاس» مدى ضعفهم، سواء من الناحية الجسدية أو المؤسساتية. ولكن البديل بالنسبة لهم هو الانضمام إلى الثكنات الرسمية، بما يتفق مع تسلسلها الهرمي الحكومي، وبالتالي استعدادهم لقبول التضحية بالنظم البيئية للغابات الثمينة لصالح الدفاع عن الملكيات.
• يعزو القادة المحليون ارتفاع مخاطر الحرائق في مقاطعة كوردوبا إلى الجفاف، وإزالة الغابات، والتوسّع الحضري، والتوسع في إنتاج فول الصويا، ونقص التثقيف حول مخاطر حرائق الغابات.
أغلبية الحرائق بفعل البشر
يقول المسؤولون في كوردوبا، إن البشر يتسببون في 99% من النيران التي تندلع في المنطقة. ويواجه رجل في 27 من العمر في منطقة بونيلا، تهمة إشعال حريق هناك، عندما انتشرت النيران إلى مناطق واسعة، وأصبحت خارج السيطرة، وفق وكالة أسوشيتد برس. وقال مصدر في الحكومة الأرجنتينية: «نأمل أن يتم تطبيق القانون على الشخص المسؤول عن إشعال هذه النيران».
ولكن الظروف المناخية تهدّد أيضاً مناطق برية شاسعة في شتى أنحاء أميركا الجنوبية. وتشهد القارة فترات ساخنة، وفقاً لتحليل أجرته الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي للظروف العالمية، صدر في أغسطس. وذكر التقرير أن الجفاف منتشر - على نطاق واسع - في جميع أنحاء القارة، باستثناء جنوب الأرجنتين وشرق البرازيل ودول الشمال.
وأشارت دراسة نُشرت قبل فترة إلى أن ظاهرة تغير المناخ، هي التي أدت إلى موجة الحرائق في سبتمبر الماضي، وانتشرت إلى جنوب البرازيل، وشرق بوليفيا، والباراغواي، وشمال شرق الأرجنتين. وتجاوزت درجات الحرارة 104 فهرنهايت، في أجزاء من البرازيل خلال الشتاء، وبداية الربيع في جنوب الكرة الأرضية.
حرائق الغابات تهدّد المدن في الأرجنتين
الحرائق التي أحاطت بالمناطق المأهولة بالسكان في الأرجنتين، أوائل أكتوبر الماضي، شكّلت مشاهد مخيفة، وأثارت الرعب على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن تمت السيطرة عليها في نهاية المطاف، وفق ما أعلنت السلطات في البلاد، لكن الدولة تظل تحت خطر داهم للحرائق، وسط القحط والجفاف، وظروف الرياح الشديدة.
وظل رجال الإطفاء يكافحون نحو ستة حرائق غابات في مقاطعة كوردوبا وسط الأرجنتين، حيث تم إجلاء عشرات الأشخاص، وفقاً لوكالة «أسوشيتد برس». وأظهرت الصور ومقاطع الفيديو المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي، ألسنة اللهب والدخان الأسود تقترب من المناطق الحضرية، خارج فيلا كارلوس باز، وهي مدينة تعد منتجعاً غرب كوردوبا.
وحتى بعد أن سيطر رجال الإطفاء على الوضع، فإنهم ظلوا يحاربون بصورة فعالة، البقع الساخنة، بما فيها النيران التي اندلعت في منطقة تولومبا شمال المقاطعة، حسبما أفاد مسؤولون محليون على منصة «إكس». وكانت هناك طائرتان تسكبان الماء على النيران، وفق ما ذكره المسؤولون. وقال مسؤولون في المقاطعة، إن عشرات الهكتارات من الأراضي احترقت، وتضررت بعض المنازل، لكن لم يُصب أحد بأذى.
وجاءت هذه النيران وسط طقس جاف وحار وعاصف، على غير العادة، حيث وصلت درجة الحرارة إلى 90 درجة فهرنهايت، في حين أن سرعة الرياح تجاوزت 35 ميلاً في بعض المناطق. وأصبحت مؤشرات القحط عند مستويات كبيرة للغاية حول كوردوبا، وفق نظام معلومات الجفاف في أميركا الجنوبية.
وتعد كوردوبا واحدة من بين أكثر المناطق المعرّضة لحرائق الحياة البرية في العالم، وفق ما ذكرته الحكومة الأرجنتينية.