محلل استراتيجي: عودة التنافس بين القوى العظمى تفتح أبواب الفوضى
يمر العالم الآن بواحدة من أشد فترات الاضطراب منذ الحرب العالمية الثانية، في ظل وجود نحو 50 صراعاً بين دول عدة. ومنذ وقت ليس ببعيد، ظهر إجماع دولي على أهمية التعامل بشكل مشترك وفعال مع أي اضطراب، سواء كان في صورة أعمال عنف أو انهيارات للنظام العام أو هجرة جماعية أو أزمات إنسانية. وقد صورت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، هيلاري كلينتون، هذا التوافق في مقدمتها لتقرير «الدبلوماسية والتنمية» الرباعي لعام 2010، عندما قالت «سنجمع الشعوب والدول المتشابهة في التفكير لحل المشكلات الملحة التي نواجهها جميعاً». وترسخ هذا الزخم لمزيد من التوافق الدولي من خلال أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2015، التي جاء فيها «تعزيز المجتمعات المسالمة والشاملة من أجل التنمية المستدامة، وضمان تحقيق العدالة للجميع، وإقامة مؤسسات فعالة خاضعة للمحاسبة وشاملة على كل المستويات».
لكن المحلل الاستراتيجي أندرو هايد، مدير برامج الدبلوماسية المالية متعددة الأطراف وقوة السلام في مركز ستيمسون للأبحاث، يقول في تحليل نشرته مجلة ناشيونال إنترست الأميركية إن مثل هذه المبادرات الدولية نادراً ما تحقق النتائج المرجوة، مشيراً إلى ما قالته نائب الأمين العام للأمم المتحدة، أمينة محمد، في مايو الماضي «نظرة على العالم اليوم، تكشف إلى أي مدى تبتعد هذه المثاليات يوماً بعد آخر».
وقد انعكس الاعتقاد الراسخ بأن الدول الهشة والمناطق غير المحكومة تشكل تهديداً للأمن العالمي، وبالتالي للمصالح الوطنية الأميركية، على تفكير صناع السياسات الأميركية في مجال الأمن القومي خلال معظم سنوات العقدين الأولين من هذه الألفية. وفي الوقت نفسه، أدى هذا إلى إجماع دولي دائم نسبياً قائم على الاعتراف بالقيادة الأميركية في العالم، ما أسهم في إيجاد جهود مستدامة لحل النزاعات. في الوقت نفسه، تم اعتبار الفضاءات غير المحكومة أو الدولة الفاشلة أرضاً خصبة وملاذات آمنة للمارقين على النظام الدولي. وقد دعم حلفاء الولايات المتحدة وشركاؤها السياسات والبرامج الرامية إلى جلب السلام والأمن إلى هذه المناطق.
وفي تلك السنوات، لم تكن الدول المناوئة للولايات المتحدة وسياساتها تعرقل الجهود الدولية الرامية لتحقيق السلام في مناطق الصراع، وإن لم تشارك في هذه الجهود. على سبيل المثال، أصدر مجلس الأمن الدولي العديد من القرارات والبيانات الرئاسية التي تؤكد المسؤولية عن حماية المدنيين. وأسهم توافق الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي في ذلك الوقت في صدور قرارات بشأن التدخل الدولي المسلح لأغراض إنسانية، والذي ترسخ بعد نهاية الحرب الباردة في السماح بالتدخل الدولي في صراعات، مثل الحرب الأهلية في الصومال، وفي جمهورية البوسنة والهرسك. كما دعمت منظمات إقليمية، مثل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، هذه الجهود من خلال المساعدة في الإصلاح الحكومي في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، سواء في آسيا الوسطى أو جنوب شرق أوروبا.
لكن يبدو أن النسيان طوى هذه الحقبة، بحسب أندرو هايد، المتخصص في التواصل الدبلوماسي والأمن القومي والمنظمات متعددة الأطراف، الذي يرى أن الولايات المتحدة هي السبب في تدهور الإجماع الدولي حول جهود الحفاظ على الأمن والاستقرار العالميين، بسبب اندفاعها نحو إسقاط الحكومات في الدول التي لا ترضى عنها، دون التفكير بشكل واضح في تحديات الحكم التي ستنتج عن سقوط نظام الحكم. علاوة على ذلك، فإن عودة التنافس بين القوى العظمى في العالم، خلال العقد الماضي، دمّر أي إجماع عالمي على الحاجة إلى السلام والأمن، كما أن النظام الذي كان في وقت من الأوقات احتكاراً لدولة واحدة لا غنى عنها بدأ يتفكك.
وأصبح تأثير هذا الإجماع الدولي الهش أكثر وضوحاً خلال العقد الثاني من الألفية الثالثة، لأن الدول الفاشلة أو المفككة واجهت مزيجاً ساماً من التحديات المستعصية، ومنها الفقر المدقع، والنزوح، والتغير المناخي، وجائحة فيروس كورونا المستجد، والمؤسسات الضعيفة. وقاوم الكثير من هذه الدول، مثل أفغانستان، وعدد من دول جنوب الصحراء الإفريقية، أي جهود خارجية لتمهيد الطريق أمام قيام حكم فعال فيها.
ومع اشتداد التنافس بين القوى العظمى، كانت الحرب الأهلية التي تفجرت في ليبيا عام 2011 نقطة محورية، فقد تلت التحرك الدولي المنسق لكبح ما اعتبر عدوانية نظام حكم العقيد معمر القذافي، عملية حلف شمال الأطلسي (الناتو) العسكرية في ليبيا، التي أصبحت في وقت لاحق أكثر عدوانية وتدخلاً مما تصورته موسكو وبكين، عندما وافقتا على إصدار قرار من مجلس الأمن يسمح بهذا التدخل. فقد اتسع نطاق تدخل «الناتو» في ليبيا عام 2011، بناءً على قرار مجلس الأمن، وتحول إلى عملية أكبر، أسفرت عن تغيير النظام الحاكم مع استمرار الفوضى وتحولها إلى حرب أهلية، ما جعل روسيا تشعر بأنها تعرضت للخداع والتضليل من جانب الدول الغربية أثناء مناقشة الأزمة الليبية.
ومنذ ذلك الوقت، عادت أجواء الحرب الباردة إلى مجلس الأمن الدولي، وأصبحت الدول الخمس دائمة العضوية في المجلس تتنافس في إجهاض صدور القرارات المتعلقة بمناطق الصراع في العالم، كل حسب موقفه من الصراع. فقد استخدمت روسيا والصين حق النقض (الفيتو) لمنع صدور عشرات القرارات التي كانت ترعاها الولايات المتحدة وحلفاؤها بشأن الصراع في سورية، في حين استخدمت الولايات المتحدة حق النقض لمنع صدور قرارات قدمتها روسيا. كما استخدمت الولايات المتحدة حق النقض لمنع صدور قرارات عديدة بشأن الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة خلال الأشهر الـ10 الماضية.
وترى موسكو وبكين وعواصم أخرى أن الفضاءات والمناطق غير المحكومة والدول الهشة تعتبر فرصة لمد نفوذها، وإضعاف الإجماع الدولي الذي يقوده الغرب، أكثر مما تعتبره تهديداً لأمنها القومي. بالنسبة لموسكو، تبنت أشكالاً أكثر عدوانية وعلانية في الانحياز إلى قوى محلية في تلك المناطق، وعرقلة الجهود الدولية المتضافرة لإقامة أنظمة حكم جديدة في دول مثل سورية وليبيا وغرب إفريقيا. أما الصين فتبنت نهجاً أكثر هدوءاً لتوسيع نفوذها من خلال المبادرات التنموية والاستثمار في مشروعات البنية التحتية في بعض الدول التي تحكمها أنظمة تفتقر إلى الشرعية الشعبية والمصداقية. وبالطبع في الدول التابعة التي تحكمها نظم مستبدة، تميل غالباً إلى الجهود الخارجية الرامية إلى الحد من الصراعات والاضطرابات حتى تستمر في عمليات الاستغلال الجائر للموارد الطبيعية لمصلحة النخب الحاكمة الجديدة في تلك الدول.
ويقول هايد إن موسكو وبكين تدركان الكلفة الباهظة لانتشار الفوضى والانقسام في العالم. وفي حين أنهما قد ترحبان بوجود نظام دولي متدهور لم تعد الولايات المتحدة تقوده، فإنهما تدركان أن الفوضى الناجمة عن ذلك قد تفرض ثمناً باهظاً على الجميع، نتيجة انتشار الاضطرابات وعدم اليقين، بما يؤثر في مصالحهما.
• عادت أجواء الحرب الباردة إلى مجلس الأمن الدولي، وأصبحت الدول الخمس الدائمة العضوية في المجلس تتنافس في إجهاض صدور القرارات المتعلقة بمناطق الصراع في العالم، كلٌّ حسب موقفه من الصراع.