الألغام قتلت وشوّهت آلاف المصريين.. و16 مليوناً منها لم تنفجر بعد

الحرب العالمية الثانية مستمرّة في «العلمين»

الألغام المدفونة في منطقة العلمين قتلت وشوهت آلاف المصريين خلال العقود السبعة الماضية. أيميج فورم

في عام 1981 كان ثلاثة أطفال يسرحون بماشيتهم على الساحل الشمالي، رأوا شيئاً يلمع في مكان قريب منهم، هرولوا نحوه وصاروا يقذفونه بالحجارة، انفجر ذلك الشيء ولم يترك منهم شيئاً سوى قطع صغيرة مثل حجم الموبايل. لقد كان لغماً زرعته القوات المتحاربة في منطقة العلمين في الحرب العالمية الثانية.

 معركة «العلمين» شكلت بدايــة انتصــار الحلفاء في الحرب

في يوليو عام 1942 تقهقر الحلفاء في شمال إفريقيا في الوقت الذي دفع الجنرال الألماني رومل بقواته في اتجاه الشرق نحو قناة السويس، تاركاً خلفه حقول النفط العربية. وفي الوقت نفسه أجهدت الزوارق الالمانية «يوبوت» القوة البحرية البريطانية في المحيط الاطلسي، واستولت قوات المحور على معظم أوروبا الغربية وروسيا، ويبدو أن العلمين اصبحت آخر معاقل بريطانيا، إذ ارتأت هذه الاخيرة ان تتجنب فقداناً سريعاً للجنود.

في ليلة 23 أكتوبر أمر الفيلد مارشال مونتغومري مهندسيه بالدخول في «حديقة الشيطان» - وهي منطقة كثيفة الالغام تقع بين القوتين، وتطهير ممر لمرور دبابات الجيش الثامن والاقتراب من فيلق رومل الافريقي. وبعد 10 أيام من القتال الشرس الذي أدى إلى خسائر في الارواح تصل الى 43 ألف جندي، أمر رومل جنوده بالتراجع. ويروي رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل عن تلك المعركة قائلاً «قبل العلمين لم يكن لدينا نصر مطلقاً، وبعد العلمين لم يكن لدينا هزيمة على الاطلاق». واليوم نرى أولئك الذين فقدوا أرواحهم في معركة العلمين يتم الاحتفاء بهم في عدد من مقابر قتلى الحرب الاوروبية في هذه المدينة الشمال إفريقية وهي العلمين.

http://media.emaratalyoum.com/inline-images/262418.jpg

بين التنمية والألغام

أما اليوم فتمتد الرمال على طول شاطئ البحر الابيض المتوسط كسابق عهدها وتمتد معها اللوحات الدعائية، من بينها لوحة تصور طفلاً يسبح في المياه الزرقاء، وكتب عليها: «مراسي.. المكان الذي تنتمي اليه دائماً»، وخلف هذه اللوحة يقع خليط من الصحراء والبحر تتخللها منازل شبه مشيدة من الجص، وعبر هذا الطريق تقع الصحراء الغربية المصرية، وفي مكان ما تحت هذه الرمال المتنقلة دوما يوجد اكثر من 16 مليون لغم أرضي لم تنفجر من ألغام الحرب العالمية الثانية.

هذه القطعة من الارض ستصبح منتجعا بمساحة 6.25 أميال مربعة يضم فيللاً فاخرة وبحيرات اصطناعية وميدان غولف. وبالنسبة للحكومة المصرية فإن منتجع «مراسي» يمثل عملية إحياء لهذه المنطقة الجميلة، أما بالنسبة لكثير من المواطنين فإن هذا المشروع يمثل لهم مزيداً من التهميش.

يقول الشاب البدوي عيسى مرجان: «هذا النوع من التنمية لا يخدمنا بأي شكل من الاشكال». ومرجان كان يعمل راعياً قبل ان تقطع رجله أحد الالغام المدفونة هناك.

المعركة حول مستقبل العلمين ليست جديدة، فالمدينة والشواطئ المحيطة بها كثيراً ما كانت مسرحاً لمعارك شرسة بين الفرقاء المتحاربين، لاسيما عام 1942 عندما التقت على ارضها قوات دول المحور وقوات الحلفاء في مواجهة غيرت مسار الحرب العالمية الثانية إلى الأبد.

صراع جديد

والآن يستعر صراع من نوع آخر على أراضيها، صراع حول افضل السبل للتعامل مع هذا الإرث القديم الذي يتمثل في الالغام المدفونة التي قتلت وشوهت آلاف المصريين خلال العقود السبع الماضية، والتي عطلت أيضاً هذه المنطقة اقتصادياً. الضحايا مثل مرجان وجدوا انفسهم يقاتلون من اجل تحقيق العدالة على جبهتين: فمن ناحية أصبحوا في مواجهة مع سلطات بلادهم المهتمة بجني الارباح اكثر من إرساء قواعد تنمية مستدامة في المكان، ومن ناحية ثانية في مواجهة مع الحكومات البريطانية والاوروبية المسؤولة أساسا عن هذه الالغام المميتة التي خلفتها وراءها.

وكشفت وزارة التعاون الدولي المصرية عن خطة بقيمة 10 مليارات دولار تهدف إلى خلق 400 الف وظيفة في المنطقة ولاستقطاب اكثر من 1.5 مليون مواطن للإقامة هنا من أجل تخفيف الضغط السكاني عن مدن وادي النيل. ويقول المسؤول عن المشروع فتحي الشاذلي، إن هذه المنطقة غنية بالموارد الطبيعية و«نتوقع أن نجد احتياطات لا بأس بها من النفط والغاز»، اضافة الى انه يوجد اكثر من 1.214.056 مليون هكتار مربع من الاراضي الخصبة وإمكانات كبيرة للسياحة، بيد انه يصعب الوصول الى كل هذه الامكانات على الاقل قبل تطهير المنطقة من الألغام.

وموضوع نزع الالغام جعل الحكومة تدخل في صراع مع البدو الذين يعتقدون ان جهود الحكومة في تطهير الألغام انما تهدف الى تلبية احتياجات شركات النفط ومطوري المنتجعات السياحية الذين يسعون إلى استغلال الموارد الغنية في المنطقة.

موارد شحيحة

في العام الماضي طهرت وحدة من الجيش نحو 130 كيلومتراً مربعاً من الارض، الا ان جهودهم لم تكن سوى قطرة في محيط مع وجود ما يصل الى 2800 كيلومتراً مربع من الصحراء لاتزال موبوءة بالألغام. ويقول المسؤولون انه مع محدودية التمويل فإن الحكومة تعمل فقط على تطهير المناطق المخصصة لأغراض التطوير التجاري وتلبي ايضا المتطلبات الانسانية مثل تطهير الطرق المؤدية إلى المناطق الزراعية. ويقول الشاذلي ان الساحل الشمالي الغربي خال تماماً من أي توتر بين الحكومة والسكان المحليين.

مأساة إنسانية

أحمد قاسم، الذي يعمل مدير صيانة لشركة نفط مصرية إيطالية على بعد 209 أميال داخل الصحراء، لا يتفق مع ما قاله الشاذلي إذ يقول إن أخويه وابن عمه كانوا يرعون الماشية عام 1981 بالقرب من العاصمة الاقليمية مرسى مطروح عندما رأوا شيئاً يلمع على الأرض، ولأنهم يجهلون كنهه صاروا يقذفونه بالحجارة، ويتابع قاسم أن «ذلك اللغم الذي قضى عليهم كان كبيراً لدرجة أنني عندما هرولت نحوهم لم استطع ان ارى أي شيء أمامي». ويضيف قاسم الذي كان في الـ18 من عمره في ذلك الوقت «كل ما تبقى منهم لم يكن سوى قطع صغيرة من اللحم ليست أكبر من حجم الموبايل».

قاسم لديه ولدان شابان في الوقت الراهن، ويتساءل عن عدم تطهير تلك الالغام المحيطة بمنزله - موقعها غير معروف على وجه التحديد - حتى الآن. ويقول «عائلتي لم تحصل على أي شيء من الحكومة المصرية، ليس هناك تعويض أو أي جهود لتطهير الالغام بالقرب منا».

ويضيف أن السلطات طهرت جميع الطرق المؤدية إلى موقع شركته منذ فترة طويلة، ويرى أنه «من المؤسف ان تطهر الحكومة الألغام من أجل الربح لا من أجل أطفالنا».

ويتحدث قاسم بحنق شديد على الحكومة البريطانية التي رفضت مراراً وتكراراً تعويض الذين أصيبوا جراء ألغامها أو تقديم أي مساهمة كبيرة في تطهير الألغام، ويقول«حربهم انتهت لكن حربنا لاتزال دائرة حتى اللحظة».

ويؤكد أن الكثيرين لا يعرفون معنى ان يعيش الانسان تحت التهديد الدائم وألا يشعر مطلقاً بالأمان فوق أرضه، ويخاطب البريطانيون «نحن أناس أبرياء، هذه حربكم وليست حربنا، ومع ذلك نحن الضحايا».

نسيان وتجاهل

وتشارك الحكومة المصرية قاسم هذا الشعور، إذ تشير الى ان مصر من أكثر بلدان العالم الموبوءة بالألغام والتي تفوق في ذلك المناطق التي تعج بالمشكلات مثل انغولا وافغانستان والبوسنة. وظل المسؤولون المصريين لسنوات عدة على اتصال بنظرائهم البريطانيين والألمانيين والإيطاليين لمزيد من الأموال من اجل معالجة المشكلة، لكن من دون جدوى.

وعلى الرغم من ان الدول الثلاث زرعت ألغاماً في مصر إلا ان معظم المصريين يقولون ان بريطانيا هي المتهم الاول في هذا الخصوص، ويعتقدون أن بريطانيا تتحمل المسؤولية الأخلاقية في نقل الصراع هنا على الشواطئ المصرية. كما أن الدولتين الأخريين أسهمتا بسرعة في تقديم العون المالي.

وتؤكد وزارة الخارجية البريطانية انها ترسل 10 ملايين جنيه استرليني في العام لتطهير الالغام حول العالم، لكنها لا تريد ان تدخل في أي اتفاقية ثنائية مع الحكومة المصرية بهذا الخصوص في الوقت الذي ترفض فيه بريطانيا التوقيع على اتفاقية «أوتوا» التي تحرم استخدام الألغام المضادة للأفراد من قبل جيوشها الوطنية.

جهود محلية

وفي الوقت الذي يجد فيه بدو الساحل الشمالي أنفسهم محشورين في نزاع دبلوماسي فإنهم ملوا الانتظار للحصول على اجابة عن تساؤلاتهم هذه.

وفي العام الماضي شكلت مجموعة من ضحايا الألغام منظمة غير حكومية بقيادة العمد المحليين تسعى إلى إجبار الحكومة البريطانية على الوقوف على منصة المتهم في المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان، من اجل الحصول على تعويضات لضحايا الالغام، وتم تعيين محامين لها في القاهرة والعاصمة البريطانية لندن، ويحاولون أيضاً مقاضاة السفير البريطاني في مصر من خلال المحاكم المصرية.

ويعتقد الذين يقفون خلف هذا التحرك غير المسبوق أنه على الرغم من ضآلة فرصه الا أنه يعتبر الخطوة الاولى لإجبار الحكومة البريطانية على تقديم تسوية مالية كافية للذين عانوا على يد جنودها، وعلى غرار التسوية الاقتصادية التي حصلت عليها ليبيا من إيطاليا. ويقول العمدة عبدالرحمن «لدينا هنا مثل نثق به (لا يضيع حق وراءه مطالب)». ويضيف «هذا التعويض من حقنا تماماً مثل تطهير الألغام من المنطقة، انه تطهير من أجل الذين يعيشون هنا، وسنظل نعمل على ذلك حتى الحصول على حقوقنا».

تويتر