امرأة بوسنية تبكي أقاربها الذين تم التعرف إليهم بين رفات 775 من ضحايا مجزرة سربرينيتسا عام .1995 رويترز

مجزرة سربرينيتسا جرح غائر في نفــوس مسلمي البوسنة

سنوات طويلة ثقيلة الوطأة مضت على حدوثها وبقيت تذكر العالم بقوة بوحشية ما فعله التتار في بغداد عاصمة الخلافة في القرن السابع الميلادي، ولتحفر تلك المشاهد البشعة وما ترتب عليها من ذهول وآلام في نفوس من كتبت لهم النجاة،

ثمن متأخر

قضت محكمة جرائم حرب في البوسنة بسجن اثنين من شرطة البوسنة في زمن الحرب لمدة 20 عاما وخمسة أعوام على الترتيب لقيامهما باضطهاد أشخاص من غير الصرب في جنوب شرق البوسنة أوائل الحرب بين عامي 1992 و،1995 حيث سيقضي كرستو سافيتش القائد السابق للشرطة في بلدة جاتشكو 20 عاما، بعد إدانته بارتكاب جرائم قتل واعتقال ونزوح قسري وتعذيب ضد مسلمين وكروات في عام .1992 كما دانت الشرطي ميلكو موكابيبتش بالمساعدة على اضطهاد أشخاص من غير الصرب، بالإضافة إلى صناعة أسلحة ومواد تفجيرية والاتجار فيها بطريقة غير مشروعة، وقضت بسجنه لمدة خمس سنوات. كما حكمت على الشرطيين السابقين - رادومير فكوفيتش (36 عاما)، وجوران توميتش (38 عاما)، بالسجن 13 عاما، لارتكابهما جرائم إبادة ضد المسلمين، والمساعدة في الإجلاء القسري لـ40 ألف مدني من بلدة سربرينيتسا، وشارك الاثنان، وفق المحكمة، في اعتقال نحو 1000 مسلم وإعدامهم عند محاولتهم مغادرة سربرنيتسا. ومنذ أن وضعت الحرب أوزارها دين عشرات الأشخاص في تلك المحكمة التي شكلت في عام ،2005 لتخفيف الضغط عن المحكمة الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة ومقرها لاهاي وتمكينها من التركيز على القضايا الخطرة الناجمة عن الصراع الذي سقط فيه نحو 100 ألف شخص معظمهم من مسلمي البوسنة، كما تجري منذ أشهر في أروقة المحكمة الدولية الخاصة في لاهاي، حاليا، محاكمة زعيم صرب البوسنة السابق رادوفان كراجيتش بينما لايزال راتكو ميلادتيش طليقا، رغم الحملة التي تشنها قوات حلف الأطلسي.

إنها مجزرة سربرينيتسا التي ارتكبها الصرب ضد مسلمي البوسنة والهرسك عام ،1995 في واحدة من أكثر الافعال وحشية وأشدها بشاعة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وحينما تأتي على سيرتها في حديثك مع أي من أهالي البلدة أو أي من مسلمي البوسنة تسيل دموعه بغزارة وبكل تلقائية ويأخذه الحزن عميقا إذ ترفض عقولهم نسيان هذه المأساة الراسخة في الذاكرة الفردية والجمعية لهم والحاضرة بكل قوة وكأنه لم يمض عليها إلا يوم أو بعض يوم.

تأبين

شهد حفل تأبين ضحايا المذبحة الذي أقيم هذا العام حضورا حاشدا لا يقل عن 50 ألف شخص بينهم ناجون وذوو الضحايا وعدد كبير من رؤساء الدول والحكومات والوزراء والسفراء، وتخلل الاحتفال اعادة دفن رفات 775 من الضحايا الـ8000 في مركز «بوتوكاري» المخصص لإحياء ذكرى المجزرة، بعد ان تم التعرف إلى رفات هذه الجثث، من خلال اختبارات الحمض النووي (دي إن إيه)، فبعد قتل الضحايا تم دفنهم في مقابر جماعية، قبل أن يعاد دفنهم لاحقا وعلى عجل في أكثر من 70 موقعا في محاولة لإخفاء الأدلة، ولكن تعرف الخبراء في السنوات القليلة الماضية إلى عظام 6500 من الضحايا، وأعيد دفن رفات 3749 منهم في مقبرة «بوتوكاري» القريبة من سربرينيتسا. ووصفت الهيئات القضائية الدولية خصوصا محكمة الأمم المتحدة لجرائم الحرب بشأن يوغوسلافيا السابقة ومحكمة العدل الدولية المجزرة بأنها كانت جريمة إبادة جماعية.

 وقددعا الرئيس الصربي بوريس تاديتش بهذه المناسبة الى المصالحة بين جمهوريات يوغوسلافيا السابقة، وقال إن مشاركته في الحفل تمثل «فعل مصالحة وبناء جسور بين امم الدولة السابقة، يوغوسلافيا»، بينما رأى بوسنيون في مشاركته نقطة مثيرة للألم ومحركة لأحزانهم.

ومن جهته وصف رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون المجزرة بـ«الجريمة التي أخزت أوروبا». وقال إن حكومته لن يرتاح لها بال حتى يساق المسؤولون عنها إلى العدالة.

وأضاف «ونحن مدينون للضحايا بأن نستخلص درس سربرينيتسا الذي يقول إننا يجب ان نتصدى للشر إذا كنا نريد الدفاع عن الانسانية، كما اننا مدينون للضحايا بملاحقة المسؤولين عن هذه الجريمة البشعة وسوقهم للعدالة لينالوا جزاءهم».

وأكد كاميرون أن الحكومة الائتلافية البريطانية ستجعل من منطقة البلقان محور اهتمامها، وستساعد البوسنة على التقدم الى الامام من خلال قبول عضويتها في الاتحاد الاوروبي وحلف شمال الاطلسي وأنها مصرة على بذل كل الجهود الممكنة «للحيلولة دون تكرار هذه الجريمة».

لوعة

تقول مسلمة بوسنية فقدت ثلاثة من أبنائها خلال مجازر الصرب في سربرينيتسا، إنها تشعر بالضيق مع قدوم شهر يوليو من كل عام «ولن أنسى ما حييت فقداني أولادي». أما أكرم موهيتش الذي جلس مع عائلته على هضبة تطل على المقبرة التي وصلها بعد رحلة عبر الغابات استمرت ثلاثة أيام، على غرار نحو 5000 شخص قطعوا الطريق ذاتها التي سلكها الفارون من المجزرة، فقال «لقد جئت من أجل أخي، وكنا قد غادرنا سربرينيتسا أنا وهو معا واستطعت العودة لكنه لم يعد اليها حتى الآن».

وانتقدت رئيسة جمعية أمهات سربرينيتسا جابا منيرة سوبشتش، وهي تغالب دموعها أولئك الذين يشككون في حدوث المجزرة، وقالت «أحقا بعد كل هذه الجثث والأشلاء؟»، كما انتقدت بعض مسؤولي صرب البوسنة الذين لم يخفوا تأييدهم للمجزرة، وافتخارهم بأعمال القائد الميداني السابق لجيش صرب البوسنة راتكو ملاديـتش الـذي أشـرف على عمـليات القتل الجمـاعية والملاحـق منذ سـنوات مـن قوات حلف الاطلسي والمطلوب لمحكمة الامم المتحدة الخاصة بجرائم الحرب الدولية.

وعشية الاحتفال بالذكرى الـ15 للمجزرة نظم الحزب الديمقراطي الصربي، وهو حزب قومي متطرف معارض اسسه زعيم صرب البوسنة رادوفان كرادجيتش حفلا في بانيا لوكا شمال البوسنة، لتكريم مؤسسه كرادجيتش الذي يحاكم في لاهاي لدوره في مجزرة سربرينتسا حيث تسلمت زوجته ليليانا ميداليات التكريم نيابة عنه، وقال زعيم الحزب ملادين بوسيتش «إن الحزب لا يخجل من ماضيه».

  معصرة الدماء

قبل خمسة أعوام ظهر الفيلم الوثائقي «سربرينيتسا ليس مجدداً؟»، عن المذبحة، ليزيل كثيرا من الغموض حول الملابسات التي احاطت بظروفها ويقدم توضيحات لكثير من التساؤلات، فهو يقول إن سربرينيتسا كانت على مدى تسعة أيام «معصرة للدماء»، وأن ما بين 8000 و10 آلاف ضحية سقطوا في مذبحة ارتكبتها القوات الصربية بحق المسلمين البوسنيين تحت أعين قوات الأمم المتحدة بل وأعين العالم، وكانت القوات الهولندية المشاركة في القوات الدولية المتهم الأول.

فقد اتهمها الضحايا بأنها سلمتهم إلى المتطرفين الصرب لقمة سائغة، كما أظهر أوروبا، التي اعتقدت أنها تخلصت إلى الأبد من التطهير العرقي، وقد ارتعدت فرائصها لعودته، خصوصاً أن متطوعين من اليونان وروسيا وبلدان أخرى شاركوا فيها.

ويطرح الفيلم السؤال: لماذا لم يحاسب المسؤولون مباشرة عن المذبحة؟ والمسؤولون بصورة غير مباشرة عنها في الامم المتحدة وهولندا وبلدان أوروبية أخرى؟ وهل تخلصت أوروبا حقا من إرثها من الابادة والمذابح؟ ومتى وإلى أي مدى يجب على اوروبا أن تحاسب نفسها أخلاقيا ؟ وإلى أي مدى تحتمل أوروبا وجود منطقة تماس حضاري وديني فيها؟

وبعد مشاهدتك الفيلم لا تشعر برغبة في العيش أو متابعة حياتك من دون الاشخاص الذين تحبهم، فلا أظن أنني قد أسامح أو أنسى ما حدث أو أطيق رؤية مجرم صربي يتحرك طليقا، هذا ما قاله أحد البوسنيين بعد مشاهدته الفيلم.

أزمة ضمير

لم ينسَ المحللون السياسيون تخاذل أوروبا طوال سنوات حرب البوسنة والهرسك وصمتها المريب إزاء الفظائع المروعة التي كانت قوات الصرب وصرب البوسنة ترتكبها ضد المسلمين والكروات البوسنيين حتى ذهب فريق من هؤلاء المحللين الى حد الاعتقاد أن الموقف الأوروبي كان مشبوها ومريبا لدرجة التواطؤ حيث كان الصرب يرتكبون جرائمهم المشينة تحت سمع وبصر قادة اوروبا وقادتها ورؤساء حكوماتها، وكذلك تحت سمع وبصر قواتها التي كانت تعمل في البوسنة تحت مظلة الامم المتحدة، ومن هنا جاء قرار البرلمان الأوروبي الخاص بإحياء ذكرى مجزرة سربرنيتسا في دول الاتحاد الأوروبي واعتبار 11 يوليو من كل عام ذكرى سنوية لغسل الضمير الاوروبي مما يثقله من أدران الذنب والإحساس بالتقصير، كما أثار القرار ارتياحا بالغا في الأوساط السياسية والشعبية وأهالي الضحايا بالبوسنة في حين قوبل باستـياء وغضـب في أوسـاط صربيا وصـرب البوسنة.

واعتبر كبير علماء البوسنة ومفتيها العام مصطفى تسيريتش، القرار اعترافا ضمنيا من أوروبا بخطئها وتقصيرها في التعاطي مع مجزرة سربرينيتسا التي راح ضحيتها 8000 مسلم، وتمنى أن يؤدي القرار إلى المصالحة بين العرقيات وتحقيق العدل وعدم تكرار مثل تلك الجرائم البشعة في المستقبل. وقال إن القرار الأوروبي فتح الأمل للناس في البوسنة للعيش في سلام «ولن يطارد بعضهم بعضا لأسباب عرقية أو دينية»، مشيرا إلى أن مسؤولية مذبحة سربرنيتسا لا تقع على عاتق الشعب الصربي بأكمله وإنما على من ارتكبوها.

من جهتها، امتدحت رئيسة جمعية أمهات سربرنيتسا منيرة سوبشتش، القرار واعتبرته احتراما لأمهات الضحايا وذويهم وقالت «إن أوروبا غـسلت ضـميرها من موقفها الخاطئ تجاه سربرنيتسا حينما صمتت عن المجزرة ولم تهتم بسربرنيتسا، رغم أنها كانت منطقة آمنة بقرار صادر عن مجلس الأمن.

حملة

سجل أكثر من 6000 بوسني أنفسهم في أقل من 48 ساعة على صفحة في الـ«فيس بوك» تديرها مجموعة «نوز زيكا سربرينيتسا» أي (السيف، السلك سربرينيتسا) التي تمجد مجزرة سربرينيتسا ووجه ناشطون بوسنيون رسالة الى إدارة الـ«فيس بوك» جاء فيها أن المجموعة الصربية «تنشر الكراهية ضد كل المسلمين»، وتمجد اعمال الجنرال ملاديتش وترفع شعار «المسـلمون هم أفضل عندما يسبحون في حمض الكبريـت».

وترى أغلبية سكان البوسنة والهرسك أن ملاديتش وزعيم صرب البوسنة كرادجيتش مجرما حرب، وأنهما ملاحقان بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية بينما يرى صرب كثيرون في الرجلين بطلين قوميين لكنّ عددا لا بأس به منهم عارضوا الصفحة الصربية على الإنترنت ووصفوها بـ«الفاشية».

 

الأكثر مشاركة