جرائم على نمط «المافيا».. عنف وترهيب بعد ترغيب الضحايا
الاتجار في البشر والسخرة يلطخان الـحضارة الأوروبية
يتعرض العديد من الشباب البريطاني للاستعباد والاسترقاق، والعمل اليدوي الشاق، وأعمال السخرة في رصف الطرقات في الدول الاسكندنافية وغرب اوروبا، إذ كشف تقرير حديث صادر عن السلطات السويسرية أن بعض العائلات الايرلندية التي يطلق عليها اسم «مسافرين» تعمل على نمط «المافيا» لاستجلاب عمال بريطانيين ومن دول اوروبية اخرى، للعمل في رصف الطرقات وغيرها في الدول الاسكندنافية، وتستخدم العنف والترهيب والترغيب لتمنع ضحاياها من الهرب من مواقع العمل وإبلاغ الشرطة. ويخضع العمال للعمل طوال 16 ساعة في اليوم بأجر زهيد أو من دون أي أجر.
ويتم استقطاب هؤلاء الأشخاص عن طريق وعود بالحصول على عمل بأجر جيد في الخارج، وفرصة للسياحة حول العالم، ويتم ترحيل هؤلاء العمال، ومعظمهم بريطانيون، إلا أن هناك أيضاً ايرلنديين ورومانيين وبولنديين يتم ترحيلهم الى السويد على سفن ركاب وسفن شحن وعن طريق البر وعبر الدنمارك، وهناك دول عبور أخرى تشمل المانيا وهولندا والنرويج، ويتم توظيف هؤلاء الشباب في المراقص الليلية أو على الطرقات للعمل في التشجير وتعبيد الطرقات مقابل توفير السكن والطعام مجاناً، إضافة الى الاجر الجيد، إلا ان التقارير كشفت أن كثيراً من هؤلاء العمال يعملون من السابعة صباحا إلى الحادية عشرة مساءً باقل من 10 جنيهات إسترلينية في اليوم، ويخضعون للتهديد ومصادرة جوازات سفرهم.
تركوه يحترق
اوليفر هاير، شاب بريطاني يبلغ من العمر 22 عاماً، ويعمل في الطهو في احد هذه المعسكرات، مات حرقاً عام 2005 في «الكرفان» الذي يسكن فيه، واستنتجت الشرطة السويدية حينها انه مات قضاءً وقدراً، إلا أن الحقائق التي تكشفت في ما بعد اشارت الى انه كان يعمل ضد إرادته، وتم حرقه بعد ان اشتكى المعاملة السيئة، وان الاشخاص الموجودين في موقع المعسكر آنذاك «اعترضوا جهود الانقاذ». وتقول عائلة هاير إن العمل الذي عرض عليه يبدو أنه يدر عليه 900 جنيه استرليني في الاسبوع، إلا انه بمجرد وصوله الى اسكندنافيا اصبح يتعرض لمعاملة الرقيق، وارسل ذات مرة رسالة نصية يخبر فيها ابن عمه بأن مخدوميه لا يدعونه يغادر المعسكر، وعاد الى بريطانيا في اغسطس لحضور حفل زفاف، ثم عاد الى السويد بمحض إرادته، وقبل ان يغادر أسرّ الى اخته الكبرى بأن مخدوميه سيتسببون بالأذى لأعمال والده، وسيؤذون والدته.
جريمة أخرى
عام 2007 القي القبض على مواطنين ايرلنديين كانوا يسكبون البترول على «كرفان» يؤوي عاملَين بريطانيين في معسكر يقع على بعد اربع ساعات شمال العاصمة السويدية استكهولم، ويبدو ان العاملين رفضا الانصياع للأوامر أو انهما كانا غير مستعدين للخضوع للنظام داخل المعسكر.
مافيا
تتّبع العوائل التي تسيطر على العمال نظاما هرميا، فلكل عائلة رئيس وهو الاب في الغالب، ويأتي بعده مباشرة الابناء، فالأب هو المدير، بينما يمثل الابناء مديري او مراقبي مواقع، وتشتمل العائلة المسيطرة ايضاً على نساء واطفال، على الرغم من عدم وضوح أدوارهم في هذا النظام. وفي الوقت الذي يسافر فيه العمال براً وبحراً، تسافر العائلات المسيطرة جواً، ويسمح هذا النظام للمديرين ومديري المناطق باستخدام اللكمات والركلات لمعاقبة العمال، ويقول التقرير ان هذه الانتهاكات متأصلة في نمط حياتهم.
وتشير تقارير الى أن ما يصل الى 213 شخصاً على الاقل تعرضوا للاتجار فيهم داخل بريطانيا وخارجها بواسطة بعض العصابات خلال الفترة من 2007 الى ،2010 أكثر من نصف هذا العدد بريطانيون. هذه الارقام التي وفرتها الشرطة ليست نهائية، فربما كان الرقم اكبر من ذلك بكثير. وكانت الشرطة البريطانية قد شنت حملة على مخيمات «مسافرين» في ست مقاطعات بريطانية هذا العام، واتهمت ستة اشخاص من عائلة واحدة بتهم تتعلق بالاتجارة في البشر واخضاع العمال لإعمال السخرة.
في السويد وحدها تم إصدار 72 تقريراً على الاقل عن المتاجرة في البشر واعمال سخرة تورط فيها «مسافرون» اوروبيون منذ .2007 وفي النرويج قدرت سلطات الضرائب ان مثل هذا العمل يدر على اصحابه ما يعادل 11 مليون جنيه استرليني خلال ستة أشهر في فصل الصيف.
تهديد ووعيد
في احدى ليالي يناير الباردة من العام الماضي، جلس ستيف ميلز (24 عاماً) واثنان من مواطنيه البريطانيين في «كرافان» بالقرب من حوض لإصلاح السفن بمنطقة اسيكس ببريطانيا، في الوقت الذي اقام فيه «سيداهم» الايرلنديان مع زوجتيهما واطفالهما في فندق قريب. الرجال الثلاثة كانوا على استعداد للسفر عبر هولندا الى السويد للعمل في تعبيد الطرق والممرات مقابل اجر زهيد أو من دون اجر، فبعد ان عاش ميلز في ثلاثة معسكرات في بريطانيا يعمل خلالها لمدة 15 ساعة في اليوم، اراد أن ينتقل الى مكان اكثر رحمة، وعندما اخبره مخدموه بانه سينتقل للعمل في الخارج احس بانه ليس لديه أي مفر. وفي السويد كان هو ورفاقه العمال يرتدون افضل ثيابهم ويطرقون أبواب المواطنين الهولنديين بحثا عن العمل، لكنهم يواجهون بحالة من الارتياب من قبل المواطنين. واستطاعوا الحصول على عمل خلال ثلاثة اسابيع من البحث، وسافروا مجدداً في اتجاه المانيا ثم استقلوا عابرة الى السويد.
وكانوا يحصلون على ما يعادل 9.40 جنيهات استرلينية مقابل العمل 12 ساعة في اليوم، التي لا تغطي سوى تكاليف عشائهم. وكان «الكرافان» قذراً، ولا تتوافر لديهم أي فرصة لغسل ملابسهم او شراشف أسرّتهم. وصاروا يخافون الهرب تحت التهديد والركل والضرب. وذات مرة ركض الثلاثة مسافة ميلين إلى مخفر الشرطة، فتم اعتقال «مخدميهم» بتهمة الاتجار في البشر، وتم اطلاق سراحهم في ما بعد. لم يندهش ميلز لذلك، يقول «كنت اعتقد دائماً ان الاتجار في البشر هو انتقال الضحايا من سيد الى آخر بالبيع أو غيره، ولا اسمي حالتنا هذه اتجاراً في البشر وانما سخرة».
ويحكي ميلز قصة التحاقه بمثل هذه الاعمال قائلا، انه كان عاطلا عن العمل، وعلى وشك ان يفقد شقته المستأجرة، وخلال هذه الفترة قابل احد «المسافرين» الايرلنديين في احد المطاعم، فوعده الاخير بالعمل، وظن ميلز أن الحظ ابتسم له، ولم يدرك انها بداية احزانه. وقد اختار ميلز ان يستقر في السويد، ويملك الآن شقة هناك ويعيش مع صديقته.
التقصير في المحاكمة
يؤكد تقرير صادر عام 2009 عن قسم الاستخبارات في إدارة التحريات الجنائية بالسويد وعليه عبارة «سري»، أن السبب في تفشي هذه الظاهرة يعود الى التقصير في محاكمة الجناة، وان انعدام التنسيق بين الدول الاوروبية جعل العديد من هذه القضايا يموت في مهده، إذ إن الجناة كثيرا ما يغادرون في الحال البلد الذي ارتكبوا فيه جريمتهم، ولهذا السبب تم اغلاق ثلاثة تحقيقات في هذا الشأن، نظراً لعدم وجود ادلة كافية تدين مرتكب الجريمة.
ولم يصدر حتى الآن سوى حكم قضائي واحد في السويد في حق ايرلنديين متهمين بإجبار عمالهم على ممارسة اعمال سخرة، ولم يصدر حكم قضائي حتى الآن في حق متهمين بالاتجار في البشر. وفي عام 2008 صدر حكم بالسجن 18 شهراً على دانييل دوندون لتسخيره عمالاً في ممارسة الاعمال الشاقة من دون مقابل، اضافة الى الحكم عليه بدفع تعويضات بقيمة 1100 جنيه استرليني لكل من ضحيتين بريطانيتين تعرضتا للتشريد أو اصيبتا بمرض عقلي. وكانت محكمة منطقة غارين بجنوب النرويج التي نطقت بهذا الحكم قد علمت بأن الاجر الذي يتلقاه العمال نظير عملهم متدنٍ للغاية، وان العمال يضطرون للعيش في ظروف سيئة ويعملون فترات طويلة في اليوم، ويخضعون للمراقبة اللصيقة، ويدركون أنهم اذا فشلوا في اداء عملهم او حاولوا الهرب، ستتم اعادتهم ويتعرضون للضرب والقتل.
وصفت بعض الجهات الرسمية هذه الجرائم بأنها خفية، لان الضحايا غالباً ما يكونون مشردين أو مصابين بمرض عقلي، ولا يستطيعون الظهور امام المحاكم لمقاضاة جلاديهم. ويقول كبير متحري الشرطة الوطنية بالسويد، كاجيسا وهلبيرغ، إن الفرصة اتيحت لجميع ضباط الشرطة للتدريب على التعامل مع جرائم الاتجار في البشر.
حقائق وأرقام
تعمل أكثر من سبع شبكات من العوائل في هذه المهنة في السويد وحدها، من بينها «عشائر» مختلفة تشترك في اللقب نفسه. وتعمل في مجموعات يصل عدد الواحدة منها الى 40 شخصاً.
وقد تلقت الشرطة البريطانية منذ عام 2007 نحو 75 بلاغاً عن حالات اتجار في البشر واعمال سخرة في الخارج، تمارسها جماعات ايرلندية، ومن المعتقد ان ذلك الرقم لا يمثل سوى «رأس جبل الجليد».
ويصل العائد من اعمال رصف الطرقات والممرات التي يؤديها هؤلاء العمال الى 14 مليون جنيه استرليني في العام في النرويج والسويد، في الوقت الذي يتلقى فيه العمال 10 جنيهات استرلينية في اليوم، في أفضل الظروف.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news