غنّى للنميري «لا حارسنا.. ولا فارسنا» فسجنه.. وللبشير «سلّم مفاتيح البلد تسلــــــــــــــــــم».. واختار المنفى 13 عاماً
وردي.. حكايات سياسية على «وتـــــــر مشدود»
الفنان السوداني محمد عثمان حسن وردي، الذي رحل قبل ايام، بعد مسيرة فنية ونضالية امتدت لاكثر من نصف قرن، قدم خلالها روائع من الاغنيات العاطفية، وتميز بمواقفه السياسية المتمثلة في الأناشيد الوطنية والثورية، ما جعله قامة شامخة في سماء الابداع ورمزا سودانيا تعدت شهرته ربوع الوطن الى دول الجوار، خصوصا منطقة القرن الافريقي، ودول شرق ووسط والغرب الافريقي، حتى لُقب بفنان افريقيا الاول.
وبعيداً عن الغناء العاطفي نجد ان لوردي حكايات ومواقف سياسية مشهورة منذ استقلال السودان، مروراً باول حكومة عسكرية في عهد الفريق ابراهيم عبود، وبعدها ثورة 21 اكتوبر 1964 الشهيرة، مروراً بانقلاب جعفر النميري في 25 مايو ،1969 وحتى الانتفاضة عليه في السادس من أبريل ،1985 وانتهاء بانقلاب عمر البشير في 30 يونيو ،1989 إذ بادر كعادته بمعارضة الحكم العسكري الجديد، وفضل المنفى الاختياري وغادر الوطن ولم يعد الا بعد 13 عاماً.
ومن الحكايات السياسية الطريفة ان الفنان وردي تفاجأ برحابة الاستقبال من الرئيس البشير، ووزير الدفاع عبدالرحيم محمد حسين، وقيادات أخرى في الدولة والحزب الحاكم، عندما عاد إلى الوطن الذي هجره لمدة (13) عاماً بعد مجيء «الانقاذ»، اي انقلاب البشير، فعلق على ذلك بطريقة لاذعة عندما قال: «أنا لو اعرف ان قيادات الحكومة يحبون الغناء هكذا، لعدت من زمان».
لكن في الواقع ليس قادة «الانقاذ» وحدهم مَن يحب وردي، فهناك القادة الشيوعيون والاتحاديون، وغيرهم من الذين اختلفوا في كثير من القضايا، إلاّ أنّهم - وعلى اختلافهم - اتفقوا على وردي لانه لم يكن مطرباً فقط، بل كان صاحب فكرة ومشروع، حتى ان كلمات احدى اغنياته، حسب ما ذكره الكاتب فتح الرحمن شبارقة، في صحيفة الرأي العام السودانية، لامست أذني رجل الدين الشيخ الراحل محمد هاشم الهدية الرئيس السابق لجماعة أنصار السنة، فعلّق ذات مرة في برنامج «أسماء في حياتنا» في تلفزيون السودان، على أغنية «المستحيل» ورغم موقفهم الرافض للموسيقى والمعازف، فقد اعتبرها الهدية وقتها من الأغاني التي تحمل في جوفها قدراً لافتاً من التوحيد والتسليم بالقضاء والقدر، خصوصا في المقطع الذي يقول: «لو بإيدي كنت طَوّعت الليالي.. لو بإيدي كنت ذللت المحال».
وعلاقة البشير مع الفنان وردي وأغانيه، ربما يكون فيها شيء من الخصوصية، بالرغم من مجاهرة الاخير بالعداء لحكومة الانقاذ منذ مجيئها، وهجرته الى الخارج والتغني ضدها، وابرزها «سلّم مفاتيح البلد.. تسلم» لـمحمد المكي إبراهيم، والتي بلغت شأواً أن صارت شعارا تعبيريا عن مرحلة بكاملها، وكثيراً ما صدح بها رئيس التجمع الوطني الديمقراطي، محمد عثمان الميرغني، في وجه «الانقاذ» «سلّم تسلم».
وبالرغم من هذا الموقف العدائي، تعدت العلاقة بين وردي والبشير مجرد الاستماع، إلى الغناء معه في جلسة خاصة بالخرطوم، بعد عودة وردي من غربته الاختيارية، وتجلى هذا العشق في زيارة الرئيس لفنانه، وهو طريح الفراش بالمستشفى قبيل وفاته، واخيراً الصلاة على جثمانه والوقوف على مواراته الثرى، قبل أن يعود مغبراً مع المشيعين.
البشير في حبه لوردي لم يكن استثناءً، فقد تقاسم معه ذلك الحب قيادات ذات وزن سياسي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. فسكرتير الحزب الشيوعي السوداني محمد إبراهيم نقد من أشد المعجبين بالفنان الراحل، وليس في الأمر عجبا، فقد كان وردي رفيق نضال وسجون، ومغنيا ثائرا منذ تهجير اهالي مدينة حلفاء في اقصى شمال السودان «النوبيين»، في عهد حكومة الفريق ابراهيم عبود الذي وقع اتفاقية السد العالي مع الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر.
وايضاً نجد زعيم حزب الامة وامام الانصار الصادق المهدي، من محبي ومستمعي وردي، وتعامل معه فنانا وإنسانا، وزاره في مشفاه، وكان حاضراً في تشييعه.
وبعد استقلال السودان بعامين وقع انقلاب 17 نوفمبر 1958 بقيادة الراحل الفريق إبراهيم عبود، ودخل وردي إلى استوديوهات الاذاعة السودانية ليصدح بأغنية مطلعها «17 نوفمبر هبّ الشعب طرد جلاده»، التي صاغ كلماتها ولحنها وأداها بنفسه، تمجيدا لرجال حركة نوفمبر. بعدها غنى نشيد «يا ثوار إفريقيا يا صناع المجد»، من كلمات الشاعر الدبلوماسي صلاح أحمد إبراهيم، والذي تحور بعد ثورة اكتوبر إلى «يا ثوار اكتوبر»، ونشيد «يقظة شعب» للشاعر النوبي مرسي صالح سراج، وكان وقتها وزير الاستعلامات والعمل اللواء طلعت فريد، وهو أحد رجال نوفمبر يتابع عن كثب «بروفات» هذا العمل. وذات مرة طلب من الشاعر أن يحاول إدخال الفريق إبراهيم عبود في أحد مقاطع العمل، لكن وردي وشاعر الاغنية رفضا بقوة الطلب.
هكذا وردي السياسي، طغى على وردي الفنان في كثير من الاحيان، التف حوله كثير من القيادات، بعد أكتوبرياته الخالدة التي مجد فيها ثورة وثوار 21 اكتوبر ،1964 واشهرها قصيدة محمد مفتاح الفيتوري التي يقول مطلعها: «أصبح الصبح.. فلا السجن ولا السجّان باقٍ».
وردي الفنان والسياسي اتسم بالتقلب والجفوة بينه وكثير من القيادات السياسية، وظهر ذلك جليا في عهد نظام الرئيس السابق جعفر النميري (25 مايو 1969 - 6 أبريل 1985)، وعندما تفجرت ثورة مايو بقيادة العقيد نميري، أهدى وردي الانقلاب الوليد نشيد «في حكاياتنا مايو»، ومن مقاطعه التي لا تنسى «أنت يا مايو بطاقتنا التي ضاعت سنينا.. أنت يا مايو ستبقى بين أيدينا وفينا.. لم تكن حلماً ولكن كنت للشعب انتظاراً»، وسرعان ما اتبعها بنشيد آخر «يا حارسنا وفارسنا». ومجّد وردي مايو وقائدها باناشيد من قبيل: «إنت يا مايو الخلاص يا جداراً من رصاص»، و«يا مايو يا سيف الفداء المسلول.. نشق أعداءنا عرض وطول». ثم انقلب وردي على النميري، بعد انقلاب هاشم العطا (وهو احد رفقاء نميري) في عام ،1971 ليمجد الثورة التصحيحية التي عاشت ثلاثة ايام فقط، وقـد سـخر من نـميـري باغنيـة تقـول كـلماتها: «راكــب هــنتـر وعـامل عنتــر»، ولكن عاد النميري من جديد وبطش بالانقلابيين اعداماً وسجناً، ومن بينهم وردي الذي قضى قرابة العامين في السجن. وفي المعتقل أكثر وردي من المطالبة بأن يعطى (عوده)، وفي إحدى المرات رد عليه مدير جهاز الامن وقتها قائلاً: «يا محمد وردي نحن لم نقبض عليك وانت على ظهر دبابة.. قبضنا عليك بسبب هذا العود».
وحتى بعد خروجه لم يتوقف وردي عن مشاكسة قيادات مايو باغنياته الرمزية واناشيده الوطنية الملهبة للجماهير.
وقد غنى بعد اطلاق سراحه في أول لقاء جماهيري وبحضور نميري «وا أسفاي». وكان يشير إلى الصف الأول من المستمعين، بمن فيهم نميري وقادة «مايو»، في اشارة واضحة فهمها الجمهور والمعنيون من الحضور.
أيضاً على صعيد جنوب السودان كان رئيس الحركة الشعبية السابق الراحل جون قرنق دي مبيور، من أكثر القيادات السياسية الجنوبية حباً وسماعاً لوردي، فقد كان لا يكف عن المجاهرة بسماع أغانيه، وترديدها أحياناً في مجالسه الخاصة، وربطت بينه ووردي على أيام التجمع الوطني الديمقراطي المعارض في العاصمة الاريتيرية أسمرا علاقة يمكن وصفها بالصداقة، حتى ان قرنق سجل زيارة للفنان وردي خلال أيامه المعدودات التي قضاها بالخرطوم، ودعاه لزيارة الجنوب للغناء هناك، بعد توقيع اتفاقية السلام التي انتهت بانفصال الجنوب، وهو آخر احزان وردي، إذ جاهر مراراً بحسرته وأسفه لانفصال هذا الجزء الحبيب من السودان.
ايضاً هناك علاقة لا تخفى بين وردي وزعيم حزب المؤتمر الشعبي المعارض وعراب «الانقاذ» سابقاً، الدكتور حسن الترابي، إذ كان الاخير أحد حضور الحفل الذي أحياه وردي بأحد مسارح عاصمة الجنوب جوبا في التاسع من يوليو الماضي، بمناسبة حفل إعلان دولة جنوب السودان، فصعد الترابي الى خشبة المسرح، ووقف بمحاذاة وردي وهو يلوّح بكلتا يديه للجمهور. وردي صاحب نشيد «اليوم نرفع راية استقلالنا»، ونشيد «باسمك الشعب إانتصر، حائط السجن انكسر، والقيود انسدلت جدلة عرس في الأيادي»، تكاملت فيه كل المعاني الوطنية والثقافية والسياسية والعاطفية، ذلك لانه حوّل الغناء والموسيقى الى رسالة توحد ولا تفرق.
وأخيراً وردي كان ضد انفصال الجنوب وغنى في يوم اعلان الدولة الجديدة في يوليو 2011م بمدينة جوبا نشيد «أصبح الصبح» مركزاً على مقطع «أبداً ما هنت يا سوداننا يوماً علينا»، يومها بكى كثيرون بدءاً بالإمام الصادق المهدي وانتهاءً بياور (حارس) الرئيس البشير.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news