الجنود المنتحرون أكثر من قتلى الجيش الأميركي

يلقى مزيد من الجنود الأميركيين حتفهم يوماً بعد يوم، لكننا لا نتحدث هذه المرة عن موتهم في ميادين القتال وانما موتهم انتحاراً، ويموت الجنود الاميركيون بهذه الوسيلة بمعدل واحد كل يوم، أو بالأحرى أكثر مما يموتون في ميادين القتال. ويتساءل اكثر من محلل عما إذا كانت حالات الانتحار تزايدت بسبب مشاركة الجنود في حربي (العراق وأفغانستان) أم ان كبرياء الجنود وبروتوكولات الحروب منعتهم من البحث عن العلاج النفسي، أم ان هناك أسباباً أخرى.

يعترف وزير الدفاع الاميركي، ليون بانيتا في 22 من يونيو الماضي، بأن «هذه القضية (انتحار الجنود) ربما كانت التحدي الاكبر الذي واجهني منذ أن تسلمت حقيبة الدفاع»، ويضيف بانيتا «يستطيع الجيش الاميركي ان يواجه العدو، يستهدفه ويسحقه ويرسل دباباته الى عمقه، لكنه لم يستطع هزيمة وباء الانتحار وسط صفوف جنوده، فقد أصبحت المشكلة في تزايد مستمر لاسيما بعد ان وضعت الحرب أوزارها».

وتظهر التقارير أن الكثير من الجنود الاميركيين قضوا انتحارا منذ بدايات الحربين ويشكلون 10٪ من الجنود الاميركيين، وحالات الانتحار بينهم تمثل 20٪ من جملة الانتحارات في الجيش في أفغانستان، أي أكثر من الذين ماتوا في ميادين القتال هناك. وقفز معدل الانتحار ليبلغ 80٪ بين عامي 2004 و،2008 وعلى الرغم من استقراره عام 2010 فإنه عاد ليرتفع الى 18٪ هذا العام. وتجاوزت معدلات انتحار الجنود حوادث الموت الناجمة عن حوادث السيارات من بين الأسباب غير القتالية المفضية للوفاة.

ويبدو ان الاسباب المؤدية للانتحار معروفة لجميع الجنود، من بينها الضغوط الناجمة عن الحرب، وأوامر الانتشار السريع، والخيارات الوحشية، وفقدان الاصدقاء، والابتعاد عن العوائل، وهناك أيضاً جروح الحرب لاسيما الجروح النفسية، واضطرابات صدمة ما بعد القتال، كما ان معاناة الألم ورؤية الموت كل يوم تقللان من خوف الجندي منه، وتجعلاه لا يخشى الموت انتحاراً، إلا ان صدمة القتال وحدها ليست المسؤولة عن حالات الانتحار، إذ ان ما يصل تقريبا الى ثلث حالات الانتحار بين 2005 و2010 كانت بين جنود لم يذهبوا لميادين القتال، و43٪ بين جنود ذهبوا مرة واحدة، و8.5٪ بين الذين ذهبوا ثلاث مرات أو أربعاً. وتزيد احتمالات الانتحار بين الجنود اكثر من الضباط، وبين فئات المرحلة العمرية الممتدة من 18 الى 24 عاماً اكثر من كبار الجنود، وثلثا المنتحرين يستخدمون السلاح الناري في الانتحار، وواحد من كل خمسة جنود يشنقون أنفسهم، و95٪ من المنتحرين ذكور، ومعظمهم من المتزوجين.

ولم يفلح أي برنامج او مبادرة في معالجة حالات الانتحار المتزايدة بين الجنود، ولا أحد يعرف سبب فشل تلك البرامج والمبادرات. ورصدت وزارة الدفاع الاميركية ملياري دولار - 4٪ تقريباً من ميزانيتها الطبية السنوية البالغ قدرها 53 مليار دولار - للصحة النفسية. ويعتقد الجنرال بيتر تشارلي، نائب رئيس الأركان السابق ان هذه الاموال غير كافية، وان هناك قليلاً من الجنود الذين يسعون للحصول على النصح والارشاد.

إحدى النظريات تعتقد أن الاشخاص الذين يشعرون بأنهم مفيدون ومهمون وانهم ينتمون الى قضية كبيرة ويخدمونها، غالباً لا يقتلون أنفسهم، وربما يوضح ذلك السبب وراء المعدل المتدني نسبياً لحالات الانتحار وسط الجنود مقارنة بالمدنيين، إلا ان الخبراء الذين يدرسون هذا النمط من السلوك يتساءلون الآن، ما اذا كانت فترات الخدمة الطويلة في ميدان الحرب قد أضعفت تلك النزعة، فالجنود الذين تربطهم روابط قوية مع وحداتهم ويتشاركون واجبات غاية في الاهمية تظهر أمامهم المشكلات بمجرد عودتهم الى ديارهم بعد انقضاء الاعمال الروتينية والواجبات المتعلقة بالسرايا، وتزيد عزلة الجندي بعد أن يترك حياة الجندية أو بعد عودته إلى حياته العادية.

عندما يعود الجنود من مهامهم العسكرية يطلب منهم قادتهم تقديم تقييم شخصي عن خبراتهم في ميادين المعركة، ويجيب الجندي عن أسئلة مثل: هل رأوا أشخاصاً يقتلون خلال مهمتهم العسكرية؟ وهل شعروا بأنهم في خطر او أنهم على وشك الموت؟ وهل هم مهتمون بمقابلة استشاري نفساني بسبب الإحساس بالصدمة او معاقرتهم للكحول أو أي شيء من هذا القبيل؟ أحد البحوث عام 2008 كشف ان الجندي عندما يجيب عن هذه الاسئلة دون ان يذكر اسمه فإنه كثيراً ما يعبر عن شعوره بالاحباط وأنه يراوده إحساس بالانتحار.

أحد التقارير الصادرة عن مركز «نيو اميركان» الامني تحدث عن قادة رفضوا السماح بترتيب جنازة عسكرية لجنود منتحرين خوفاً من ان تشكل مثل هذه الترتيبات «تمجيدا او اعترافا بالانتحار»، وأصدرت وزارة شؤون المحاربين القدامى برامج تدريبية وخطوطاً ساخنة للامور العاجلة تطلق شعارات مثل «لا تترك جندياً وراءك»، «لا تدع رفيق سلاحك يحارب وحده». وأطلقت البنتاغون العام الماضي لعبة فيديو تساعد الجنود على استكشاف اسباب وأعراض صدمة ما بعد القتال من داخل غرفهم الخاصة.

وفي يناير الماضي أعلن الجيش الاميركي أن عدد حالات الانتحار بين جنوده وصلت إلى أربعة أضعاف ما كان عليه الحال، في الوقت الذي بلغت الزيادة في اطباء الصحة العقلية في الجيش الاميركي منذ ،2009 الى 35٪ فقط، إذ وصل عددهم إلى ما يقارب 10 آلاف، وهناك ايضا نقص في هذا الكادر الوظيفي في المؤسسات المدنية، اذ لا يستطيع الجيش تجنيد أعداد كافية من المدنيين للعمل في هذا المجال.

وفي مؤتمر عن الحيلولة دون الانتحار في الجيش الاميركي في يونيو الماضي، قال بانيتا «ينبغي أن نفعل كل شيء ممكن لنضمن ان النظام يعمل بكفاءة لمساعدة الجنود، مع عدم إخفاء الحقائق أو عدم الحكم بشكل خطأ على هذه القضية، ولكن علينا مواجهة الحقائق والتعامل مع المشكلات، وأن نتأكد من أننا وفرنا التحليل والتشخيص الصحيحين، وأننا نتبع التشخيص نفسه».

أخبريها أني أحبها

اعتقدت ليسلي ماكدون ان زوجها بدأ يعاني مرة أخرى عندما سمعته يتحدث على الهاتف مع ابنتهما ذات الثمانية أعوام «اصنعي معروفا، ضمي اليك والدتك وأخبريها بأنني احبها»، وبعد ساعات تلقت منه بريدا الكترونيا «أخبري ابنائي دائما أنني احبهم، وأرجو ألا تجعليهم أبداً يكتشفون الطريقة التي قضيت بها. أحبك كثيراً. مايك». اتصلت هاتفيا بمكتب زوجها ولكن من دون جدوى، وبعد ساعات اكتشف معاوني زوجها جثته معلقة في غرفة اتصال المستشفى الذي يعمل فيه. ليسلي تعرف زوجها جيداً، فهو طبيب جندي بالجيش الاميركي عانى الكآبة كثيراً.

 

مازلت أقاوم

 

تلقت ربيكا موريسون نبأ انتحار زوجها بشكل مفاجئ، كانت زوجة طيار يقود مقاتلة أباتشي، وتعلم جيداً المعاناة النفسية التي يقاسيها زوجها ايان، وكثيراً ما نصحته بزيارة طبيب الفرقة العسكرية أو الاتصال بالخط الساخن للبنتاغون، وفعل ذلك وانتظر في صف الانتظار 45 دقيقة، وكان آخر ما كتبه لزوجته هو «مازلت أقاوم». وفي ذلك المساء وجدته في غرفة المعيشة وقد فارق الحياة بعد ان أطلق النار على نفسه.

هناك بالطبع الكلفة البشرية والكلفة المادية، فقد كلف تعليم ماكدون وموريسون دافع الضرائب الاميركي ما يقارب مليوني دولار، وتقول ربيكا «لقد فقدت زوجي وفقدوا هم رجلاً كلف تعليمه 400 ألف دولار، والله يعلم كم فقدنا من الجنود خريجي مدرسة الطيران». ويقول الجيش الاميركي ان تدريب موريسون على الطيران كلف 700 ألف دولار. وتقول ربيكا «لقد استثمروا آلاف الدولارات على هذه الأصول، فلماذا لم يعملوا على حماية أصولهم

الأكثر مشاركة