موريتانيا.. آخــر معـاقل الاسـترقـــاق في العالم الحديث

تحاول الحكومات الموريتانية المتعاقبة محاربة ظاهرة الاسترقاق المتفشية في المجتمع، إذ حاولت إلغاء هذه الممارسات عام 1981 وفي أغسطس ،2007 ولا توجد إحصائية دقيقة لأعداد العبيد في هذا البلد الإفريقي، إلا أن بعض الإحصاءات تقدر عددهم بما يصل الى 800 ألف رجل وامرأة وطفل، ويشكلون 20٪ من عدد السكان البالغ تعدادهم 3.5 ملايين نسمة.

رحلة مباركة

هدية آدمية

بوصفه أحد أفراد الطبقات المالكة للعبيد في موريتانيا، كان بمقدور عبدالناصر ولد عثمان ان يطلب أي هدية يريدها بمناسبة ختانه، لعبة أو جملاً أو دراجة مثلاً، إلا أن الفتى البالغ من العمر سبعة اعوام في ذلك الوقت طلب امتلاك احد الاطفال في سنه، واسمه يباوا ولد كاحل، الذي يعتبر رقيقاً في العائلة. ويتذكر عبدالناصر الذي يبلغ الآن 47 عاما، قائلا «كأنما اختباري ليباوا يشبه اختياري لدمية أو شيء يسليني، واخترته بسبب القصص الكثيرة المضحكة التي اسمعها عنه، فقد كان يتحدث أثناء نومه، وتصرفاته خرقاء، وكثيراً ما تتوه عنه الحيوانات التي يرعاها في الصحراء، ويتعرض للضرب بسببها، ولهذا يصبح بالنسبة لي شخصية مسلية مملوءة بالسخرية». من الناحية الاخرى، لا يعتبر يباوا نفسه انساناً، على الاقل ليس في مستوى عبدالناصر.

عندما كان يباوا وعبدالناصر صغيرين كانا يتصرفان كالأخوين الشقيقين، إلا أن الامر اختلف عند ختانهما، فنادراً ما يشاهد الولدان بصحبة بعضهما بعضاً دون أن تؤنبهما الاسرة، وتجبر الاسرتان ابنائهما على التصرف كل حسب طبقته ووضعه.

وعندما تهطل الامطار في هضبة التقنت وسط موريتانيا يرفع العبيد، امثال يباوا، أطراف الخيام فوق رؤوس اسيادهم طوال الليل، لكي لا يبتلوا بالمياه، ويتذكر عبدالناصر سماع صوت أسنان عبيده وهي تصطك من برد الصحراء القارس، ويضحك من «موسيقى الاسنان المصطكة» خلال مزاحه مع زملائه ملاك العبيد الآخرين. ويتذكر عبدالناصر قائلاً «كانوا دائما هناك ليحمونا من مياه الامطار، ونحن غير مبالين وجاهلون».

فيما بعد أصبح عبدالناصر من اشد المعارضين لهذه الممارسات، واسس منظمة تعنى بمناهضة الظاهرة، واستطاع ان يقطع بنجاح المسافة بين الجهل والتنوير، وظلت منظمته التي ولدت تحت نجوم الصحراء تعمل وتمتد للعقد التالي، ويجزم عبدالناصر بأن أصحاب الارقاء الآخرين سيحذون حذوه.

مباركة بنت محمد جاءت إلى هذه الحياة نتاج علاقة بين والدها مالك الأرقاء ووالدتها المملوكة له كرقيق. وتعرفت الى والدها للمرة الأولى وهي في الخامسة عندما جاء لانتزاعها من أمها لتعمل لديه خادمة في منزل زوجته الشرعية. وأخبرت مباركة أحد النشطاء المناهضين للاسترقاق في موريتانيا قائلة «بما أن والدتي رقيق مملوك لوالدي، فإن زوجته تعتبرنا جميعاً ملكاً خاصاً لها، ومن الطبيعي جداً أن تفعل بنا ما تشاء».

تعيش مباركة في كوخ حقير يطل على كثبان رمال الصحراء الحارقة، ظلت تعمل في منزل والدها 15 عاماً من الفجر إلى الليل من دون أي عطلة.

وعندما بلغت سناً ينبغي فيها ان تغطي جسمها كأنثى، أجبرها مالكوها على أن تترك كتفيها مكشوفين، خلافاً للتقاليد، لكي تحمل عليهما الاحمال الثقيلة، وقادها أحد أبناء أسيادها أميالاً داخل الصحراء ليغتصبها هناك، وفي مرات أخرى كان يرسلها لجمع الحطب وعمل الشاي لدى عودتهما من الصحراء.

قصة مباركة من القصص العادية جداً في موريتانيا، إذ أصبحت هذه الدولة الإفريقية عام 1981 آخر دولة في العالم تحرم الاتجار في الرقيق وامتلاك العبيد، إلا أن الوضع استمر على ما هو عليه حتى عام 2007 عندما اعتبرته الدولة جريمة. وينفي المسؤولون وجود مثل هذا النشاط، ويمتنعون من التحدث فيه للصحافة العالمية، إلا أن النشطاء المناهضين لهذه الممارسات، والارقاء السابقين، تحدثوا عن قرون من هذه الممارسات القديمة، التي تعتبر من بقايا تجارة الرقيق العابرة للصحراء، عندما كان العرب المغاربة يجتاحون القرى الإفريقية المزدهرة في المناطق النائية من الصحراء المترامية الاطراف. ويحكم المجتمع في هذه الدولة نظام اجتماعي يختار نخبته من الأفراد ذوي البشرة البيضاء من العرب المغاربة، وتتركز الثروة في أيديهم، بينما يعيش العرب المغاربة ذوو البشرة الداكنة والأشخاص الآخرون المنحدرون من أصول إفريقية على حافة الحياة.

إلا أن من الصعب محو هذه الممارسات بسهولة في بلد يعيش نصف سكانه تقريباً على أقل من دولارين في اليوم، إذ يعمل كثير من ملاك العبيد جنباً الى جنب مع عبيدهم. وتعمل منظمات على محاربة هذه الظاهرة، مثل «الحر» و«الانعتاق» و«أنقذوا أرواح العبيد».

نظام الكون

ما يثير الدهشة هو صعوبة إقناع هؤلاء العبيد بأن لهم الحق في الحرية، لأنهم يعتقدون بأن نظام الكون الطبيعي اختارهم ليكونوا أرقاء، وكثيراً ما يتعرضون لغسل دماغ من اسيادهم بأنهم أقل من الآدميين، وأن مكانهم الطبيعي في قاع المجتمع، ولا يحق لهم سوى خدمة أسيادهم من دون مقابل.

عاش أبوبكر مسعود في منطقة وسط بين العبودية والحرية، وظل يعمل في الزراعة في مزارع اسياده، وفي يوم من الأيام طلب أحد أبناء اسياده، واسمه ايضا أبوبكر، أن يكنى أبوبكر الرقيق باسم ابي بكر العبد، حتى يستطيع الناس التفريق بين اسمه واسم سيده. يقول مسعود «عندما يتحدث الناس هنا عن العبودية فإنهم يتحدثون عن الاصفاد والسجون والتهديدات، فذلك هو الوضع الذي قاساه من نالوا حريتهم الآن»، ويضيف مسعود، الذي أسس منظمة لمناهضة الرق «يوجد لدينا اليوم نوع من العبودية لم يكن ليحلم به أصحاب المزارع الاميركيين في عهد العبودية».

بعد 13 عاماً من إلغاء الرقيق في موريتانيا بدأت هذه المنظمة تعقد اجتماعاتها السرية على سطح أحد المنازل في الليالي المقمرة في العاصمة نواكشوط، وتعرض مسعود ومساعده، وهو أحد النبلاء الموريتانيين، للمضايقة والمطاردة والسجن. وعارضت عائلة مسعود نشاط ابنها، الذي علق بالقول «تعتقد والدتي بأنها تحميني عندما تذكرني بأنني عبد، وينبغي ألا انسى وضعي».

وترسم الإحصاءات حقيقة كالحة ومزرية ومعقدة عن هذه الحالات، فقد أكد أحد القضاة الموريتانيين أن بلاده من الصعب تحسن سجلها في القريب العاجل في هذا المجال، وتجري محاكمات جادة وناجحة في هذا الخصوص، ويقول هذا القاضي إن «ثلاثة من الأطفال الهاربين من أسيادهم سمعوني في المحكمة اقول إنه ينبغي حبس أسيادهم فارتعبوا، وانخرطوا حالاً في البكاء، وغيروا فجأة أقوالهم، وادعوا بأنه يعاملهم دائماً معاملة جيدة ويطعمهم ويؤويهم جيداً وأنهم يريدون الذهاب معه».

يرفض الحرية

بعض الارقاء السابقين، واسمه مالاكا، ويبلغ من العمر 28 عاماً، ويعتني بأغنام سيده السابق في الصحراء، يقول انه لا يريد مفارقة سيده لأنه لا يستطيع ان يترك عائلته وراءه، وانه خائف ولا يستطيع العيش بمفرده، ولم ير النقود في حياته مطلقا.

ولا يمثل الهرب ضمانا للحرية، فعندما هربت مباركة من سيدها وذهبت للقاضي المحلي شهدت والدتها ضدها وضربها عمها بوحشية، وبعد اسابيع من سعيها بين المنظمات المناهضة للعبودية وجدت نفسها مشردة مرة أخرى عندما هاجمت الشرطة في ليلة إحدى هذه المنظمات التي كانت تقدم لها المأوى. وتعرض رئــيس المنـــظمة إبراهيم ولد العبيد وثلاثة آخرون للسجن، بعد أن حرقوا علناً نسخاً من نصوص كتابات دينية يتم استخدامها لتبرير الاسترقاق، ولأنهم كانوا يدعون الى توحد المغاربة والافارقة السود لمكافحة هذه الظاهرة.

وحيث إن المغاربة السود يتم استخدامهم شرطة مسلحة في الحملات التي تستهدف السكان السود، فقد احدث ذلك نوعاً من الريبة والشك بين المجموعتين لا يحتمل أن يتلاشى اثره قريبا. وتعكس الاعتقالات الروتينية وضرب المنادين بتحريم الرق في البلاد، كيف ان النخبة الحاكمة، التي استطاعت ان تنسج الاسترقاق في قلب السلطة السياسية في موريتانيا، تخشى الآن من نكسة.

وتوجد أسر في موريتانيا يصل تعداد ارقائها الى 5000 عبد «ما يعني 5000 صوت سياسي مضمون في الانتخابات»، كما يقول الناشط، توري بله. وتمثل موريتانيا قمة جبل الجليد في الاسترقاق في الصحراء، «فالعبودية موجودة في معظم دول الصحراء الافريقية، ولا يمكن اكتشاف الحالات إلا عندما يتحدث عنها الارقاء انفسهم».

وفي هذا النظام يعتني الذكور بالماشية، ويعملون في مزارع اسيادهم، بينما تنجز الإناث الأعمال المنزلية لأسر أسيادهن، وتبدأ الفتيات العمل في منازل اسيادهن في سن مبكرة، ويستمررن خلال بقية اعمارهن في جلب المياه والحطب وأعمال الطبخ وغسل الملابس والاعتناء بأطفال اسيادهن وحمل الخيام في الصحراء، ونادراً ما يسمح لهن بمغادرة المنزل، وكثيراً ما يتعرض للعنف والاغتصاب، ولا خيار لهن في من يتزوجن، وفي أي سن يتزوجن، وعندما يلدن اطفالاً يصبحون في الحال ملكاً لأسيادهن، وعلى هذا المنوال تدور الدائرة.

الأكثر مشاركة