«قرى السرطان» ضريبة باهظة للتنميـــة في الصين

تشي جينغكيانغ ليس غريباً على الموت لكنه يرتعش كلما فكر في شأن ابن شقيقه، عندما شخّص الأطباء حالة الطفل الرضيع البالغ عمره ثلاثة أشهر عام 2011 بأنه يعاني مرضاً نادراً، وكان والد الطفل حينها في البحر لصيد الأسماك، وبناء عليه نقله تشي إلى مستشفى في شنغهاي. وكان تشي يقود دراجته وحيداً ثلاث مرات أسبوعياً ماراً من أمام منشآت تصنيع المواد الكيماوية والأدوية ومحطات توليد الطاقة على طول نهر اليانغ، حيث تحصل عائلته على مياه الشرب.

تكاليف بيئية

تظل التكاليف البيئية للتنمية في معظم المدن الصينية غامضة، والتي تتمثل في هواء لا يمكن للبشر أن يستنشقوه، وكذلك ماء غير قابل للشرب، والأمر الأكثر غموضاً هو تكاليف تنظيفهما.

ومنذ بداية تسعينات القرن الماضي فوض برنامج المدينة النموذجية للحماية البيئية 76 مدينة على الأقل في شتى أنحاء الصين باعتبارها نموذجاً يحتذى في التنمية المستدامة المدنية، وتم ذلك استناداً إلى معايير محددة تتضمن المياه النظيفة، والشوارع الخالية من القمامة، والحدائق العامة الفسيحة.

وعلى الرغم من ذلك فإن الصين تظل موطناً للمئات من «القرى السرطانية». وأمضى أستاذ الجغرافيا في جامعة وسط ميسوري لي ليو المقيم في الولايات المتحدة سنوات في رسم خط بين الطرفين، ويقول «أعتقد أن معظم المدن النموذجية تحتوي على القرى المسرطنة أيضاً».

ويرى ليو في كتاب نشره أخيراً أن بحث الصين عن المدن الخضراء، أدى إلى تشكل «القرى السرطانية» على أطرافها عندما قامت حكومات البلديات بنقل المصانع إلى مناطق يكون تأثيرها البيئي غير مرئي بسهولة.

ولكن الدليل العلمي الذي يربط معدلات المرض مع تلوث المصانع يبدو مراوغاً. ويقول ليو «كيف يمكن إثبات أن مصنعاً قذراً أدى إلى إصابتك بمرض السرطان؟ إنك لن تستطيع ذلك، وبناء عليه فإن العلاقة غير مباشرة، لكن إذا رسمت خريطة لذلك فإنك ستجد العديد من العناقيد حول هذه المدن».

ولكن في أحد الأيام وصلته مكالمة تقول: «حاول الأطباء جهدهم لتحسين صحة الطفل لكن من دون جدوى، ولذلك فقد توفي». وقال تشي (24 عاماً)، وهو ينظر إلى مطحنة الورق القريبة من منزله «بالتأكيد السبب هو التلوث، ما الذي يمكن فعله؟».

ويعتبر سكان قرية يانغلينغانغ أن مكان عيشهم ليس إلا واحدة من العديد من « قرى مسرطنة»، وهي تجمعات صغيرة بالقرب من مصانع ملوثة للبيئة، حيث تزايدت معدلات الإصابة بمرض السرطان على نحو يفوق بكثير المعدل الوطني. وتشير تقديرات وسائل الإعلام الصينية والأكاديميين والمنظمات غير الحكومية إلى أن الدولة تضم نحو 459 قرية مسرطنة تنتشر في جميع الأقاليم باستثناء إقليمي قنيغاين والتيبيت الواقعين في أقصى الغرب.

صمت حكومي 

ويبدو أن حالات جديدة تظهر بصورة شهرية، وتذكر كل منها بأن النمو الاقتصادي في الصين خلال العقود الثلاثة الماضية  حمل معه تكاليف بشرية فادحة. وعلى الرغم من أن يانغلينغانغ قرية صغيرة لا يزيد عدد سكانها على مئات عدة من الاشخاص فإن 11 شخصاً توفوا بسبب السرطان منذ العام 2003. ويعاني ليو، وهو جار تشي سرطان المريء، وجارته وانغ جينلان توفيت بسرطان الثدي عام 2010، وفي العام الماضي توفيت صديقة زوجته بسرطان المعدة.

وفي فبراير الماضي ذكرت وزارة حماية البيئة في تقرير «قرى السرطان» في خطتها الخمسية الأخيرة، وهو الاعتراف الوحيد على مستوى الوزارة في هذه القضية منذ أن تم الحديث عنها عام 1998. واعتبرت المنظمات غير الحكومية والناشطون التقرير خطوة مهمة جداً نحو الحصول على شفافية بيئية، ولكن المقابلات التي أجريت في ثلاث من «قرى السرطان» في اثنين من الأقاليم كشفت أن العديد من السلطات المركزية والمحلية تواصل التعامل مع القضية تماماً كما هي الحال منذ البداية، أي بالإنكار والترهيب والصمت. وقال نائب رئيس السجل الوطني للسرطان في الصين تشين وانكينغ، إن اعتراف وزارة البيئة كان خطأ، فقد تعرضت للتوبيخ.

ونظم مسؤولو الصحة والبيئة اجتماعاً مشتركاً خلال المؤتمر الشعبي الوطني في مارس الماضي لإنكار تقرير وزارة البيئة. وقال وانكينغ «إنها قضية طبية ولا يمكن أن يعترف بها أي طرف خارج وزارة الصحة، لقد كان اعتراف وزارة البيئة غير صحيح، أو غير ملائم».

ولكن العلاقة بين التلوث وسوء الوضع الصحي راسخة، فقد ارتفعت نسبة الوفيات بسبب مرض السرطان في الصين بنسبة 80% خلال العقود الثلاثة الماضية، بحيث أصبح السرطان السبب الرئيس للوفيات في الصين. ويعتبر التلوث بالمواد السامة المشتبه فيه الرئيس لحدوث أمراض السرطان في المدن، أما في القرى فإنها المياه. ويعتبر 70% من مياه الانهار والبحيرات في الصين ملوثة، بحسب تقرير حكومي، ونصفها تقريباً يحتوي على مياه لا تصلح لأن يلمسها البشر.

ويقول الصحافي ليو ليكان المقيم في غوانجو، الذي نشر كتابا عن «قرى السرطان» ومرض السرطان الناجم عن التلوث بصورة أساسية، إن الوضع لا يتحسن.

ويضيف أنه «إذا كان السرطان يحدث نتيجة التلوث فإننا سنشهد ظهور العديد من هذه القرى».

وتفتقر قرية يانغلينغانغ لشبكة مياه الشرب العامة، وقبل أن تبني الحكومة المنطقة الصناعية في بداية العقد الماضي، كانت مياه النهر نظيفة والسمك متوافر بكثرة، لكن خلال السنوات الثماني الماضية، كانت يانغلينغانغ واقعة بين مطحنة ناين دراغون لطحن الورق، ومنشأة لتوليد الطاقة الكهربائية التي تنفث دخاناً أبيض، وتغطي المنازل بطبقة رقيقة من الرماد. وتصب مطحنة الورق ماءها الناجم عن المخلفات في نهر يانتيز مباشرة.

ويقوم القرويون بتنقية المياه بواسطة «بودرة حجر الشب» قبل شربها، لكن حتى المياه المعالجة بصورة جيدة تحمل مخلفات صناعية خفيفة، ويقول تشي «كل شخص هنا يحمل شكلاً من أشكال المرض».

وعلى الرغم من الأدلة الغزيرة والمستقاة مما يرويه الصينيون عن «قرى السرطان»، فإن الإثباتات تظل مراوغة. وعندما زارت الناشطة لحماية نظافة البيئة في شرق آسيا واو يتشيو، يانغلينغانغ للمرة الأولى عام  2010 افترضت أن تأسيس علاقة سببية بين التلوث ومشكلات السرطان مقبول بصورة مباشرة، إذ إن تعداد سكان هذه القرى قليل، والمرض منتشر، إذاً التلوث هو السبب. وقالت «لا يمكن تخيل أن تتأثر صحة هؤلاء السكان بالمياه الملوثة».

وفيات

وعلى بعد 140 ميلاً إلى الجنوب من قرية يانغلينغانغ، وفي ضاحية هانغجو الفسيحة أمضت وي دونغيانغ عقدين من الزمن وهي تحاول إثبات الصلة بين التلوث والسرطان. وساد التلوث في قرية وولي التي يبلغ تعداد سكانها 2000 نسمة، ومنذ أن افتتحت منطقة نانيانغ الصناعية أبوابها عام 1992، نجم عن ذلك تغطية مواردها المائية بخطوط سوداء ورغوة بيضاء كالصابون.

وفي الفترة ما بين 1992 و2004 توفي 60 قروياً بسبب السرطان، حسبما قالت وي. وفي العام الماضي توفي ستة آخرون. وتحتفظ وي بعينات من مياه القرية الملوثة في ركن داخل منزلها المؤلف من ثلاثة طوابق، إضافة إلى أكوام من الوثائق على الرفوف. وعندما اشتكت للسلطات الوطنية المختصة في البيئة عام 2004، كانت قد رفعت عريضة للسلطات المحلية، ووعدت السلطات البلدية أن تغلق مصانع نانيانغ التي تسبب التلوث في غضون ثلاث سنوات، ومع ذلك فإن المنطقة الصناعية تواصل العمل، ولاتزال مياه قرية وولي تجري بلون أسود غالباً، وفي بعض الأيام يحمل الهواء الذي يستنشقه السكان رائحة كالتي تصدر عن حرق المخلفات.

وزار الباحثون بعد موافقة الحكومة قرية وولي، لكن معظمهم كانوا يبذلون ما بوسعهم لتكذيب ادعاءات وي التي قالت «قالوا إن عدد الوفيات لم يكن كبيراً، وأقول انتظرونا حتى يصاب أحد من عائلتكم بالسرطان، وبعد ذلك أخبروني أن معدل الوفيات ليس كبيراً». وأجرى الباحثون اختباراً على المياه، لكنهم رفضوا الاعلان عن نتائج الاختبارات، وبعد أن تلقت وولي اهتماماً جارفاً من وسائل الإعلام، هددت السلطات المحلية السكان بنتائج غير محددة على صراحتهم.

ويقول الخبراء إنه نظراً إلى أن المقاطعات الصينية الموسرة أكثر تطوراً من الناحية البيئية، فإن المسؤولين غالباً ما يقومون بنقل المصانع المثيرة للتلوث إلى المقاطعات الغربية الأكثر فقراً، حيث لا يتم هناك كشف تأثيراتها السيئة على البيئة. وكتب الاستاذ في جامعة ميسوري لي ليو في تقريره: ستواصل الصناعات التي تسبب التلوث تنقلها نحو وسط الصين، في الوقت الذي تتبنى مقاطعات هذه المنطقة استراتيجية النمو أولاً من أجل التنمية.

وثمة قرى أخرى أمثال دونسينغ في مقاطعة جيانغسو، التي تبعد أربع ساعات بالسيارة عن يانغلينغانغ، يتم تركها لتحل مشكلاتها بنفسها، وعلى الرغم من أن منشأة يولونغ الكيماوية، التي يتشكك القرويون وكذلك الدراسات الأكاديمية في أنها مسؤولة عن إصابة 100 شخص من سكان المنطقة بالسرطان في الفترة ما بين عامي 2000 و2005 في حالة مهجورة الآن، فإن تأثيرها على السكان سيمتد إلى عقود مقبلة.

وينام القرويون وهم يغطون أفواههم وأنوفهم بمناشف مرطبة بالماء، خوفاً من استنشاق الأبخرة السامة، وتكون رائحة الهواء في المدرسة الابتدائية التي تبعد عن المصنع بضع مئات من الأمتار فاسدة جداً لدرجة أن معظم القرويين ينقلون أبناءهم إلى مدارس في القرى المجاورة. وقرر أربعة من القرويين مقاضاة المصنع، فاتجهوا إلى أقرب مدينة كبيرة، لكن من دون جدوى. في العام الماضي لقي اثنان منهم مصرعهما في حادث سيارة، والآن يقبع أحد الاثنين الآخرين في منزله وهو يعاني مرض القلب، وتبدو عيناه حمراوين، ووجهه شاحباً، وهو يقول إن تقديم العرائض لا يفضي إلى شيء. وأنكر مكتب البيئة الوطني أن معدل الإصابة بمرض السرطان هو السبب، ولذلك فإن المحكمة رفضت الاستماع إلى شكوى القرويين.

وفي عام 2010 تم إغلاق المصنع من دون تقديم أية أسباب. وأصبح محصولا الحنطة والأرز اللذان كانت الأسواق ترفض شراءهما، قابلين للبيع مرة أخرى. وقبل القرويون بالأمر الواقع، لأنه في نهاية المطاف لم يبق أمامهم أية خيارات. ويقول أحد مزارعي دونسينغ «مهما أكثرنا من الحديث عما يجري فإنهم لن يقدموا لنا أي تعويض».


 



 

الأكثر مشاركة