الدكتاتور حبري يدفع ثمن جرائمه بعد 25 عاماً على الإطاحة بحكمه

كان أربعة من حراس السجن يجرّون المتهم الذي كان يرتدي ثوباً من القفطان الأبيض الى قاعة المحكمة، وكان يضع على رأسه لفة تغطي وجهه، ويقاوم الحراس بشراسة، ويبذل كل ما بوسعه لعدم الانصياع لإرادتهم، ويرفسهم برجليه ويصرخ فيهم، ولكنه في نهاية المطاف استسلم لإرادتهم. وبينما كان أقاربه في قاعة المحكمة يطلقون الإهانات على موظفي المحكمة، كان الحراس قد تمكنوا من إيصال المتهم، الدكتاتور التشادي السابق حسين حبري إلى مقعد الاتهام.

اعتقالسليمان

تم اعتقال سليمان في أغسطس عام 1988 من قبل المخابرات السرية التشادية، ووجهت إليه تهمة التآمر على حبري، وتم إرساله في نهاية المطاف إلى أربعة سجون مختلفة لمدة عامين ونصف العام. وأوصله المرض في بعض الأحيان الى حافة الموت، حيث عانى الملاريا وحمى الضنك، والتهاب الكبد، وهو يعتبر مسألة نجاته من الموت من الأعاجيب. ويقول: «كانت الزنازين التي سجنت فيها مظلمة جداً، ولم يكن بها أية نوافذ، وليست هناك مراحيض. وكنا نتمكن من الاستلقاء على الأرض فقط عندما يموت أحد السجناء»، وأشار سليمان إلى أنه في كل ليلة كان يموت سجين.

قبل نحو 25 عاماً عمد دكتاتور تشاد إلى ترويع شعبه بمباركة من إدارة الرئيس الأميركي، رونالد ريغان. ولكنه الآن يحاكم في عاصمة السنغال داكار. ويمكن أن تصبح محاكمته بمثابة حجر الزاوية في القانون الدولي الجزائي. وتم ذلك في السابع من سبتمبر الماضي في قاعة المحكمة (رقم 4) في قصر العدل بمدينة داكار. وكانت المحكمة ضد حبري، البالغ عمره 73 عاماً، بدأت في يوليو قبل أن يتم تأجيلها. وكان الرئيس التشادي السابق، الذي حكم بلاده في الفترة ما بين 1982 و1990، أحد أكثر الحكام الدكتاتوريين بشاعة في مرحلة ما بعد الاستعمار البشع في تاريخ إفريقيا. ويواجه حبري تهماً بارتكاب جرائم ضد الانسانية، اضافة إلى جرائم حرب، وتعذيب. وحسب تقديرات لجنة تقصي الحقائق التشادية فإن حبري مسؤول عن مقتل نحو 40 ألف نسمة من شعبه. وقال سليمان غوينغينغ، أحد ضحايا حبري، والذي كان يجلس في الصف الثالث بقاعة المحكمة: «الدكتاتور العظيم يبدو الآن مثل طفل وهو يرفس بقدميه»، وأضاف الرجل، الذي يبدو عليه الكثير من الرضا عن ما آلت اليه أحوال الدكتاتور المرعب، «عليه أن يدفع الآن ثمن أعماله الوحشية». وكان سليمان قد نجا من أعمال الرعب التي ارتكبها حبري بحق شعبه، ولايزال ينتظر هذه المحاكمة منذ 25 عاماً. ويأمل الآن أن يتحقق العدل بشأن الآلاف من الضحايا في نهاية المطاف.

وتمت قراءة التهم، وهي مؤلفة من 187 صفحة، وتمثل سلسلة من الأهوال التي ارتكبها الدكتاتور، بينما كان حبري يكرر صيحاته قائلاً: «اصمتوا، اخرسوا، المحاكمة غير قانونية»، ويحاول ان يقفز من مقعد الاتهام ويرفس برجليه، ولكن الحراس كانوا يجبرونه على البقاء في مقعده. وبعد نحو ساعة من الزمن، فقد الرجل العجوز طاقته. وبحلول نهاية اليوم الأول من المحاكمة كان الرجل يجلس على مقعده بلا اكتراث، وهو يحدق في المدى البعيد.

وتعتبر هذه المحاكمة التي تجري فصولها في داكار الخريف الجاري سابقة تاريخية، إذ إنه للمرة الاولى يتم محاكمة دكتاتور إفريقي في دولة افريقية، بعد ان أعطى الاتحاد الإفريقي مباركته لهذه المحاكمة الخاصة. لقد كان قراراً لم يتوقعه أحد. إذ إن الاتحاد وفي نهاية المطاف يعج بالعديد من الأنظمة الدكتاتورية، وإن حكامها معرّضون لخطر المساءلة والمحاكمة.

وإضافة إلى ذلك فإن العلاقة بين العديد من الدول الافريقية مع محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، تضررت باستمرار، إذ إن الدول الافريقية تعتبر هذه المحكمة مؤسسة عنصرية للغرب مخصصة فقط للأفارقة. ورفض رؤساء، تعتبرهم المحكمة مجرمين، أمثال الرئيس الكيني، اوهورو كينياتا، التعاون مع المحكمة الدولية، وفي شهر يونيو الماضي رفضت حكومة جنوب افريقيا اعتقال الرئيس السوداني، عمر البشير، وهو مطلوب لمحكمة الجنايات الدولية منذ سنوات عدة، التي تتهمه بالإبادة الجماعية في دارفور.

ولكن هذه المحكمة الدولية ليست لها سلطة قانونية على الجرائم المرتكبة في تشاد. وهذه المحكمة لم تبدأ عملها حتى عام 2002، أي بعد وقوع المجازر في تشاد. ولهذا السبب قرر الاتحاد الأوروبي أن يواصل طريقه القضائي ولكن في السنغال، أي أن الأفارقة هم من سيحاكمون الدكتاتور الإفريقي للمرة الأولى. ويمكن أن تكون هذه المحاكمة نموذجاً للدول الأخرى التي تتطلع إلى تنظيف ماضيها الإجرامي.

وفي فترة ما بعد الظهر، وبعد انتهاء مداولات المحكمة، عاد سليمان غوينغينغ الى فندقه وهو يعرج مستنداً إلى عكازه كي يتمكن من المشي، وهو يعمل محاسباً، وولد عام 1951، ولديه تسعة أطفال، كما أنه يعتبر أحد الشهود الرئيسين في محاكمة الدكتاتور.

وعند الإطاحة بالدكتاتور حبري في نوفمبر 1990 فتحت أبواب السجون. وكان سليمان شبه أعمى في حينه، ولكن مع ذلك تم اطلاق سراحه، وبدأ رحلة لجمع الأدلة، والكثير منها. وأبلغه الناجون من السجن عن العديد من أساليب التعذيب التي تعرضوا لها، مثل التسمم بعادم السيارة والصدمات الكهربائية، والاغتصاب، والإيهام بالغرق. وخلال بضعة أشهر تمكن من تسجيل 792 شهادة وخبأها في منزله. وكان لايزال خطراً عليه امتلاك مثل هذه الوثائق، لأنه في ظل الحكومة الجديدة للرئيس إدريس ديبي، الذي خلف حبري، كان هناك العديد من ممثلي النظام القديم لايزالون في أجهزة الشرطة والجيش. وفي عام 1991 خاطر علماء شبان بحياتهم لتهريب الوثائق الى خارج البلاد ليسلموها إلى منظمة دولية تعنى بحقوق الانسان. وتشكل هذه الشهادات الآن قاعدة الأدلة ضد حبري، ومع ذلك فقد مر العديد من السنوات قبل أن تبدأ محاكمة الدكتاتور.

وبعد الإطاحة بحكمه فرّ حبري الى السنغال، وبحوزته 12 مليون دولار، اخذها من البنك الوطني. وظل يعيش طيلة 23 عاماً حياة بسيطة في داكار، حيث يعيش في حي اواكام في فيلا بمنطقة الماديس التي يقطنها الأثرياء. وكان يشتري لنفسه تعاطف السياسيين والصحافيين، وأعضاء الإخوان المسلمين المتنفذين.

وكان سليمان ينظر من على شرفة فندقه إلى مدينة داكار ويقول: «الشيء الوحيد الذي جعلني اتابع محاكمة هذا الرجل هو أنني أريد العدل. ويجب أن تكون هذه المحاكمة درساً لكل الذين أجرموا بحق بلادهم في العالم»، ويتابع سليمان حديثه وهو يركز على مستمعيه «يجب أن يدرك هؤلاء الشياطين أنهم لن يعرفوا الأمن، وأنه سيتم اعتقالهم يوماً ما، وأنهم لن ينجوا بما اقترفت أيديهم من جرائم، وأنهم سيواجهون العقاب المناسب»، مضيفا أنه «لولا صديقي ريد ما كنت استطعت الوصول إلى هنا». وكان يقصد المحامي الاميركي، والناشط في حقوق الانسان، ريد برودي، 62 عاماً، الذي ظل يكافح 16 عاماً حتى أوصل حبري إلى المحكمة، حيث مر خلال هذه السنوات بأيام عصيبة، غير أنه لم يفقد الأمل وظل مواظباً ومتابعاً لقضية حبري حتى النهاية.

الأكثر مشاركة