هايتيّون يفرّون من الدومينيكـان إلى مخيّمات على الحدود

ثمة نهر يُعتبر مصدراً للحياة على الحدود الفاصلة بين هاييتي وجمهورية الدومينيكان، إذ إن مياهه القليلة الضعيفة الجريان تستخدم في الطبخ وصنع الطعام، وتطفئ ظمأ العطشى، كما أنه يساعد آلاف المهاجرين الذين انتشروا بكثافة على ضفافه ليغتسلوا من مياهه. وقدم هؤلاء من جمهورية الدومينيكان، هاربين من تهديد العنف والترحيل. ولكن النهر أصبح هذه الأيام مصدراً للموت أيضاً، إذ إن نظام الصرف الصحي البغيض أدى إلى انتشار الكوليرا في المخيمات التي يقيم فيها المهاجرون، ما يؤدي الى إصابة اللاجئين الذين وصلوا الى منطقة الحدود في الأشهر الأخيرة بالعدوى والموت السريع، حيث يبحث هؤلاء عن ملجأ لهم في هذه المنطقة.

طرد جماعي

عندما أعلنت حكومة الدومينيكان أنه يجب على جميع اللاجئين غير الشرعيين في الدولة التسجيل في شهر يونيو الماضي، خشي كثيرون إمكانية الطرد الجماعي. وأما الذين تم اعتقالهم في ما بعد، فقد جرى تجميعهم من أماكن قصية، ونقلوا في الحافلات خفية إلى المعابر الحدودية. وبالإجمال تم طرد نحو 10 آلاف شخص بصورة رسمية، إضافة إلى 10 آلاف آخرين قالوا إنه تم ترحيلهم من الدولة أيضاً، وذلك حسب المنظمة الدولية للهجرة.

ومنذ الربيع الماضي وصل إلى المخيمات المؤقتة نحو 3000 لاجئ، هاربين من الدومينيكان قسراً أو بسبب الخوف، بعد أن بدأت حكومة هذا البلد بالتقييد على المهاجرين غير الشرعيين. وعلى الرغم من أن بعض هؤلاء اللاجئين غير الشرعيين ولدوا في الدومينيكان، إلا أنهم عاجزون عن إثبات ذلك، اذ ليس لديهم وثائق تؤكد ذلك، حتى أنهم لا يستطيعون التحدث باللغة الفرنسية، أو لغة الكريول، وهما اللغتان الرئيستان في هاييتي، الأمر الذي يُظهر مدى تشدد الدومينيكان ضد الهايتيين.

ولم يفعل المسؤولون الهايتيون شيئاً لدعم هؤلاء المشردين والمضطهدين في بلادهم والدومينيكان، وينتشر السكان عبر الحدود الجنوبية الغربية التي ضربها الجفاف. ومعظم هذه المنطقة عبارة عن سهول جرداء، وتنام العائلات المؤلفة من ثمانية أشخاص في خيم مصنوعة من العصي والكرتون، ويشربون مياه النهر، ويكافحون من أجل الحصول على الطعام، وليس لديهم مراحيض أو عناية طبية.

ويوجد هؤلاء اللاجئون، الآن، الذين أصبحوا مشردين، في منطقة تقع بين دولتين تشتركان في تاريخ غارق في العداء. وتم بناء بعض المخيمات منذ عقود عدة، خلال مراحل الماضي الذي اتسم بالمتاعب والكوارث، ولكنها تعاني الهجران والإهمال منذ أمد بعيد. والآن، في دورة جديدة من العنف، تحشد الدولتان قواتهما من جديد.

وتذكّر المحنة التي يعيشها اللاجئون الهايتيون في المنطقة الحدودية بين بلدهم والدومينيكان، بالكارثة التي وقعت عام 2010، وإن على مستوى صغير، عندما وقع زلزال مدمر نجم عنه مقتل ما بين 100 الى 316 ألف نسمة، واستدعى ذلك موجة من التبرعات والمساعدات، وصلت الى مليارات عدة. وحتى اليوم، هناك نحو 60 ألف شخص لايزالون بعيدين عن بيوتهم، ويعيشون في مدن من الخيم موزعة في شتى أنحاء هاييتي.

ولكن الفرق بين الحالتين، أن الأهوال التي تحدث الآن هي من صنع الانسان، وهي نتيجة سياسات جمهورية الدومينيكان، وكذلك نظراً للّامبالاة التي تبديها الحكومة الهايتية، حتى أن السلطات في هاييتي لا تعترف رسمياً بوجود مثل هذه المخيمات. وقال ديفيد توسينت (55 عاماً)، من سكان هاييتي، إن ابنه البالغ تسع سنوات قد مات ضمن 10 أشخاص لقوا حتفهم نتيجة إصابتهم بمرض الكوليرا في المخيمات. ويقول المسؤولون إن نحو 100 شخص أصيبوا بالمرض. واضاف توسينت، وهو يرفع نفسه من على سرير صنعته له العائلة داخل الخيمة، ومغطى بقماش مهترئ: «لم أشعر بأني على ما يرام منذ أن توفي ابني». ويمضي توسينت أيامه في الخيمة، غارقاً في حزنه على ابنه. وكانت هناك رائحة نفاذة تملأ الهواء الساخن، بينما ينتشر الغبار داخل الخيمة، ويغطي كل شيء فيها. وقال توسينت بذبول واضح: «هذه ليست طريقة للعيش».

ولكن في ظل هذا المناخ من الخوف والرعب، برزت ظاهرة أكبر وأكثر تعقيداً وتجلت في إقدام عشرات الآلاف من ابناء الهايتيين على مغادرة جمهورية الدومينيكان لوحدهم، كي لا يخاطروا باحتمال ترحيلهم، بمن فيهم الذين ولدوا على أرض الدومينيكان ولا يعرفون شيئاً عن هاييتي.

ويعتبر تفضيل خيار الجوع والعيش في ظروف قذرة وبشعة في المخيمات على خطر البقاء في الدومينيكان قراراً مربكاً للهايتيين، ولكن التاريخ العنيف بين الدولتين لا يرحم. وقال العشرات من الهايتيين، إنه إثر ظهور قانون تسجيل اللاجئين غير الشرعيين بدأ جيرانهم في تخويفهم، وتهديدهم بحرق المنازل التي يعيشون فيها وسرقة حيواناتهم.

وبالنسبة للعديد من الهايتيين الذين عاشوا في جمهورية الدومينيكان كعمال منذ أجيال، فإن مثل هذه التهديدات لها أثرها الكبير في استقرار حياتهم وشعورهم بالأمان. وتبقى عملية القتل الجماعي لنحو ما بين 9000 و20 ألف هايتي بأوامر من الديكتاتور الدومينيكي رافائيل تروجيلو عام 1973، تتردد في أذهان الشيب والشبان من الهايتيين. وقال الهايتي ميلو بريفيل، 39 عاماً، الذي بنى منزلاً جديداً: «قالوا إنهم سيُسقطون القنابل على منازلنا»، وأضاف بريفيل الذي انجبت زوجته لتوها في المخيم «عندما قالوا إنهم سيقتلوننا، غادرت الدومينيكان مع عائلتي». وقال اللاجئ بيني جيميل (28 عاماً)، وشقيقاه، إن المزارعين أنفسهم، الذين كانوا يعملون معهم، هددوا بحرق منازلهم إذا لم يغادروا البلد.

ويقول بيني وشقيقاه إنهم ولدوا في جمهورية الدومينيكان، غير أنهم مثل العديد من الهايتيين من أصول دومينيكية، ليس لديهم ما يثبت ذلك، ناهيك عن انهم لا يتمتعون بالمهارة اللغوية. وهم يتحدثون الاسبانية كلغة أم، أفضل بكثير من لغة كريول، كما أن لا أحد منهم يتقن الفرنسية. ويعتبر الأشقاء الثلاثة من ضمن مجموعة من اللاجئين المشردين، ولا ينتمون إلى أي دولة، وليس لديهم أي مكان يمكنهم الذهاب اليه.

وعندما هرب جيميل بقي أطفاله مع أمهم، التي استطاعت تأمين شهادات ميلاد لأطفالها، اضافة الى وثيقة خاصة بها. وانقضت ستة اشهر منذ أن شاهد جيميل عائلته آخر مرة، وهو لا يدري متى سيراهم مرة أخرى. وقال وهو يهز رأسه: «تخيلوا أنه من المستحيل بالنسبة لي مشاهدة أطفالي، فأنا لا أنتمي الى هذا المكان».

الأكثر مشاركة