طالهم التطهير العرقي وسلب الممتلكات والاعتقالات
التـتار المســلمون فـي شـبه جـزيـــرة القرم يواجهون حياة «قاسية»
بات التعامل مع الأقليات المسلمة من أكبر اهتمامات حقوق الإنسان في القرن الحادي والعشرين. فقد شنت بكين حملة قمع ضد أقلية الإيغور المسلمة، في الصين، والتي يبلغ عدد أفرادها نحو 11 مليون نسمة، ويعيش معظمهم في شمال غرب البلاد. وتم إجبار نحو مليون منهم على الالتحاق يما يسمى معسكرات إعادة التأهيل. وفي ميانمار، تم إجبار أقلية الروهينغا المسلمة على ترك موطنها والنزوح إلى بنغلاديش، في عام 2017، بعد أن فروا من القرى المحترقة والاغتصاب والمذابح. وأُجبر نحو 750 ألفاً منهم على ترك منازلهم.
لكن في حين استقطبت كلتا المجموعتين اهتمام وسائل الإعلام العالمية، وحازت تغطيات إعلامية تستحقها، إلا أن هناك أقلية مسلمة أخرى تواجه التطهير العرقي، ولم تحظَ محنتها بالاهتمام الذي تستحقه. الأمر يتعلق بأقلية تتار شبه جزيرة القرم. في السنوات الخمس التي تلت ضم روسيا للقرم، وعزل الموانئ المربحة بعيداً عن أوكرانيا، تحطمت حياة 250 ألفاً من مسلمي التتار في القرم. حُرم التتار من العمل، ومن لغتهم، وتم حظر صحفهم وطريقة حياتهم في محاولة لإبعادهم عن شبه الجزيرة.
هذه ليست المرة الأولى التي يعاني فيها التتار الاضطهاد. تتار القرم هم شعب مسلم واجهت لغتهم وثقافتهم وتاريخهم محواً قسرياً على مدى قرون. وتعرض سكان شبه جزيرة القرم «الثمينة» منذ القرن الثالث عشر للهجوم مرة أخرى، بسبب عرقهم ودينهم، وأكثر من ذلك بسبب المياه. فالقرم محاطة بالكامل بالمياه، وتقع على البحر الأسود وبحر آزوف. ولا عجب أن المنطقة الشمالية غير الساحلية (الروسية) تتطلع إلى المنطقة طوال قرون عدة.
بدأت المشكلات أوائل سبعينات القرن السابع عشر، عندما قامت «كاثرين العظيمة» بالسيطرة على شبه جزيرة القرم، والتي كانت آنذاك جزءاً من الإمبراطورية العثمانية. وكانت تعرف باسم «خانيا القرم». هاجمت كاثرين المنطقة، واستولت على الموانئ الرئيسة، وبدأت عملية إعادة التنظيم السياسي، التي شملت استبدال الحاكم التتاري بحاكم روسي، وقامت بتوزيع الأراضي على المسؤولين الروس والنبلاء. وشجعت كاثرين تنقل الروس من الداخل إلى شبه الجزيرة، والتي كان يسكنها أكثر من ربع مليون تتاري. وشكل المسلمون نحو 85% من السكان. وفي عام 1783، ضمت روسيا شبه جزيرة القرم. وكان هذا الضم سبب الموجة الأولى من هجرة التتار. في البداية، غادر ما بين 8 و10 آلاف من التتار، معظمهم من النبلاء، إلى أماكن أخرى في الإمبراطورية العثمانية.
تهمة التحريض
في عام 1853، عندما انطلقت روسيا لتوسيع إمبراطوريتها خارج شبه جزيرة القرم، إلى نهر الدانوب، نشر العثمانيون قوة عسكرية لمنعهم. على مدار العامين المقبلين، انضمت بريطانيا وفرنسا وسردينيا إلى ما أصبح يعرف باسم حرب القرم (الحرب نفسها التي جعلت من فلورنس نايتنغيل أسطورة). خسرت روسيا ثم سعت إلى الانتقام من السكان التتاريين، الذين اتهمهم النظام القيصري بتحريض الأتراك والتعاون معهم. وفرضوا استخدام اللغة الروسية على السكان، واستبدلوا أسماء التتار، وأسماء الأماكن بأسماء روسية.
وكما يشير آلان دبليو فيشر، في كتابه «تتار القرم»، «خلال هذه الفترة، انخفض عدد سكان شبه جزيرة القرم من نحو 275 ألفاً، في 1850، إلى 194 ألفاً في 1860». هؤلاء التتار الذين ظلوا تحت الحكم الروسي لم يثقوا بحكامهم أو مواطنيهم الروس، الذين لم يخفوا طموحهم لتعزيز وتوسيع نطاق سيطرتهم.
بعد قرن تقريباً، حوّل حاكم روسي آخر انتباهه إلى شبه جزيرة القرم. كزعيم أعلى للحزب الشيوعي السوفييتي، فقد بدأ جوزيف ستالين في القضاء على المثقفين التتار. كان هؤلاء المفكرون يعملون على إحياء لغة التتار وثقافتهم والدعوة إلى تقرير المصير. وفي عام 1927، أطلق عليهم ستالين اسم «القوميين البرجوازيين»، وقاموا بجمع ما يصل إلى 40 ألفاً من التتار، وأرسلوهم إلى معسكرات العمل في سيبيريا.
هذه كانت البداية فقط، منذ 75 عاماً «من الآن، وفي 18 مايو 1944، أمر ستالين، المتحمس للسيطرة على موانئ القرم، وكذلك للسعي للانتقام من التتار الذين وقفوا مع ألمانيا، بالقيام بعمليات التطهير الوحشي لنحو ربع مليون تتاري. واقتناعاً منهم بأن الألمان يمكن أن يساعدوا في تحرير التتار، فقد تعاونوا مع النازيين لمحاربة الجيش الأحمر على الجبهة الشرقية. بعدها أطلق ستالين عملية تطهير عرقي أكثر شمولية للتتار، وقام بترحيلهم إلى آسيا الوسطى - أوزبكستان. مات نصفهم في الطريق بسبب المرض والجوع، حسب بعض التقديرات. وتمكن آلاف عدة من التتار من الفرار إلى تركيا وأوروبا. والبعض، انتهى بهم المطاف في الولايات المتحدة.
شعب مظلوم
لم يُسمح لأي منهم بالعودة حتى عام 1989، عندما اعترف الزعيم السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، بتتار القرم كشعب مظلوم تم ترحيله بشكل غير قانوني. وبحلول ذلك الوقت قضت القرم نصف قرن كجزء من أوكرانيا. وفي عام 1954، كان الزعيم السوفييتي، نيكيتا خروتشوف، يستعد للاحتفال بالذكرى السنوية 300 لتكامل أوكرانيا مع الإمبراطورية الروسية.
وبدأ التتار في العودة إلى شبه جزيرة القرم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991. وقد وجد الآلاف منهم أن وطنهم قد أُعيد توطينه بالكامل من قبل الروس. ومع ذلك، التزموا بإعادة بناء وإحياء تراث القرم التتاري، وأنشؤوا هيئة سياسية خاصة بهم، هي «مجلس». ولعبت هذه الهيئة دور سفارة التتار، وكجهة عملت على استعادة حقوق التتار وتقرير مصيرهم.
وفي فبراير 2014، اجتاحت روسيا شبه جزيرة القرم، وانتزعتها من أوكرانيا. وبدأ الروس في مضايقة التتار، خصوصاً بعد أن أجرت موسكو استفتاء في مارس 2014، وهو تصويت يهدف إلى تحديد مستقبل شبه الجزيرة (إما كجزء من الاتحاد الروسي، أو تابعة لأوكرانيا). وكان التصويت، كما لاحظت وزارة الخارجية الأميركية، مزوراً ليكون ذريعة لغزو غير قانوني وعنيف. وعارض التتار ذلك بشدة؛ وتم القبض على العديد من نشطاء التتار والصحافيين. واختفى العديد منهم؛ وتم اختطاف الناشط السياسي، رشاد أميتوف، الذي كان يقوم بحملة ضد الاستفتاء وغزو روسيا، أمام مبنى مجلس الوزراء في سيمفيروبول، عاصمة القرم. وتم العثور على جثة الناشط البالغ من العمر 39 عاماً بعد أسبوعين، وبقي اغتياله غامضاً.
لاحقاً، تم إغلاق صحف التتار ومحطات الإذاعة والتلفزيون. وتم حظر تعليم لغة القرم. وفي أبريل 2014، مُنع زعيم القرم التتار ورئيس «المجلس»، مصطفى زميليف، من الدخول إلى شبه جزيرة القرم بعد أن كان في الخارج أثناء الاستفتاء. لقد بات في المنفى منذ ذلك الحين. وفي 2016، قام الروس بحظر «المجلس»، ووصفوه بأنه تنظيم خطير ومتطرف؛ واعتقلوا منذ ذلك الحين العديد من التتار، متهمين إياهم بالتعاطف مع الإرهابيين، أو بالانتماء لجماعات متطرفة.
انتهاك واضح
يقول التتار، الذين يعيشون في الولايات المتحدة، إنهم يخشون على عائلاتهم وأصدقائهم في شبه جزيرة القرم، الذين يواجهون تمييزاً يومياً. إذ فقد الكثير منهم وظائفهم وباتوا غير قادرين على إيجاد وظائف جديدة. أصحاب الأعمال الذين يخشون رد الفعل الروسي، لا يوظفون التتار. ولقد تم اقتحام المنازل والشركات التجارية التتارية، وفي بعض الحالات، تم الاستيلاء عليها.
وأشار تقرير صادر في فبراير عن المفوض السامي لحقوق الإنسان، التابع للأمم المتحدة، إلى أن «حالة حقوق الإنسان في القرم لاتزال تتدهور، كنتيجة مباشرة لتطبيق سلطات الاتحاد الروسي قوانينها ضد سكان القرم في انتهاك واضح لاتفاقية جنيف الرابعة، وغيرها من انتهاكات القانون الإنساني الدولي».
اليوم، هناك 250 ألفاً من التتار في شبه جزيرة القرم؛ لكن بينما كان التتار في القرن الثامن عشر 80% من السكان، فإنهم يشكلون اليوم نحو 12%.
ودانت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتركيا، ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، ورفضت الاعتراف به. وصرح الحلف بأن «شبه جزيرة القرم، هي أرض أوكرانية». وفي العام الماضي، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يدعو موسكو إلى الانسحاب من الإقليم. وقامت أميركا والاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على روسيا بسبب عدوانها. ومع ذلك، كل هذه التدابير لم تغير الواقع. وبينما انتهكت روسيا القانون الدولي، لم يتخذ أي شخص إجراءً جاداً كرد فعل.
علاوة على ذلك، لم يتحرك أحد لوقف التطهير الثقافي والعرقي البطيء لتتار القرم. ولايزال الغرب ومؤسساته التي أنشئت للدفاع عن حقوق الإنسان والشعوب يتخذ موقع المتفرج غير مبالٍ بما يحدث. لقد تخلوا عن العدالة، ومعها تتار القرم.
وضع مزعج
في ديسمبر الماضي، زار زعيم القرم التتار مصطفى زميليف الرابطة الأميركية لتتار القرم في بروكلين بنيويورك، وأخبر الحشود المتجمعة من التتار، الذين أُجبر الكثير منهم على ترك وطنهم عام 1944، بأن الوضع في شبه جزيرة القرم مزعج. وقال إنه يخشى على الجيل القادم، الذي يقوم الروس بغسل أدمغتهم وإبعادهم عن ثقافة التتار ولغتهم ودينهم. في الواقع، بدأت روسيا ترميم ما يسمى مسجد خان الكبير، العام الماضي، وهو مبنى من القرن الـ 16.
مجلس محظور
اعتقلت السلطات الروسية ما لا يقل عن 23 من تتار القرم، للاشتباه في كونهم أعضاء في «جماعة محظورة»، في مارس الماضي. ودهم جهاز الأمن الفيدرالي منازل 25 من التتار القرم في سيمفيروبول، المتهمين. تسعة من المعتقلين نشطاء في حركة «تضامن القرم»، تم إيداعهم الحبس الاحتياطي بتهمة الانتماء إلى «تنظيم إرهابي»، حسبما أفاد موقع مراقبة الشرطة عبر الإنترنت. وربط أعضاء من «المجلس» المحظور، بين الغارات التي قامت بها روسيا أخيراً، والانتخابات الرئاسية الأوكرانية. ولم يتخلَّ معظم تتار القرم عن جنسيتهم الأوكرانية، والعديد منهم صوتوا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
إلى ذلك، انتقدت منظمة العفو الدولية الاعتقالات، باعتبارها استمراراً للاضطهاد «بلا هوادة» لمجتمع القرم التتاري، لمدة خمس سنوات. وقالت مدير المنظمة في أوكرانيا، أوكسانا بوكالتشوك، إن «حملة القمع الأخيرة تعد واحداً من أكبر أعمال الترهيب الوقح لمجتمع بأكمله، خلال الأشهر الأخيرة». ودعت وزارة الخارجية الأميركية روسيا إلى «إطلاق سراح هؤلاء المعتقلين، وأكثر من 70 أوكرانياً، أُدخلوا السجن ظلماً».
85 %
كانت نسبة التتار
من مجموع السكان.
40
ألف تتاري أرسلهم
ستالين إلى معسكرات
العمل في سيبيريا.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news