ديكتاتور رومانيا السابق تسبّب في مأســــاة إنسانية ضحاياها الصغار
استطاعت منظمة إنسانية، يطلق عليها «تشلدرين أون ذي ايدج» أو «أطفال على حافة الخطر»، أن تدخل رومانيا بعد سقوط الديكتاتور نيكولاي تشاوشيسكو في تسعينات القرن الماضي، لتكتشف مآسي كانت تعيش فيها دور الأطفال وأطفال الملاجئ. وعملت، من بين منظمات إنسانية غربية أخرى، على توفير الرعاية الكريمة لهؤلاء الأطفال، الذين تخلت عنهم أسرهم، وتكفلت حكومة تشاوشيسكو برعايتهم لاستخدامهم في برامجها الحكومية عندما يكبرون. اليوم أثمرت كل الجهود التي بذلتها تلك المنظمة جيلاً واعداً، يستشرف آفاق المستقبل. كثير من هؤلاء الأطفال استطاعوا أن يندمجوا في المجتمع، ويحصلوا على درجات علمية عالية، ويسهموا في نهضة البلاد.
عندما تولى تشاوشيسكو السلطة في عام 1966 وضع خططاً كبيرة للبلاد، فقد دخلت رومانيا مجال التصنيع في وقت متأخر، بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت نسبة المواليد فيها منخفضة جداً. تبنى تشاوشيسكو العقيدة الستالينية، التي صاغها الزعيم الشيوعي جوزيف ستالين، في ثلاثينيات القرن الـ20، والتي ترى أن النمو السكاني يساعد على النمو الاقتصادي. في السنة الأولى من حكمه، أصدرت حكومته المرسوم 770، الذي يحظر الإجهاض للنساء دون سن الـ40، واللاتي لديهن عدد من الأطفال أقل من أربعة. وكان يعتقد بأن «الجنين هو ملك للمجتمع بأسره»، وأعلن أن «أي شخص يتخلى عن إنجاب الأطفال إنما يتخلى عن قوانين الاستمرارية الوطنية».
وسرعان ما تضاعف معدل المواليد، ولكن تباطأ معدل الزيادة في ما بعد، بسبب لجوء النساء الرومانيات لعمليات الإجهاض غير القانونية، وغالباً ما كانت النتائج كارثية. في عام 1977، أجبر تشاوشيسكو جميع الأشخاص الذين ليس لديهم أطفال، بغض النظر عن الجنس أو الحالة الاجتماعية، على دفع ضريبة شهرية إضافية. في الثمانينات من القرن الـ20، أصبح الواقي الذكري وحبوب منع الحمل باهظة الثمن، إلا أن هذه الوسائل كانت متاحة في رومانيا، لذلك تم حظرها تماماً. وأصبحت الأمومة واجب الدولة، وفرضت الشرطة السرية والأمن أنظمة قاسية في هذا الصدد. وتعرض الأطباء الذين أجروا عمليات الإجهاض للسجن، وكانت النساء تخضعن للفحص كل ثلاثة أشهر في أماكن عملهن بحثاً عن علامات الحمل، وإذا تبين حملهن ولم يلدن لاحقاً، فقد يواجهن المحاكمة، وأصبحت الخصوبة أداة تحت سيطرة الدولة. هذه السياسة، إلى جانب الفقر في رومانيا، تعني أن المزيد والمزيد من الأطفال غير المرغوب فيهم تتخلى عنهم الأسرة لترعاهم الدولة. لا أحد يعرف تقديرات عدد الأطفال في دور الأيتام، ويقدر أن عدد الأطفال في مراكز الدولة عام 1989 وصل إلى 100 ألف، وتصاعد من هناك.
ومنذ الحرب العالمية الثانية، كان هناك نظام لمؤسسات الدولة للأطفال، ولكن بعد عام 1982، عندما أعاد تشاوشيسكو توجيه معظم الميزانية إلى سداد الدين الوطني، تعثر الاقتصاد، وساءت ظروف دور رعاية الأطفال، وظلت الكهرباء والحرارة مقطوعة فيها في كثير من الأحيان، ولم يكن هناك عدد كاف من الموظفين في هذه الدور، ولم يكن هناك ما يكفي من الطعام فيها. وفي الوقت الذي تم فيه تقييم الاحتياجات المادية، تجاهلت الحكومة احتياجات هؤلاء الأطفال العاطفية. ومنعت الحكومة الأطباء والمهنيين من الوصول إلى الدوريات والأبحاث الأجنبية، ولم تتلق الممرضات تدريباً كافياً، ونتيجة لذلك، تعرض العديد من الأطفال لفيروس نقص المناعة البشرية (إيدز)، لأنه نادراً ما يتم تعقيم الإبر الجلدية. وتم تشخيص حالات التأخر في النمو بشكل روتيني على أنها إعاقة عقلية. وانتشرت إساءة معاملة الأطفال المؤسسية، دون أن يكون هناك رادع. وفي حين أن بعض القائمين على شؤون الأطفال بذلوا قصارى جهدهم، سرق آخرون الطعام من مطابخ الأطفال.
معاملة غير إنسانية
عندما قضت الثورة على حكومة تشاوشيسكو، اكتشفت الصحافة العالمية أرخبيلاً من ملاجئ الأيتام ودور الأطفال، وصوراً مروعة، كان هناك أطفال معاقون التصقت جلودهم على عظامهم، وتم ربطهم على أسرّتهم، وأطفال صغار لا يستطيعون المشي، وآخرون مصابون بسوء التغذية محجوزون وراء قضبان معدنية، وجثث أطفال مكدسة في الطوابق السفلية. صدمت الصور الرومانيين بقدر ما صدمت بقية العالم، فقد عمدت الحكومة السابقة إلى إبعاد هؤلاء الأطفال تماماً عن بقية أفراد المجتمع.
هذا التحول الذي طرأ على الكثير من أبناء هذه الملاجئ فيما بعد، يعود الفضل في جزء كبير منه إلى منظمة «تشيلدرين أون ذي ايدج»، وهي مؤسسة خيرية أسستها سيدة الأعمال، دام أنيتا روديك. ومثلها مثل ملايين المحسنين الآخرين، تأثرت روديك بصور دور الأيتام في رومانيا، التي انتشرت في جميع أنحاء العالم في عام 1990 في أعقاب الثورة الدموية القصيرة التي أنهت حياة تشاوشيسكو وزوجته. ولايزال نحو 24 ألف طفل في رعاية المؤسسات في رومانيا، التي هي الآن عضو في الاتحاد الأوروبي، ولايزال القلق مستمراً بشأن جودة الرعاية في بعض المنازل التي تديرها الدولة، لكن دور الأطفال اليوم لا علاقة لها بالمطاحن الشيطانية التي كانت تضم 160 ألف قاصر بحلول 1990، نتيجة لسعي تشاوشيسكو الخبيث لإنتاج قوة عاملة رخيصة من أطفال لم يتمكن آباؤهم من الاحتفاظ بهم. انضمت روديك، التي توفيت قبل ثلاث سنوات، إلى الجمعيات الخيرية التي اتجهت إلى دولة الكتلة الشرقية السابقة.
وضع مزرٍ
كانت جمعية «تشيلدرين أون ذي ايدج» واحدة من بين الجمعيات التي سافرت إلى رومانيا بعد سقوط تشاوشيسكو، ولكنها بدلاً من البحث عن الأطفال في العاصمة بوخارست، اتجهت قافلتها المكونة من ثلاث شاحنات و20 متطوعاً إلى الشمال باتجاه مقاطعة إياسي، التي لاتزال حتى الآن المنطقة الأكثر فقراً في رومانيا. هناك، طلبت المجموعة أن يتم توجيهها إلى دور الأطفال الأكثر احتياجاً والأكثر عزلة. واتجهت إلى دار رعاية يطلق عليها «كازا دي كوبي»، حيث شرعت في مساعدة 600 طفل وجدتهم هناك. تتذكر بنتلي، التي كانت في القافلة الأولى: «كان الأطفال شبه عارين، يركضون في كل مكان، وينام ثلاثة أو أربعة منهم على سرير واحد، وكانت معظم ملاءات الأسرة ملوثة وملطخة بالأوساخ، وكان بعضهم يتم ربطه على القضبان، وتفوح من المكان روائح نتنة، هي مزيج من رائحة البول والعرق، كانت جيوش الذباب منتشرة في كل مكان، تجتذبها روائح البراز الذي يلطخ الجدران والأرضيات». وتمضي قائلة: «أكثر ما كان يلفت الانتباه والمضايقة هو عدم وجود أي رعاية فردية للأطفال، وللسيطرة عليهم يضربهم الموظفون، الذين يحمل العديد منهم عصيّاً لهذا الغرض». وتسترسل «عند دخولنا منطقة الحضانة، المعروفة باسم اورفانيج ون، فعلنا ما كان سيفعله أي شخص يحب الأطفال، حملناهم من أسرتهم واحتضناهم، لكنهم لم يستجيبوا لمعانقتنا، لم يعرفوا كيف، كانوا فارغين تماماً من الحب والحنان».
في عام 1994، تم إغلاق «اورفانيج ون»، وانتقل الأطفال إلى سكن جديد، تم تقسيمه إلى وحدات عائلية صغيرة، في بلدة قريبة، يطلق عليها «باسكاني». وبذل الموظفون كل جهد لكي يتمكن الأشقاء في دور الأطفال الأخرى من رؤية بعضهم بعضاً خلال المخيمات الصيفية. فيما بعد استطاع 25% من أطفال «تشلدرين أو ذي ايدج» الذهاب إلى الجامعة.
• تبنى تشاوشيسكو العقيدة الستالينية، التي صاغها الزعيم الشيوعي، جوزيف ستالين، في ثلاثينات القرن الـ20، والتي ترى أن النمو السكاني يساعد على النمو الاقتصادي.
• بعد عام 1982، عندما أعاد تشاوشيسكو توجيه معظم الميزانية إلى سداد الدَّين الوطني، تعثر الاقتصاد، وساءت ظروف دور رعاية الأطفال.
الطفلة «روكسانا» تعافت من جراحات الماضي
من بين 44 طفلاً في إحدى دور أطفال في قرية نائية في أعماق الركن الشمالي الشرقي الفقير من رومانيا، كانت هناك فتاة صغيرة ذات عيون بنية واسعة، تبلغ من العمر ثلاث سنوات، تدعى روكسانا. سلمتها والدتها عند الولادة إلى دار الأطفال، لأنها لا تستطيع إعالتها بعد أن هجرها زوجها المدمن على الكحول، وترك معها خمسة أطفال آخرين؛ كانت المرأة فقيرة للغاية، لدرجة أنها لم تستطع تحمل تكاليف إطعام وافدين جديدين، هما روكسانا وأخوها أيونوت. ومثلها مثل الآلاف من النساء الرومانيات، اللاتي شجعتهن الحكومة على ولادة خمسة أطفال على الأقل في ظل الحكم المستبد للديكتاتور الشيوعي الراحل، نيقولاي تشاوشيسكو، سلمت والدة روكسانا ابنتها إلى الدولة. بعد عقدين من الزمان، أصبحت روكسانا، التي تبلغ اليوم 23 عاماً، واثقة ومبتسمة، تتحدث ببلاغة واضحة، على عكس التوقعات، إنها دليل على أن هذه الفتاة واسعة العينين، النحاسية البشرة، قد نجت من أهوال ملاجئ الأطفال عام 1990، وعلى الرغم من كل الصعاب، ازدهرت. في فبراير المقبل، ستتخرج هذه الشابة، التي كانت حياتها ذات يوم غير مستقرة، في أقدم جامعة في رومانيا، حيث ستحصل على درجة البكالوريوس في العلاج الطبيعي، لها خزانة مليئة بالجوائز، ما يدل على قدرتها الرياضية، فهي بطلة رومانيا السابقة في رياضة الكاراتيه، ولاعبة كرة قدم.
تحدثت عن المرة الأولى التي قابلت فيها والدتها وهي في العاشرة من عمرها، تقول «كانت لاتزال فقيرة للغاية، وقد أعطاها الأخصائي الاجتماعي في دار الرعاية التي أقيم فيها بعض المال لتشتري لي كعكة، كنت سعيدة جداً لأن شخصاً ما سيشتري لي حلوى». وتصف مشاعرها حيال والدتها قائلة: «لم تكن لدي مشاعر قوية تجاه والدتي، كنت مهتمة أكثر بالكعكة، وبقدر ما كنت أشعر حيال والدتي، فإنها لم تكن بالنسبة لي سوى شخص يشتري لي الكعك، بالطبع، كنت أشعر بالضيق، وأقول: لماذا هذا يحدث لي؟ وفي النهاية أضع الذنب على والديّ». وتسترسل في ذكرياتها، قائلة «بعد بضع سنوات، سألت والدتي عن سبب تركها لي، تحدثت هي عن الفقر، وعن أبي المدمن على الكحول، ولكنني عندما أدركت كم كانت تعاني من الحديث في هذا الخصوص، قررت ألا أسألها أبداً مرة أخرى».
«روكسانا» في دار الطفولة عندما كانت صغيرة. من المصدر
يزرعون الخوف في نفوس الأطفال للسيطرة عليهم
بعد أن استطاعت الثورة الرومانية في عام 1989 أن تطيح بالشيوعيين الذين كانوا يحكمون البلاد، أنشأ دانيال روكاريانو (38 عاماً) وشباب آخرون نشأوا في دور للأيتام، جمعية تدعى «فيديري»، وهذه العبارة مأخوذة من اللغة الرومانية، وتعني «مكب القمامة». وتضغط هذه المجموعة على السلطات الرومانية للاعتراف بالجوع والبرد والضرب والإيذاء الجسدي والجنسي، ونقص الرعاية الذي كان يعاني منه ما يقدر بنصف مليون طفل في دور الأيتام الكئيبة في البلاد قبل نهاية الحرب الباردة، ويطالبون السلطات بالاعتذار عن ذلك.
يروي روكاريانو قصة تلخص جميع المآسي التي ظل يعيشها هؤلاء الأطفال، حتى بعد أن كبروا. يقول «فاجأنا المشرف الليلي في دار الأطفال، ونحن نتقاتل في غرفة النوم الخاصة بنا، وكعقوبة، أمرنا أن يضرب كل منا الآخر، كنت أنا الأول، لكنني ترددت في ضرب صديقي فلورين، لكن عندما جاء دور فلورين لم يتردد وضربني بقوة»، ويسترسل روكاريانو قائلاً: «ضربني أفضل صديق لي بكراهية شديدة، لدرجة أنني شعرت بالخوف». ويقول كان المشرفون يزرعون العنف بين الأطفال لإذلالهم والسيطرة عليهم، كان الأطفال الأكبر سناً يضربون الصغار، والمعلمون يضربون الجميع، ويفضل الموظفون ضرب الأطفال في الوجه والرأس. يقول «لقد ترك الضرب ندبات نفسية عميقة في دواخلنا حتى الآن». ونتيجة لذلك من الصعب أحياناً على روكاريانو أن ينظر إلى الناس في عينهم مباشرة. يقول «لقد تم القضاء علينا كبشر، وأصبحنا ضحايا السكوت والإذلال، تحللت شخصياتنا تماماً». ويضيف «تلك الدور كانت مذابح للنفوس»، ويختتم حديثه متسائلاً «كيف يستطيع كل هؤلاء الناس الشفاء من هذا المرض؟». ترجمة: ع.خ عن موقع «يونيسيف»
دانيال روكاريانو. عن المصدر