بهدف مساعدتهم في التغلب على العزلة والشيخوخة
مقهى في اليابان يوظف المصابـين بالخرف للتفاعل مع المجتمع
يوظف أحد المقاهي في ضاحية سينغاوا غرب طوكيو كبار السن المصابين بالخرف للعمل نادلين ليوم واحد في الشهر. وجاءت هذه الفكرة من مالك سابق للمقهى لديه أحد والديه مصاب بالخرف، وقد وافق المالك الجديد على السماح له بتأجير المساحة كل شهر باعتبارها «مقهى للمصابين بالخرف»، ويعمل المنظمون الآن مع الحكومة المحلية للتواصل مع مرضى الخرف في المنطقة.
ويعتبر المقهى مساحة آمنة، حيث يمكن للمصابين بالخرف التفاعل مع أشخاص جدد، فضلاً عن تحقيق دخل من نشاطهم وشعورهم بالحاجة إلى أشخاص يقدمون لهم الخدمة، وهو أمر أساسي لإبطاء تفاقم الخرف، وهو مرض تنكس عصبي ليس له علاج. ويقول النادل المصاب بالخرف توشيو، الذي بدأت تظهر عليه أعراض هذه الحالة منذ عامين: «إنه أمر ممتع للغاية»، ويضيف: «أشعر بأنني أصبحت أصغر سناً لمجرد وجودي هنا».
كان هذا النادل البالغ من العمر 85 عاماً حريصاً على بدء نوبة عمله، حيث رحب بالزبائن في المطعم بتحية حارة: «إيراسشيماسي» أو «مرحباً»، ولكن عندما حان وقت تلقي طلباتهم أصبحت الأمور معقدة بعض الشيء بالنسبة له.
مشى نحو الطاولة لكنه نسي قائمة الطلبات الخاصة به، ثم قدم قطعة من الكعكة بحذر شديد إلى الطاولة الخطأ. انتظر أحد العملاء 16 دقيقة للحصول على كوب من الماء بعد جلوسه عليها، لكن لم يشتكِ أحد أو يثير ضجة حول هذا الموضوع، وفي كل مرة كان الزبائن يتقبلون أخطاءه ويضحكون معه. هذه هي الطريقة التي تسير بها الأمور في مقهى «اليوم البرتقالي» في ضاحية سينغاوا، والمعروف أيضاً باسم مقهى الطلبات الخطأ.
الخرف مرض يسبب إهانات وأعباء مالية لا تنتهي، وهو ظاهرة عالمية يواجهها كل مجتمع، لكن في اليابان، أقدم مجتمع في العالم، يمثل الخرف تحدياً صحياً وطنياً مُلحاً، فنحو 30% من سكان اليابان البالغ عددهم نحو 125.7 مليون نسمة تجاوزوا الـ65 عاماً. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من ستة ملايين ياباني مصابون بالخرف، ومن المتوقع أن يرتفع العدد إلى 7.3 ملايين - أو واحد من كل خمسة أشخاص فوق سن الـ65 عاماً - بحلول عام 2025، بحسب وزارة الصحة.
وظهر هذا المفهوم للمرة الأولى في اليابان عام 2017، والآن تُبذل الجهود في جميع أنحاء البلاد لتطوير هذا المفهوم، ففي يونيو أصدرت اليابان تشريعاً يقضي بتفعيل عدد كبير من البرامج والخدمات الجديدة لمساعدة المصابين بالخرف، وهو ما وصفه رئيس الوزراء فوميو كيشيدا، بأنه مشروع وطني عاجل. وتشير تقديرات وزارة الصحة اليابانية إلى أن الجهود الاستشارية والبحثية الجديدة المتعلقة بالخرف ستكلف نحو 96 مليون دولار في عام 2024 وحده.
يعمل كازوهيكو، البالغ من العمر 65 عاماً، والذي تم تشخيص إصابته بالخرف منذ خمس سنوات، في المقهى كل شهر. أرادت زوجته أن تجد له مكاناً يستطيع من خلاله التفاعل مع الأشخاص بخلاف أولئك الذين يراهم في رعايته النهارية، وطلبت عائلة كازوهيكو تعريفه باسمه الأول حفاظاً على خصوصية العائلة. وفي وقتٍ ما كان كازوهيكو متجهاً إلى طاولة زبون للاستجابة لطلباته، لكن تفكيره تشتت عندما ارتفع الضجيج من موقع بناء مجاور للمقهى، وشرع في مغادرة المقهى والتحرك نحو الصوت، لكن العاملين بالمقهى هرعوا لإعادته مرة أخرى، وسأله أحد الزبائن: «منذ متى وأنت تعمل هنا؟»، وأضاف: «هل اليوم هو المرة الأولى لك؟»، فأجابه كازوهيكو بـ«نعم»، على الرغم من أنها لم تكن المرة الأولى له التي يعمل فيها بالمقهى. ونادراً ما يتحدث كازوهيكو عن مشاعره أو يظهرها، وعادةً لا ينظر إلى العملاء مباشرة في وجوههم، لكن في ذلك اليوم بدا مبتسماً.
كانت الابتسامة موجهة إلى تومومي أريكاوا (48 عاماً)، وابنتها ساياكا البالغة من العمر 16 عاماً، اللتين جاءتا إلى المقهى عند الظهر لتناول قطعة من كعكة الشيفون وحلوى جيلي الحمضيات. وتعمل ساياكا على مشروع بحث صيفي في المدرسة، واختارت الخرف موضوعاً لها تخليداً لذكرى جدها الذي عانى المرض لمدة أربع سنوات قبل وفاته هذا الربيع. أحضر لهما كازوهيكو طلباتهما. شكرته ساياكا وابتسمت، فابتسم أيضاً. قالت: «لقد شعرت بأنها مميزة حقاً».
وقالت أريكاوا: «هناك دائماً الكثير من الأمور الصعبة لكل من المرضى وعائلاتهم، لكن هناك لحظات تدرك فيها أنه قد جرى اتصال حقيقي بين المريض وأحد الأشخاص». وأضافت: «عندما رأيناه يبتسم بعد أن شكرناه في وقت سابق، ذكرتنا تلك اللحظات التي كنا نقضيها مع والدي، وكاد ذلك يجعلني أبكي».
ومنذ بداية أبريل يفتح مقهى الطلبات الخاطئة مرة واحدة في الشهر في وقت الغداء تقريباً، ويعمل فيه أحد مرضى الخرف نادلاً خلال ساعة واحدة، ويرتدي مئزراً برتقالياً ساطعاً، وهو اللون المرتبط برعاية مرضى الخرف. يوجد كرسي مخصص له بالقرب من المطبخ حتى يتمكن من الاستراحة بين أوقات تقديم الطلبات.
ويساعد متطوعون أصغر سناً هؤلاء النادلين من خلال وضع علامة على طلبات العملاء في نماذج الطلب، والتي تبدو بسيطة ومرمزة بالألوان، وبما أنه من الصعب على كبار السن تذكر أرقام الطاولات، يقوم طاقم المقهى بتحديدها بوضع زهرة على كل طاولة بلون مختلف.
ويريد مسؤولو المقهى مساعدة مجتمع المخرفين، من خلال إطالة سنوات نشاطهم مع القليل من التفهم والصبر من أولئك الذين يتفاعلون معهم.
وقالت يوي إيواتا، التي تساعد في إدارة المقهى: «يوجد كثيرون من كبار السن في دور رعاية المسنين أو منعزلين في منازلهم، لذلك آمل أن تمنح مبادرتنا الأشخاص المصابين بالخرف شيئاً يتطلعون إليه». وتضيف: «إذا حصل الناس على فهم أعمق لمشكلة مرضى الخرف فسيكون من السهل على الأشخاص المصابين بالخرف الخروج أيضاً والتفاعل مع المجتمع العريض».
لا يستطيع موريتا، البالغ من العمر 85 عاماً، التوقف عن الدردشة مع العملاء، وليس من المستغرب لأنه كان يعمل موظف تأمين ورئيساً لجمعية الحي الذي يعيش فيه منذ فترة طويلة، لكنه منذ عامين لم يعد يستطيع تذكر أسماء جيرانه.
وأراد الاستمرار في العمل لكن الأمر اختلط عليه، وقالت زوجته إنه في صباح يوم عمله كان يسألها كل 10 دقائق عن موعد مغادرة المنزل للعمل في المقهى، لأنه يعتقد أنه تأخر، وظل ينسى موعد دوامه، لكن حماسته للعمل لم تنقطع، ولا يتذكر الشارع المؤدي إلى المقهى، فتحضره زوجته إلى هناك وتتناول قطعة من الكعك أثناء عمله، وبمجرد وصوله يستقبل الموظفين الشباب ويمد ذراعيه لهم لكي يساعدوه على ارتداء مئزره البرتقالي ويثبتوا منديله عليه. وقالت زوجته ماساكو البالغة من العمر 80 عاماً: «إنه متحمس دائماً للمجيء إلى هنا، ويقول إن مرة واحدة في الشهر ليست كافية».
• جاءت هذه الفكرة من مالك سابق للمقهى لديه أحد والديه مصاب بالخرف.
• المقهى مساحة آمنة، حيث يمكن للمصابين بالخرف التفاعل مع أشخاص جدد، فضلاً عن تحقيق دخل من نشاطهم.
طرق مبتكرة
النقص المزمن في مقدمي الرعاية في اليابان والتكاليف المرتفعة لرعاية المسنين يجعلان البلاد بحاجة إلى إيجاد طرق مبتكرة لكي يستطيع مرضى الخرف هؤلاء مواصلة نشاطهم العقلي والجسدي لأطول فترة ممكنة، بدلاً من العزلة في المنزل أو في المستشفى، وتعتبر «مقاهي الخرف» وسيلة لسد هذه الفجوة.
مشروع يدعو آخرين إلى الاقتداء به
هذا العمل الإنساني نشأ من بنات أفكار مدير التلفزيون الياباني، شيرو أوغوني، ويقصد من ورائه تغيير المفاهيم حول الشيخوخة والضعف الإدراكي التدريجي. لقد تطلب الأمر نحو 115 ألف دولار جمعها من خلال التمويل الجماعي، ومع ذلك لن يكون من الصعب تخيل مطعم يومي مربح مبني على غرار فكر أوغوني. وخطرت له فكرة مشروعه عندما تم تقديم «زلابية» بدلاً من «البرغر» أثناء زيارته لدار رعاية المسنين. في البداية فكر في أن يطلب من المضيف إعادة الزلابية، لكنه أدرك بعد ذلك أنه كان في عالم مختلف مع مستويات مختلفة من الوظائف، بما في ذلك الأخطاء التي لا تسبب ضرراً. وتساءل: «لماذا لا يقبل فقط ما تلقاه كوسيلة لاحترام سلوك الأشخاص المسنين من حوله، وكنوع من اللطف والتواضع؟!». وقد حاول أوغوني مشاركة ما تعلمته مجموعته حتى يتمكن الآخرون من تكرار المبادرة في أماكن أخرى، (يشجع الموقع الإلكتروني للبرنامج ويقدم معلومات الاتصال لأي شخص يرغب في تبني التجربة نفسها في أي مكان آخر في العالم)، وقد ألهم ذلك مبادرات في كوريا الجنوبية وأستراليا.
يتقبلون الأخطاء برحابة صدر
خلال إحدى نوبات المطعم كان 37% من الطلبات خطأً، ولكن بعد ذلك قال 99% من العملاء إنهم سعداء بوجبتهم. وفي إحدى المناسبات جلست إحدى النادلات الشاردة الذهن مع زبائنها، وطلب نادل آخر من أحد رواد المطعم أن يتلقى الطلبات من الآخرين حول الطاولة بدلاً منه. لم ينزعج من ذلك أي شخص جاء لتناول الطعام، إذ يدرك الزبائن أنهم جاؤوا إلى هنا للاستمتاع بالخدمة التي يقدمها المخرفون، مدركين أنهم يساعدون فئة من المجتمع في التغلب على ظروفها. ويقول أوغوني إن «مشروعه لا يقتصر على كونه أكثر فهماً واحتضاناً لأولئك الذين يعانون الخرف، بل يحاول أن يُظهر كيف يمكن للناس أن يكونوا طيبين مع بعضهم بعضاً بغضّ النظر عن أوجه القصور».
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news