بلدة في جزيرة سردينيا الإيطالية بدون أطفال
في ليالي أيام السبت، تجتمع مجموعة من الأزواج، الذين تراوح أعمارهم بين العشرينات والثلاثينات، في بلدة اوريستانو الصغيرة في جزيرة سردينيا، لتناول وجبة البيتزا في معظم الأحوال. ويقول ماسيمو بيتريتو (29 عاماً)، الذي يرغب في إنشاء عائلة «العديد منا عاطلون عن العمل، ولكنْ ثمة أمر مشترك بيننا، وهو أن الجميع ليس لديه أطفال». ويعود ذلك إلى أن بيتريتو، مثل بقية أصدقائه، ليس لديه الإمكانات لإنشاء عائلة وإنجاب أطفال.
وقدم بيتريتو، الذي يحمل شهادة جامعية في الاتصالات، 30 طلباً، العام الماضي، للحصول على وظيفة الصيف الماضي، ولكن دون جدوى. وكما هي الحال مع 71% من الإيطاليين الذين يعيشون في جنوب البلاد، وتراوح أعمارهم بين 18 و35 عاماً، لايزال بيتريتو يعيش مع والديه. ويقول «من دون عمل لا تستطيع استئجار أو شراء منزل، وبالتالي لا يمكنك التفكير في إنجاب الأطفال».
وتعتبر سردينيا من أدنى مناطق الاتحاد الأوروبي من حيث معدل الخصوبة، حيث يبلغ معدل الولادات 0.95% لكل امرأة، وهي الأقل في كل إيطاليا، وأقل من نصف المعدل المطلوب لكل امرأة يحتاجها المجتمع للمحافظة على زيادة تعداده، والتي تبلغ ولادتين لكل امرأة.
وإذا لم يتغير ذلك، يتوقع المسؤولون أن ينخفض تعداد الجزيرة، البالغ 1.6 مليون نسمة، إلى النصف بحلول عام 2050. ويقول الخبير في وكالة الإحصاء الوطنية في إيطاليا، فرانسيسكو غوديو «يحتاج جنوب إيطاليا إلى المراقبة، لأنه بمثابة مختبر لما يمكن أن يحدث في ما بعد في شتى أنحاء إيطاليا، وفي أوروبا أيضاً». ويُعتبر معدل المواليد في الدولة برمته أقل عن ذي قبل، إذ انخفض معدل الخصوبة إلى 1.22 هذا العام، وفق معلومات الوكالة الوطنية للإحصاء، المنشورة الأسبوع الماضي، بعد أن كانت 1.25 في عام 2021.
وتعتبر إسبانيا الدولة الأوروبية الكبيرة الوحيدة التي تتميز بمعدل ولادات أدنى من إيطاليا، حيث تبلغ معدلات الولادة في إسبانيا 1.19 وفق ما تؤكده معلومات المديرية العامة للمفوضية الأوروبية. وبلغت الولادات في إيطاليا العام الماضي 393 ألف مولود، وهو انخفاض غير مسبوق، بعد أن كان هذا المعدل نحو مليون مولود عام 1964، ولكن الأمور تبدو أفضل في بريطانيا وويلز، حيث بلغ معدل الخصوبة 1.55 في عام 2021، وفق أحدث المعلومات الصادرة عن المكتب الوطني للإحصاء في المملكة المتحدة.
وأدت هذه الأزمة إلى دفع رئيسة الحكومة الإيطالية، جورجيا ميلوني، إلى جعل قضية زيادة الولادات سياسة حكومية أساسية، حيث وعدت بإضافة مليار يورو في الميزانية السنوية هذا الشهر لتمويل تخفيف الضرائب عن الأمهات، ولتشجيع الشركات على توظيفهن. وقالت ميلوني في شهر يونيو الماضي «الأطفال والمواليد هم الحياة والأمل، مثل البذور التي نزرعها وتنمو لتشكل غابة».
ولكن ثمة إحصائية جديدة أخرى، ربما تشير إلى أنه قد فات الأوان على مناطق جنوب إيطاليا، وكذلك جزرها، بما فيها سردينيا، لتلافي هذا الأمر، فقد كشفت الوكالة الوطنية للإحصاء في إيطاليا هذا الشهر أنه بالنظر إلى انخفاض الولادات خلال العقد المنصرم، فإن الفئة العمرية التي تراوح بين 18 و34 عاماً، التي عادة ما تنتج أكثر الولادات، انخفضت بنسبة 40% خلال الـ20 سنة الماضية.
وقال بيتريتو أن ذلك أعطى مدينة اوريستانو شعوراً مخيفاً، وأضاف «عندما نريد شراء أي شيء في إحدى ليالي السبت بعد انتهائنا من تناول البيتزا، نرى أن كل المحال قد أُغلقت، فقد أغلقت صالة البولينغ قبل ثماني سنوات، وانخفضت صالات الديسكو من ثلاث أو أربع إلى واحدة، ثمة شعور كئيب بالفراغ هنا، لقد أصبحت اوريستانو مسكناً لكبار السن».
وهذه ضربة قاصمة لمستقبل هذه البلدة التي يبلغ تعداد سكانها 30 ألف نسمة، والتي ترجع إلى العصور الوسطى، وتوجد بها كنيسة عمرها نحو 12 قرناً، وتتحدث لهجة مختلفة عن لهجة سردينيا، وهي قريبة من ساحل اروتاس، التي تتسم بلون وردي تغمره مياه شفافة، حيث يفد الزوار إليها من جميع أنحاء أوروبا.
وفي البلدات الصغيرة في جميع أنحاء جنوب إيطاليا، يشعر المرء بالهدوء والصمت، فقد فقدت ثلاثة ملايين شخص من الفئة العمرية بين 18 و34 عاماً، خلال العقدين الماضيين، وفقدت شتى أنحاء الاتحاد الأوروبي أيضاً 16.6 مليون شخص في الفئة العمرية ذاتها.
ويواجه السكان القرويون في المناطق النائية والوعرة في سردينيا خطر الانقراض، بما فيها قرية سيمستين، التي من المتوقع أن تتلاشى في غضون 10 سنوات، بعد أن تقلص تعداد سكانها من 700 في خمسينات القرن الماضي إلى 129 شخصاً في الوقت الراهن، حيث حدثت فيها آخر ولادة قبل ثماني سنوات.
وتقول عمدة القرية، انتونيلا بودا «إنها قرية جميلة، ويمكنكم أن تعيشوا حياة جميلة هنا، ولكن معظم متاجرنا أغلقت أبوابها العام الماضي، ولم اعثر على أي شخص يعيد فتحها، وأنا أكافح كي لا تختفي قرية سيمستين، ولكننا لا يمكن أن نمنع الناس من مغادرتها بحثاً عن العمل».
وأسهمت الهجرة من منطقة ميسوجورنو، في جنوب روما العاصمة، ومن صقلية، وسردينا مجتمعة، في انخفاض معدلات الولادة، ما نجم عنه انخفاض تعداد السكان الباقين في هذه المناطق، حيث غادرها نحو 34 ألفاً و500 شخص في عام 2020.
وتقول كاميلا سبيغا (29 عاماً)، خطيبة بيتريتو في اوريستانو، إنها ستكون سعيدة لأن يكون لديها عائلة وتنجب طفلين، ولكن مبلغ الألف يورو التي تحصل عليها شهرياً من العمل في ترتيب الرفوف في أحد متاجر المواد الغذائية قليل للغاية، ولا يمكن أن يغطي تكاليف إنجاب الأطفال. وقالت «أجريت مقابلات للعمل في أماكن أخرى عدة، ولكنهم جميعاً يسألونني: هل ستنجبين أطفالاً؟». وتضيف «يقولون إنني يمكن أن أكون أفضل عاملة في العالم، ولكنهم لن يقبلوك إذا كان جوابك بالإيجاب». وتختتم بقولها «نحن بحاجة إلى راتبين كل منها 1500 يورو شهرياً كي نتمكن من إنشاء عائلة وإنجاب أطفال، وإلا فإننا سنضطر بدلاً عن ذلك لاقتناء كلب أو قطة».
ومن المفارقات العجيبة، أنه عندما كان الإيطاليون فقراء في القرن الماضي، كان لديهم عدد من الأطفال أكبر مما لديهم الآن. ولطالما كانوا ينظرون إلى الأطفال باعتبارهم قوة عاملة مفيدة لمساعدة العائلة في التغلب على مصاعب الحياة، خصوصاً عندما يكون الأبوان كبيرين في السن، ولا يستطيعان العمل في الحقول. وقالت سبيغا «لقد كانت أمي واحدة من 10 أطفال، كانت العائلة تحتاجهم من أجل المساعدة في أعمال الزراعة في مزرعة العائلة، وعلى الرغم من أنها أصبحت عاملة نظافة إلا أنها أنجبت طفلين».
• الأزمة دفعت رئيسة الحكومة الإيطالية، جورجينا ميلوني، إلى جعل قضية زيادة الولادات سياسة حكومية أساسية، حيث وعدت بإضافة مليار يورو في الميزانية السنوية هذا الشهر لتمويل تخفيف الضرائب عن الأمهات، ولتشجيع الشركات على توظيفهن.
• من المفارقات العجيبة أنه عندما كان الإيطاليون فقراء في القرن الماضي، كان لديهم عدد من الأطفال أكبر مما لديهم الآن. ولطالما كانوا ينظرون إلى الأطفال باعتبارهم قوة عاملة مفيدة لمساعدة العائلة في التغلب على مصاعب الحياة.
تدني معدل المواليد ليس قدر إيطاليا
خلال جهودها المبذولة لرفع معدلات الولادات، ظهرت رئيسة الحكومة الإيطالية، جورجيا ميلوني، مع البابا فرنسيس في مؤتمر صحافي، في مايو الماضي، وكان كلاهما يرتدي الأبيض، لحث الإيطاليين على الإنجاب. ويعارض النقاد إقحام ميلوني أيديولوجيتها اليمينية المتشددة في هذا الجدل. وألقت باللوم على برامج التلفزيون، لأنها لا تروج لوحدة العائلة التقليدية، التي تعتقد ميلوني بأنها جوهرية بالنسبة للتقاليد والهوية الإيطالية. وتقول إن أي محاولة لإضعاف العائلة، يعتبر جزءاً من مؤامرة لجعل الإيطاليين يخسرون هويتهم.
والتزمت الصمت في ما يتعلق بهذه القضية منذ أن وصلت إلى منصب رئاسة الحكومة في إيطاليا، العام الماضي، ولكنها تحدثت في المؤتمر الصحافي، الذي عقد في سبتمبر الماضي، حول معدلات الولادة في بودابست، قائلة «من دون الهوية، فإننا مجرد أرقام، أرقام غير واعية، وأدوات بأيدي أولئك الذين يريدون استغلالنا».
إلا أن دفاع ميلوني الشديد عن العائلة تلقى ضربة قاصمة في الـ20 من أكتوبر، عندما أعلنت أنها ستتخلى عن شريكها ووالد ابنتها أندريا جيامبرونو، بعد خلاف معه. وتعتقد أن جلب مزيد من المهاجرين، الذين يستطيعون دفع الضرائب، ويغطون فاتورة التقاعد المتزايدة، ليس حلاً ناجعاً. وقالت في مؤتمر بودابست «علينا إنجاب مزيد من الأطفال بدلاً من الاعتياد على فكرة أن انحدار تعداد المواليد هو قدرنا في إيطاليا».
وفي مدينة كاغلياري، عاصمة جزيرة سردينيا، قررت السلطات المحلية أن الطريقة الوحيدة لضمان بقاء سكان سردينيا في مدينتهم ليس طريق تخفيض الضرائب الذي اقترحته ميلوني، وإنما تقديم الهبات المالية بصورة مباشرة لتغطية التكاليف، وهذا يعني تقديم 600 يورو سنوياً عن كل طفل، ودعم مالي للأشخاص الذين يشترون عقاراً أو يرممون العقارات في البلدات والمدن الصغيرة، و20 ألف يورو كمنحة للشركات الفتية. وقال مكتب الحاكم المحلي في كاغلياري «نحن الآن ندفع تكاليف الحضانة للأطفال».
• رئيسة الحكومة ميلوني ألقت باللوم على برامج التلفزيون، لأنها لا تروج لوحدة العائلة التقليدية، التي تعتقد بأنها جوهرية بالنسبة للتقاليد والهوية الإيطالية.
مقاومة الانقراض
ينظر الآن سكان المدن إلى الأطفال في هذه الأيام باعتبارهم مجرد تكاليف بلا عوائد، وليسوا استثماراً، حيث يتعين عليهم تأمين فواتير الملابس والتعليم، وهذا يمكن أن يحدث فرقاً بالنسبة لأصغر قرى سردينيا، وهي باراديلي، الواقعة داخل اوريستانو، حيث انخفض تعداد سكانها إلى 78 شخصاً، بعد أن كان 125 قبل بضع سنوات. وقالت عمدة القرية، ماريا انا كاميدا (51 عاماً): «كنا على وشك أن نختفي بحلول عام 2025، ولكننا نقاوم، ويبدو أننا لن ننقرض حتى عام 2050».
وكانت قرية باراديلي ذات يوم مركزاً لإنتاج القمح، والشعير، والعنب، وكذلك زراعة اللوز، ولكن تم إغلاق مدرستها في ثمانينات القرن الماضي. وقالت كاميدا إن «إدارة قرية كهذه يمكن أن تكون محبطة عندما يتضح أنه ليس هناك أي سياسة معقولة يمكن أن توقف تناقص السكان، والأمر لا يتعلق بنا، إذ إننا كنا أول من عاش في هذه القرية»، وتضيف «ولكن العيش هنا يمكن أن يكون رائعاً، ونحن لن نستسلم».